"كيف الحالـ/ـة": أنا وهو وفيروس نقص المناعة البشرية

20/04/2022
1089 wörter

كنتُ أسمع دائمًا عن حلاوة البدايات، ولم تكن تجربتي معها سيّئة، إلى أن اكتشفتُ تعايشي مع فيروس نقص المناعة البشرية (HIV). عندها، أصبحَت البدايات أصعب، يتخلّلها قلقٌ وتوترٌ وخوفٌ من سماع ما لا أقوى على سماعه، سواء كان ذلك اتهامات بأنني "أستهدف" الأشخاص لنقل المرض لهم سخطًا مما أصابني، أو نصائح بالانعزال عن العالم والابتعاد عن تطبيقات التعارف، ووصولًا إلى التهديد بفضح حالتي "لحماية" الآخرين مني، من دون أن أنسى طبعًا محاولات تجاهلي وتجنّب التواصل معي.

حلاوة البدايات هي عبارةٌ تُطلق على بداية العلاقة الرومانسية أو المواعدة؛ إنّها الفترة الأولى حين تكون المشاعر متأججةً وكيوبيد يرفرف بأجنحته فوق الحبيبَين سعيدًا بإنجازه.

تطبيقات "آمنة" للمواعدة

المواعدة بين الرجال المثليّين عبر التطبيقات ليست سهلة، وقائمة "الشروط"، التي يضعها البعض لمجرد الرّد على رسالتك، تزداد طولًا يومًا بعد يومٍ وتتضمّن: الشكل، والطول، والوزن، والعديد من "معايير الجمال" التي يحلم البعض بإيجادها في الشريك. لذا كنتُ أختصر الوقت وأحتفظ بما تبقى من طاقتي النفسية لمعرفتي بأنني في آخر القائمة بسبب وجود الفيروس في شراييني.

المواعدة بين الرجال المثليّين عبر التطبيقات ليست سهلة، وقائمة "الشروط"، التي يضعها البعض لمجرد الرّد على رسالتك، تزداد طولًا يومًا بعد يومٍ

قبل معرفتي بإصابتي بالفيروس، أذكر أني وقعتُ على حسابٍ يُطلق على نفسه اسم "عنده إيدز". استوقفَني الاسم للحظاتٍ إلى أن وجدتُ صورة شخصٍ ما على الحساب، وهو أمرٌ قلّما تجده على تطبيقات المواعدة للرجال المثليّين في بلادنا. أثار الأمر فضولي وقرّرتُ زيارة الحساب لقراءة ما يكتب صاحبه.

وجدتُ في الحروف المحدودة المخصّصة لكتابة نبذة أن صاحب الحساب قرّر تكريس وقته "لفضح" أحدهم، فاستخدم صورة أحد المُتعايشين، وارتأى أن عليه "تنبيه" الآخرين حتى لا يُصابوا منه. كان صاحبُ الصورة قد تواصل مع أحدهم وأخبره أنه متعايش مع الفيروس، فأخذ الشخصُ المتلقّي على عاتقه حماية الآخرين من "شرور" المُتعايش عبر نشر صورته، واسمه، وحالته، اعتقادًا منه أن المُتعايش يريد نشر المرض بين الآخرين!

أخيرًا، حُذِف الحساب بعد محاولاتٍ عدّة للإبلاغ عنه لانتهاكه خصوصية الآخرين. لكن ذلك لا يحول دون إنشاء حساباتٍ أخرى للغاية نفسها، ما يزيد خوفي من الإفصاح عن حالتي أو حتى مشاركة صورتي.

أخذَتني هذه الذكرى إلى ما لم أفكّر فيه سابقًا: ما الذي دفع بصاحب الحساب إلى الذعر وانتهاك خصوصية الشخص المُتعايش ونشر صوره وحالته؟ لم أجد إلّا شعوره بالخوف إجابةً وحيدة؛ لا الخوف من المُتعايش أو من الفيروس، بل الخوف من المجهول. بالنسبة إليه، الفيروس والمُتعايش هما المجهول بذاته، نتيجة ما سمع من خرافاتٍ عن الموضوع، لا سيّما أن الاسم المُنتشر هو "إيدز" (أي المرحلة المتأخّرة من الفيروس) وليس فيروس نقص المناعة (أي الفيروس عند الإصابة)، ويعود ذلك إلى كون مصطلح "إيدز" هو الأكثر انتشارًا وارتباطًا بأمورٍ تثير الذعر في النفوس.

في الكذب أمان

هل حماية نفسي وسلامتي النفسية من التهديد بعدم الإفصاح عن حالتي يُعدُّ كذبًا؟ ربّما يكون كذلك في حال سألَني أحدهم عن حالتي ولم أخبره بأنني مُتعايش مع فيروس نقص المناعة، لكن نادرًا ما يسأل الناس عن حالتي الصحية. 

