فيلم عين النسا: العصيان الجنسي

29/07/2019
1169 wörter

عبر التاريخ عرف التمرد النسوي عدة أشكال ومن بين هذه الأشكال الإضراب عن الجنس.

''نديرو الاضراب على النعاس''-سنقوم بإضراب عن النوم- بدارجة مغربية تنطق ليلى البطلة هذه العبارة في الدقيقة الرابعة عشرة من عمر الفيلم وهي تستمع إلى ضحكات النساء في الحمام غير مباليات بما حدث لإحداهن التي فقدت جنينها للتو عندما انزلقت قدمها بينما كانت تنزل من الجبل حاملة الماء. العبارة ستثير دهشة النساء واعتراضهن خوفًا من ردة فعل أزواجهن، لكن صدى هذه العبارة سيستمر حتى نهاية الفيلم.

"عين النسا" أو "المصدر" أو "ماء و حب"(2011)، كلها ترجمات لعنوان الفيلم الفرنسي-البلجيكي "La Source des femmes" الذي يروي لمدة 135 دقيقة قصة نساء في قرية نواحي مراكش بالمغرب يعانين في صمت من كثرة الأعباء الملقاة على عاتقهن، فيقرّرن باقتراح من البطلة ليلى (تؤدي الدور الممثلة الفرنسية الجزائرية ليلى بختي) القيام بعصيان جنسي بالامتناع عن ممارسة الجنس مع أزواجهن، بهدف الضغط عليهم للاستجابة لمطلبهن بجلب المياه. سيناريو الفيلم الذي كتبه وأخرجه الفرنسي-الروماني رادو ميهالينو مقتبس عن قصة حقيقية وقعت سنة 2001 في قرية تركية قامت نساؤها بالإضراب عن ممارسة الجنس لإرغام الرجال على جلب المياه من النبع في قمة الجبل، وقد لاقى الفيلم عند عرضه في قاعات السينما بفرنسا في الثاني من نوفمبر سنة 2011 استحسانًا لنجاحه في تصوير قضية حساسة في المجتمع.

عبر التاريخ عرف التمرد النسوي عدة أشكال ومن بين هذه الأشكال الإضراب عن الجنس. ظهر هذا الشكل من التمرد لأوّل مرّة في عمل المسرحي الإغريقي أريستوفان في مسرحيته المعادية للحرب بنكهة كوميدية "ليسيستراتا" التي تمتنع فيها النساء عن ممارسة الجنس مع أزواجهن كنوع من العصيان السلمي لإنهاء الحرب البيلوبونيسية. وعرف التاريخ الحديث أيضًا عدة إضرابات عن الجنس قادتها النساء في مختلف أنحاء العالم سواء في أفريقيا أو أمريكا اللاتينية أو آسيا، لكن بعضًا من هذه الإضرابات فقط استطاعت أن تُحدث فرقًا في المجتمعات التي حدثت بها ونجحت في تحقيق أهدافها السياسية أو الاجتماعية، كما حدث في ليبيريا سنة 2003 بقيادة الناشطة ليما غبوي التي دعت لإضراب عن ممارسة الجنس لإنهاء الحرب الأهلية، وفي كولومبيا سنة 2006 على يد شريكات رجال العصابات اللواتي أعلن عن إضراب لعشرة أيام في منطقة بيريرا للتخفيض من وتيرة جرائم القتل، وفي الفلبين سنة 2011 بزعامة نسوة جزيرة مينداناو لإعادة السلم الى شوارع الجزيرة التي كانت تعيش اقتتالا داخليًا ليستطعن الوصول إلى محلاّتهن التجارية بسلام.

