"بتسمَحلي إستاذ؟": عالم الرجال بين الحقيقة والمفروض

هل نحن حقًا من نحن أم مَن سُمح لنا بأن نكون؟ من يتحكم بنا ويعطينا الأسماء ويمنح كل اسمٍ قيده؟

سوف أبدأ بالحديث عن عمران،1 زميلي في دورة الترجمة. رجلٌ في الخمسينات من عمره، طويلٌ، ضخمُ البنية، صوته رخيمٌ ومرتفعٌ دائمًا. فاجأني عمران في أحد الأيّام بعد أن أنهى مكالمةً هاتفيّةً قائلًا: "أنا لا أبكي يا ورد! والدي الله يسامحه ربّاني أنا وثلاث أخوات بنات، ولم يكن يسمح لي بأن أبكي. كان كلّما رأى دموعي صرخ بي؛ أنت صبي، الرجال ما تبكي! علّمَني كيف أصير حجرًا. لا أعرف ما أشعر به، لا أعرف كيف هو الشعور، ميت. أولادي، عملتُ عمري كلّه من أجلهم، كبروا وابتعدوا عني. هم لا يعرفون أنّني أحبّهم، ولا أنا أعرف كيف أخبرهم بذلك إلّا عن طريق المال. لهذا، كما ترى، لا يتّصلون بي إلّا ليطلبوا شيئًا ما. علاقتنا خشنةٌ وباردة".

يا لعمران الطفل! علينا أن نعود إلينا ونحن أطفالٌ حيث تركنا حقيقتنا، هناك حيث كبرنا وسط الأوامر. ليس عليكَ أن تبكي! ليس عليكِ أن تضحكي بهذا الشكل! في اللحظة نفسها يحرّمون على الرجل الحزن وعلى المرأة الفرح. أيّ ثنائيّةٍ غريبةٍ هذه؟ أيّ بيئةٍ تلك التي نشأنا فيها؟ أيّ سجون؟

يبدأ البرد يسكن جوفك منذ ابتعادك عن ذاتك بعد العقاب الأوّل. يحدث الأمر في سنٍّ مُبكرةٍ في خلال تربيتك وتلقينك كلّ القيود التي عليك الالتزام بها بالتناسب مع الدور الجندري الملازم لجسدك. تتحدّد علاقتك بذاتك وعلاقتك بالآخر من خلال هذه المفاهيم المجتمعيّة المتوارثة. مع الوقت، تكبُر وتصير هي كلّ ما أنت. ننشأ غرباء عن أنفسنا، إلى أن نكتشف ذلك.

بالحديث عن الأدوار المفروضة علينا وكيف نُربّى عليها، أذكر ما حدث معي منذ فترةٍ في السويد، حين ذهبتُ مع صديقةٍ لي لتشتري سوارًا ذهبيًا. صودِف أن كان السّوار موجودًا في سوق العرب،2 ما يعني أن صاحب المحلّ عربي. بدأَت صديقتي توجّه إلى الصائغ أسئلةً عن كلّ قطعةٍ تُعجبها، لكن ما أثار استغرابي أنه كان يجيبني أنا، مع أنّني لم أطرح عليه أيّ سؤال! كلّما سَألَته هي سؤالًا كان ينظر إليها ليجيبها، لكن ما إن يبدأ بالإجابة، حتى يوجّه نظرَه نحوي، من دون أن يشعر، ليشرح لي عن سعر كلّ قطعةٍ ووزنها ومواصفاتها. تعامل مع صديقتي في حضوري كما لو أنّها شبحٌ غير مرئي، ما تسبّب لي بالإحراج، فصرتُ أوجِّه الحديث إليها وأعيدُ عليها ما كان يقوله لي، إلى أن أرادَت تجربة سوارٍ أعجبها، فأمسَك الصائغ بالسّوار وتوجّه لي بالسؤال: بتسمَحلي أستاذ؟

شعرُ الذقن والصوت الثخين أعطياني امتيازاتٍ لم أبذُل أي جهدٍ للحصول عليها. أنا ذاتي لم أتغيّر. كلّ ما تبدّل هو شكلي الخارجي فقط، فتغيّرَت علاقةُ الآخرين بي

كان يستأذنني أنا لشأنٍ يتعلّق بجسدها هي! لعلّه ظنّني زوجها، لكن هل يعقل أن يُِستأذن إنسانٌ ما للمسّ بإنسانٍ آخر؟ تعامل معي البائع كما لو أنّ جسدها ملكي وأنا مَن يُقرِّر ما يُسمح وما لا يُسمح به، مهما كان الأمر بسيطًا، مثل تجربة سِوار.

شعرُ الذقن والصوت الثخين أعطياني امتيازاتٍ لم أبذُل أي جهدٍ للحصول عليها. أنا ذاتي لم أتغيّر. كلّ ما تبدّل هو شكلي الخارجي فقط، فتغيّرَت علاقةُ الآخرين بي.

