رحلتي مع المرض والحب

22/03/2020
1144 wörter

الكلمات والجمل القادمة تعبير عن تجربة مررت بها ونجوت أو نجا الجزء الأكبر مني على الأقل، وأتمنى أن أنجح في مهمة تحويل مشاعري وتجاربي إلى كلمات تعبر عنها بصدق ودون ابتذال. أكتب في محاولة للقول أن الأمور مهما ساءت نستطيع التكيف معها، علينا فقط محاولة الإجابة عن الأسئلة أو طرح الأسئلة والتحرك نحوها.

استيقظت ذات صباح في منتصف سنة 2017 وقد فقدت الشعور بجسدي. لم أعد أستطيع تحريكه وكانت يداي ورأسي هما فقط ما أستطيع تحريكهما. اكتشفت لاحقًا أنني أصبت بمرض التصلب العصبي المتعدد أو ما يعرف اختصارًا بـ MS. مرض مناعي نادر ينتج عنه خلل في جهاز المناعة الذي بدوره يهاجم الجهاز العصبي ويتنج شللاً مؤقتًا أو دائمًا، وقد يتسبب بعمى مؤقت أو دائم على حسب حجم الضرر، إلى جانب أعراض أخرى منها صعوبة الكلام وفقدان التوازن ونوبات الاكتئاب. لا يوجد علاج للمرض حتى الآن. كل ما يمكن للطب الحديث فعله هو محاولة السيطرة عليه وتخفيف حدة الأعراض من خلال الكورتيزون، كما لا يمكن التنبؤ بحدة أو تكرار الانتكاسات. كل ما يمكنني فعله هو الانتظار.

الكلمات والجمل القادمة تعبير عن تجربة مررت بها ونجوت أو نجا الجزء الأكبر مني على الأقل، وأتمنى أن أنجح في مهمة تحويل مشاعري وتجاربي إلى كلمات تعبر عنها بصدق ودون ابتذال. أكتب في محاولة للقول أن الأمور مهما ساءت نستطيع التكيف معها، علينا فقط محاولة الإجابة عن الأسئلة أو طرح الأسئلة والتحرك نحوها. تحدث هذه المحاولة وأنا أتمتع بوضع نفسي وجسدي مستقر نوعًا ما، وفي مرحلة تمكنت فيها من تحسين ثقتي بنفسي ورؤيتي للأشخاص ذوي وذوات الإعاقة وتمكنت فيها أيضًا من تقبل نفسي وتقبل إمكانية أن يحبني أحدهم وأن أحب جسدي كما هو الآن. باختصار، هي تعبير عن مرحلة تمكنت فيها أن أنمو كإنسانة وكامرأة في علاقتي مع جسدي ومرضي.

***********

عندما كنت في المستشفى لأول مرة أتذكر أنه قال أنني سأكون بخير وأن هذا عارض سيمر خلال بضعة أسابيع وسأمشي مجددًا. صدّقته وكنت متفائلة جدًا أنني بعد عدة أسابيع سوف أعود كما كنت. كان في ذلك الوقت وما زال منارتي التي تمنحني نورًا يخرجني من حالات الاكتئاب التي كنت أمر بها. كأي حبيبين كنا نتحدث عن الأفلام والسياسة والكتب والأغاني وكنا نضحك على أشيائنا الصغيرة. نتحدث على الهاتف، ويأتي لزيارتي في المنزل. كنت أعشق ضحكته وعينيه اللتين تلمعان كعيني طفل في الخامسة. 

لكن حياتى كانت قد تغيرت بلا رجعة. 

لم أكن على ما يرام. بعد عدة شهور بدأت الحركة تعود إلى جسدي تدريجيًا و لكن الألم كان يأتي في موجات حادة في كل مرة مع فترات من الاكتئاب. كانت حركتي مثقلة جدًا وكنت أمازح الجميع بالقول أنني أمشي كالبطريق تلطيفًا للجو مع أنني كنت في داخلي أتألم من ذلك الواقع، وترافق ذلك مع زيادة وزني بفعل الأدوية المختلفة التي كنت آخذها. زاد اغترابي عنّي، رفضت الشخص الذي كنت عليه حتى تخيلت أنني شخص آخر. في ذلك الوقت انفصلت عن الواقع: كان جسدي في الحاضر ولكن عقلي كان في الماضي. انشغلت بمقارنة نفسي بنفسي السابقة. كنت قد حاربت من أجل استقلاليتي والآن كان عليّ الاعتماد على الآخرين. حطمتني هذا الفكرة وهذا التغير. كنت القوية في نظر الجميع لكنني لم أعد أستطيع حتى تحريك إصبعي أو الذهاب إلى الحمام أو النهوض من السرير، من أنا؟ هذا السؤال أرهقني ..!

عندما كنت أقضي فترات طويلة ممدة على السرير وظهري لا يمتلك القدرة أو الطاقة على النهوض لعدة شهور، كنت كأنني أعيش نفس اليوم الذي يكرر نفسه بملل ووتيرة منتظمة ما عدا الوقت الذي نتحدث به على الهاتف. كانت أحاديثنا بابًا ينقلني إلى عالم فيه كل ما أحب: كان يحدثني عن يومه وكنت كأنني أعيشه معه، أحدثه عن مقالات قرأتها على الإنترنت خلال يومي وفي لحظات مكالماتنا لم أكن أشعر بالوحدة التي فرضها على المرض.