يدور فيلم عين النسا لمدة تجاوِز الساعتين في قالب درامي يصوّر تفاصيل الحياة اليومية لمجموعة من النساء من أعمار مختلفة يعشن نفس المعاناة والمتاعب وكيف يحاولن التمرد على السلطة الذكورية في قرية من قرى الأطلس بالمغرب. ويسلّط الفيلم الضوء تحديدًا على عائلة سامي التي تنتمي لها ليلى بطلة الفيلم. ليلى التي يصورها الفيلم امرأة تخيف رجال القرية بأفكارها وقدرتها على إقناع زوجاتهم بالإضراب عن المعاشرة الزوجية، هي نفسها ليلى التي يجب أن تتحمل معاداة والدة سامي لها -التي تلعب دورها الممثلة هيام عباس- والتي لا تتردد في وصف ليلى بـ 'الجنية' عندما تطلب من ابنها أن يتخلى عنها ويتزوج بامرأة أخرى من قريته، لكن سامي -الذي يلعب دوره الممثل الفلسطيني صالح بكري- لا يهتم لما يسمعه عنها في المقهى أو على لسان أمه ويجيب عندما تسأله ليلى: ''واش كتبغيني؟''-هل تحبني-، ''أنت هي أميرتي''. إلى جانب أفراد عائلة سامي، تظهر في الفيلم شخصيات أخرى تؤدي أدوارًا أغنت فكرة الفيلم كدور أم نسيم الذي قامت بتأديته الممثلة باية بوزار، من خلال حرصها على تقديم الدعم المعنوي لليلى لإقناع الرجال بجلب المياه بدل النساء.

تُعد المتعة الجنسية في المجتمعات الذكورية متعة مقدسة لا يحق للنساء سلبها من الرجال خاصة في المجتمعات القروية التي ماتزال تضع المرأة في مرتبة أدنى من الرجل. لذلك عندما اقترحت ليلى على نساء قريتها الصغيرة فكرة العصيان الجنسي كانت تعرف أن إقناعهن صعب في البداية بسبب خوفهن من العواقب المتوقعة. يظهر هذا عندما تجيب إحداهن ليلى على اقتراحها بالإضراب، ''أنت راجلك تيبغيك'' أي أن زوجك يحبك، وهي تقصد أنه لن يعاقبك إذا ما امتنعت عن ممارسة الجنس معه. برغم الخوف، كان شعور هاتي النساء بالإنهاك الجسدي والنفسي أقوى بكثير. تحمّل مشقة الصعود اليومي إلى الجبل لملء الماء وحمله نزولا إلى القرية والإجهاضات المتكررة التي يتعرضن لها بلغت حدًّا لا يمكن تحمله حتى وصل الأمر بإحداهن للإجهاض خمس مرات. كل هذه العوامل جعلتهن يقبلن باقتراح ليلى بعد أن اقتنعن أنه السلاح الوحيد الذي يستطعن استخدامه ضد الرجال، وبعد فشل جميع الطرق السلمية الأخرى كترديد أغانٍ كلماتها منسوجة حول مشكل الماء ومعاناتهن بسببه على إيقاع رقصات فلكلورية أمازيغية.

تُعد المتعة الجنسية في المجتمعات الذكورية متعة مقدسة لا يحق للنساء سلبها

تعيش النساء في الفيلم أثناء النهار روتينا يوميًا: في النهار أشغال داخل البيت وخارجه بالإضافة إلى الاهتمام بالأطفال، أما أثناء الليل فيتعرضن للتعنيف بسبب قرارهن بالعصيان الجنسي. يصور الفيلم لقطة يقوم فيها أحد الأزواج باغتصاب زوجته بعد أن أصرت على رفض ممارسة الجنس معه ممسكًا على فمها وهي تحاول الصراخ لإيقاظ أطفالها الذين ينامون معها في نفس الغرفة لعل زوجها يخجل ويتراجع عن فعلته. في لقطة أخرى تظهر ليلى وزوجها سامي مستلقيين في السرير حزينيين بسبب صوت بكاء وصراخ زوجة أخ سامي التي تتعرض للضرب على يد زوجها محمد في الغرفة المجاورة. هذه اللقطات جاءت لتبرر الخوف الأولي لدى النساء عندما سمعن اقتراح ليلى لأول مرة، كُنّ يدركن جيدًا مدى أهمية تلبية الغريزة الجنسية للرجل، لكن هذه العواقب لم تحدّ من عزيمتهن بالاستمرار في الإضراب حتى تأتي المياه إلى القرية.