لا يعرف الآخرون إلّا ما يعيشونه. تجربتي كرجلٍ عابرٍ هي مثل الانتقال من المجرّد إلى الحسّي، ولهذا خصوصيّة الكشف. قبل العبور كنتُ في البرزخ، وما إن عبرتُ باتجاه الذكورة حتى بانت لي عيوبٌ كثيرةٌ في هيكلية الشارع العربي. يرتبط الترتيب الهرمي للسلطة في المجتمع بالأدوار الجندرية النمطية، المُعترف بها طبعًا، أي رجلٌ (ذكر) وامرأة (أنثى). يُعامل أفراد مجتمع الميم-عين، وأخصّ بالذكر هنا العابرات/ين، بالطريقة ذاتها في ترتيبٍ موازٍ للثنائية النمطية وانعكاسٍ لها. فأن تكون رجلًا عابرًا أسهل بكثيرٍ من أن تكوني امرأةً عابرة، إذ تحظى باحترامٍ أكبر من الاحترام الذي تحظى به إن كنتَ امرأة. التغيّرات التي طرأَت على شكلي أدّت إلى التعامل معي كرجلٍ، وليس كرجلٍ عابر، ما سمح لي بعيش تفاصيل مُغايرةٍ لما اعتدتُه.

حين أمشي في الطريق برفقة فتاة، قد ينظر إليها شابٌ ما، لكن ما إن أنظر إليه حتّى يهرب بعينيه بعيدًا عني. عالم الرجال هو عالمٌ للرجال فقط، هناك اتفاقاتٌ غير مُعلنَةٍ تمارَس بتلقائيةٍ ومن دون وعي كاملٍ بها. تعامُل الشاب مع امرأةٍ ما عندما تكون وحدها يختلف عن تعامله معها حين تكون برفقة شابٍ آخر! لكن ألا تتصرّف الفتاة بالطريقة نفسها أيضًا، فيختلف تعاملها وفقًا لما إذا كان الشاب وحده أو برفقة امرأةٍ ما؟ طبعًا يحدث ذلك، لكن الفرق هنا هو الإحساس بالملكيّة. لن تستأذن أيّ امرأةٍ امرأةً أخرى لتلمس زوجها إن أراد تجربة ساعة يدٍ مثلًا! يحدث ذلك فقط كاعترافٍ ضمني بملكيّة الرجل لجسد "امرأته".

الطفل الذي نشأ لا يبكي لأنّهم أخبروه بأنه رجل، أخبروه أيضًا أن أجساد نساء العائلة شرفه، فسرقوا أخته منه وصار عليه أن يراقبها بدل أن يلعب معها، وأن يخبّئها بدل أن يحميها وتحميه.

جدران بيوتنا تُعلّق عليها صورٌ لذكور العائلة، حيث توجد دائمًا صورةٌ للجدّ حفاظًا على التقاليد. نحن مَن نمارس الماضي في حاضرنا كلّ يوم. لا صور للنساء على جدران بيوتنا! نخجل بهنّ ونخبّئ صورهنّ على جدران غرف النوم دلالةً على المكان المُخصّص لهن في أذهاننا.

أن تكون رجلًا عابرًا أسهل بكثيرٍ من أن تكوني امرأةً عابرة، إذ تحظى باحترامٍ أكبر من الاحترام الذي تحظى به إن كنتَ امرأة

هناك فرقٌ كبيرٌ بين الحبّ والشفقة، وبين الحبّ والشغف. هذا ما اكتشفتُه حين ابتعدتُ عن ثقل المكان. معظم العلاقات حيث نشأتُ لا حبّ فيها، بل الكثير من الشفقة أو الشهوة. ولأن البيوت لا تُبنى من دون حب، سكن الكثير منّا خزائنهم/ن وحملوها معهم/ن حيثما حلّوا كالخيام! منحَتني الغربة هبة المسافة، فأبصرتُ من بعيدٍ ما كنتُ أعيشه، أعدتُ تقييمه وسألتُ نفسي: هل نحن حقًا من نحن أم مَن سُمح لنا بأن نكون؟ من يتحكم بنا ويعطينا الأسماء ويمنح كل اسمٍ قيده؟ أهذا ما يقصدونه حين يسجّلون معلومات كلٍّ منا في قيد نفوسه/ا الخاص؟ الجنّة نصيب من يقول نعم! لكنك إن أمعنت النظر في الخريطة، تشتمّ رائحة الحريق تفوح من بلاد الطاعات. معظم الناس مُستعبدون لدورٍ تمثيلي ما، هناك حيث الأسماء سلاسل للعبودية: اسم العائلة، الطائفة، الجنس والجنسية. سجنك مفصّلٌ على قياس قيد نفوسك، يعدّ أنفاسك من المهد إلى اللحد.

لطالما كنتُ رجلًا، لكنّهم اليوم اعترفوا بي. أنا الذي لم أكن يومًا على ضفة "رجل" أو "امرأة"، صارت لديّ اليوم طريقٌ فيها الكثير ممّا ناضلتُ ضدّه! أمشي فيها حافي القدمَين وأصنع حذائي الخاص. لن أرث حذاء أبي أو جدي. صوتي الآن بات مسموعًا أكثر. لذا، أكتب لأشارك ما أدركتُه بفضل تجربتي كرجلٍ عابر، وهي أمورٌ قد لا يدركها من يمارسها كطقوسٍ بديهيّة. سأبقى أرفع صوتي العميق صارخًا في وجه كل من يقيّم الإنسان بحسب جنسه/ا أو جسده/ا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

        * رسمة الغلاف لورد زرّاع

 

 

  • 1. اسمٌ مستعار.
  • 2. سوق العرب هو اسم يُطلق على شوارع في المدن الأوروبيّة تبيع معظم المحلّات فيها البضائع العربية أو أصحابها عرب.