كنت أخجل حتى في خيالي من تصوّر نفسي معه بهذا الجسد المعاق المنهك

توالى اغترابي عن ذاتي حتى شعرت أنني انفصلت عن جسدي واهتزّت ثقتي به كثيرًا. تغيرت حياتي تمامًا بما فيها رغباتي وأحلامي وأصبحت أحس أنني مخلوقة لا جنسية. سألت نفسي من سوف يشتهي جسدًا كجسدي ودخلت في قفص من الشك بالذات وحتى كرهها لأنني كنت قد قرأت أن الأشخاص الذين لا يستطيعون التواصل مع أجسادهم لا يستطيعون إمتاع أنفسهم ذاتيًا أو مع الشريك أو الشريكة. كنت أخجل حتى في خيالي من تصوّر نفسي معه بهذا الجسد المعاق المنهك.

توالت نوبات المرض. مع ازدياد حالتي الصحية سوءًا تملّكني الخوف و اخترت الطريق الأسهل. أعتقد بأنني انقسمت إلى شطرين: جسد يعيش في الحاضر وعقل أراد البقاء في الماضي. ولأنني كنت موعودة بانتكاسات حتمية اخترت أن أستسلم لخوفي من خسارات قادمة ولأن تكلفة الأمل كانت باهظة في ذلك الوقت بالنسبة لي. اخترت البقاء في غرفتي والانعزال عن العالم وعدم المحاولة في انتظار الأسوأ فقط. كان تصوّري أنه "هو" كل ما تبقى من ذاتي القديمة. كان وجوده كضوء المنارة للسفن في العواصف، لا يجعل العواصف تختفي ولكن يدلّك على الطريق ويخبرك بأنك سوف تصلين. لم أع حينها أنني كنت أريد منه أن ينقذني دون أن أنقذ أنا نفسي وأنني كنت أحول ذاتي إلى ضحية. 

أكثر ما افتقدته بفعل التغيرات التي طرأت على جسدي ونفسيتي بسبب المرض مشاويرنا معًا. في السابق كنا نمشي معًا مسافات طويلة نتحدث ونضحك، أما بعد المرض فقد كنت أشعر بالعجز المؤلم. كنت أتصور أن جميع الأخريات هن أفضل منّي لأنهن يستطعن المشي معه. عندما تحسنت واستطعت الخروج إلى الشارع كان يسبقني بثلاث خطوات في كل مرة كنا نلتقي فيها لأن جسدى كان ثقيلاً ومتألمًا ولأنني لم أكن أستطيع السير بخطوات ثابتة. لم يكن هذا المشوار الذي حلمت به. كنت أركز على الثلاث خطوات التي بيننا أكثر من وجودنا معًا.

كنت أرى أن الأنا الماضية هي الأجدر بالحب

الهاجس الذي كان يتملّكني وأفسد علاقتنا هو شعوري بأنني لست طبيعية بما فيه الكفاية وشعوري بالخجل الشديد من هذا الجسد. كنت أضع الماضي والمرض كحاجز بيننا وأذكر أنه قال لي مرة: "علاقتنا ليست الماضي نحن الآن هنا وعلينا أن نهتم بنا هنا في الحاضر". مقارنتي المستمرة بين الأنا سجينة الآن والأنا الماضية التي كانت حرة قوية مستقلة ذات الجسد المثير القادر على فعل ما يريد، تلك المقارنة أفسدت ما بيننا. كنت أرى أن الأنا الماضية هي الأجدر بالحب وكنت في حينها غير قادرة على فهم مشاعري وعلى إدراك أن تصرفاتي كانت مدفوعة بالغضب على واقعي. في ذلك الوقت كنت افتقد المشاوير لافتقادي القدرة على الحركة، لكن في الواقع النحن التي كناها في تلك المشاوير كانت نفسها التي كنا نعيشها على الهاتف أو حين يزورني في المنزل خلال مرضي.

تسربت ثنائية الماضي الحر والحاضر المظلم إلى عقلي فتاه فيها. حبستني مخيلتي في زاوية مظلمة وأخذت تعرض لي سيناريوهات محبطة ومخيفة عن المستقبل وعما يستطيع جسدي تقديمه له وما هو عاجز عن تقديمه. محاولاتي في تجنب الحياة جعلتني شخصًا مختلفًا، مع أنني كنت وما زلت أحبه وأعرف أنه يحبني. لكن التغير الذي طرأ علي حوّلني لإنسانة أخرى كانت تطلب منه إنقاذها، وكأنه كان عليه تجميعي أو تعويضي أو إصلاحي. افترقنا، لأن جوهري اختلف وكنت أنا نفسي قد تغرّبت عن نفسي وعن النحن التي كنّاها.

الآن وبعد تعايشي مع مرضي وتمكّني من استيعابه وتثقيف نفسي حوله أستطيع القول أنني مرتاحة مع جسدي وأراه بطريقة مختلفة. علمتني تجربتي مع الحب وتغير جسدي بفعل المرض الكثير: علمتني أن الأجساد المختلفة تنمو وتتطور ويتغير وعينا بها وتفاعلنا من خلالها، وعلمتني أنني أستحق الحب وأول حب أستحقه هو حبي لذاتي ولجسدي، وعلمتني أنني ما زلت أستطيع أن أعانق الحياة وأن أعيشها من خلال هذا الجسد. أنا الآن أقوى، أكثر إنسانية وتصميمًا. 

أشعر أنني بُعثت من جديد. 

خرجت معه منذ مدة قريبة، وتناقشنا حول إعادة تكوين أو بناء علاقتنا. كان وعيي بذاتي قد تطور بعد تلك الرحلة بكل ما فيها واختلفت نظرتي لنفسي وتترجم ذلك في تفاعلنا مؤخرًا. ومن يدري؟ ربما تُبعث علاقتنا كطائر الفينيق كما بعثت أنا وولدت من جديد في هذا الجسد.