تظهر في الفيلم لاحقًا السلطة الدينية التي التجأ إليها رجال القرية للدفع بالنساء إلى التراجع عن إضرابهن وذلك بجعل فقيه القرية يستدعيهن لتذكيرهن أن إضرابهن عن المعاشرة الجنسية فعلٌ محرّم في الدين الإسلامي، مستشهدًا بآية من سورة النساء تعلّل الضرب الذي يتعرضن له بسبب نشوزهن. لكن ليلى التي قبلت دعوة الفقيه إلى جانب أم نسيم ولبنى وأخريات أجابته بما علّمها إياه زوجها المعلّم من آيات قرآنية وأحاديث نبوية تعتبر المرأة مساوية للرجل أمام الله بالتقوى وأنهن لسن أقل منه ليتحكّم فيهن خاصة وأن مطلبهن الوحيد هو الإتيان بالمياه بعد أن عانين من تبعات الصعود الى العين في الجبل والنزول منه.

في المقطع الأخير من الفيلم يظهر سفيان الذي تقمّص شخصيته الممثل المغربي مالك أخميس. سفيان باحث يكتب عن الحشرات المتناهية الصغر ويقيم أثناء زيارته للقرية في بيت كريم. تسمع عنه نساء القرية ويرسلن ليلى للتحدث معه كي يساعدهنّ في معركتهن. لكن المفاجأة التي تنتظر ليلى هي أن هذا الكاتب الغريب هو نفسه حبيبها السابق الذي تركها ليتزوج بأخرى، ومجيئه للقرية كان من أجل لقائها، الأمر الذي سيؤثر على علاقة ليلى بسامي بعد أن تخبره بأنها كانت على علاقة بسفيان قبل أن يهجرها.

يعتبر سامي أنها لطخت شرفه بعلاقتها بسفيان قبل الزواج ما سيجعله يفقد صوابه ويقصد سفيان لغسل شرفه بقتله. لكن الحديث الذي يدور بينهما يُثني سامي عن مقصده، بل وتتحوّل العداوة إلى تعاون من أجل حلّ مشكلة الماء. يكتب سفيان مقالة عن العصيان الجنسي في القرية وأسبابه وتبعاته ويأتي الردّ عليها من طرف السلطات سريعًا، إذ ستقوم بمد القرية بالماء وحلّ مشكلة نساء أنهكهنّ الصعود يوميًا إلى العين في الجبل والنزول مُثقلات.

صنع المخرج نهاية وكأنها سعيدة لفيلم بدأ بمشهد حزين، إذ تظهر ليلى في النهاية في مشهد حميمي مع زوجها سامي على السرير معلنة بذلك إنهاء النساء عصيانهنّ الجنسي بعد تحقيق مطلبهنّ. وقد يبدو من النهاية أن الحراك النسوي انتصر على الذكورية، لكن هذا الحراك الذي قادته النساء لم يكن ممكنًا أن ينتصر لولا تدخل سفيان الذي أتى للبحث عن حبه الأول. في هذا الفيلم نشاهد نفس الصورة النمطية التي تُصوّر الرجل كعنصر ضروري لربح أي معركة في الحياة، هذه الصورة التي تعكس السلطة الذكورية في مجتمعاتنا التي يُعاد إنتاجها من خلال التربية ومن خلال مؤسسات عدة تعليمية وسياسية وفنية، وهذا ما يجب أن ينتهي من أجل صنع نهايات سعيدة حقيقية.