أفكّر في كلّ حوارٍ قد يدور، وفي ردّات الفعل على حالتي، وعدم تقبّل البعض لي أو اعتباري مصدر تهديدٍ لحياتهم وصحتهم

طُرِح الموضوع مرارًا، سواء في صراعي مع نفسي أو في نقاشاتٍ دارت في مجموعاتٍ مُخصّصةٍ لمجتمع الميم-عين+ على مواقع التواصل الاجتماعي، وكانت الردود مختلفة. أتى بعضها صادمٌ إلى حدّ ما، إذ قال البعض إن على المُتعايش الإفصاح عن الحالة في بداية التعارف حتى لو كان اللقاء لليلةٍ عابرة، بينما أشار البعض الآخر إلى عدم وجوب الإفصاح إلا في حال كان المُتعايش يبحث عن علاقةٍ طويلة الأمد وبالتالي من حقّ شريكه المستقبلي أن يعرف عن حالته. أما البعض فرأى إمكانية عدم الإفصاح عن الحالة لكن مع التشديد على استخدام الواقي الذكري في كلّ الحالات.

بين هذا الرأي وذاك، لم أعد أعرف ما يجب فعله. هل أفصح وأتحمّل ردّات الفعل، أم أصرّ على العلاقة المحميّة مهما كان الثمن؟

حاليًا، أصبحَت تطبيقات المواعدة تتضمّن خياراتٍ عدةً عن الحالة: هل الشخص متعايشٌ أم لا؟ إذا كان متعايشًا، هل يتابع بروتوكول الدواء؟ إذا كان غير متعايش، هل يتبع بروتوكول الدواء للوقاية من العدوى؟1

مع ذلك، فكرتُ كثيرًا في ما إذا كنتُ مُلزمًا أخلاقيًا بالإفصاح عن حالتي. أفكّر في كلّ حوارٍ قد يدور، وفي ردّات الفعل على حالتي، وعدم تقبّل البعض لي أو اعتباري مصدر تهديدٍ لحياتهم وصحتهم. فكّرتُ في كلّ ذلك، بما فيه خيار عدم الإفصاح. فهل عدم الإفصاح يُعدُّ كذبًا؟

المعرفة قد تؤلم أحيانًا

بعد فترةٍ من محاولتي تقبّل حالتي، عدتُ إلى مواقع المواعدة ظنًا مني أنّي مستعدٌّ لمواجهة العالم، لكنّي في الواقع لم أكن مستعدًا لذلك. غالبًا، كنتُ أخبر الأشخاص أنّني مُتعايشٌ مع الفيروس بعد فترةٍ من تبادل الرسائل معهم واستكشاف من تهمّني معرفتهم أكثر. أتذكّر تسارع دقّات قلبي وأنا أكتب لأخبرهم عن حالتي، وكيف كنتُ ألقي بهاتفي بعيدًا بعد إرسال الرسالة، بينما ينتابني الخوف من المجهول، لاسيما بعد كلّ ما كنتُ قد سمعتُه من ردّات فعلٍ كان معظمها سلبيًا.

المعلومات الشائعة عن الفيروس على تلك التطبيقات هي مجرّد أساطير انتشرَت وقت اكتشافه في أواخر القرن الماضي

في بعض الأحيان، كنتُ أُفاجَأ عند مقابلتي أشخاصًا يعرفون الكثير عن الفيروس، فكانوا يدعمونني ولا يهاجمونني لمجرد أني متعايش. تفهّم البعض حالتي، كما عرض عليّ البعض الآخر المساعدة في حال حاجتي إليها، فيما شاركني آخرون مصادر قد تساعدني في التعايش مع الفيروس من الناحية النفسية. 

وجدتُ في النهاية أن تطبيقات المواعدة لم تكن بهذا السوء، فليس الجميع جاهلًا بماهية فيروس نقص المناعة. كذلك وجدتُ أنّ المعلومات الشائعة عن الفيروس على تلك التطبيقات هي مجرّد أساطير2 انتشرَت وقت اكتشافه في أواخر القرن الماضي، وتعتبر أن موت المُتعايشين/ات محتوم، وأن الفيروس قد ينتقل عبر ملامسة أغراض المتعايش/ة أو مشاركته/ا الطعام نفسه! 

لكن الأهم، كان اكتشافي ضرورةَ أن يتعلّم البعضُ الإنسانية واحترام خصوصية الآخرين.

غير قابل للكشف

لم تكن رحلة العلاج بالصعوبة التي تخيّلتُ نتيجة انتشار الأفكار الخاطئة عن الفيروس في العالم من حولي. لم أمُت بعد فترةٍ وجيزةٍ من الإصابة كما كنتُ أظنّ، ولا قُبض عليّ ونُفيت حتى لا أصيب آخرين، ولا تواصلَت السلطات مع أهلي أو جهة عملي للتبليغ عن حالتي الصحّية وإصابتي، كما لم أرقد في سريري منهكَ الجسم عاجزًا عن الحركة. لم يحدث أيٌّ من الأمور التي كنتُ أظنّها تحدث لكلّ متعايش. بالطبع، لم تكن رحلتي مع مستشفى الحميات سهلةً في كلّ المراحل، لكنّي نسيتُ كل ذلك يومَ أتَت نتيجة التحليل الدوري وتبيّن أنني أصبحتُ "غير قابلٍ للكشف". ومعنى ذلك أنّ نسبة الفيروس في الدم باتت ضئيلةً جدًّا، وبالتالي لم يعُد بإمكان الفيروس الانتقال إلى أشخاصٍ آخرين.

أنسَتني نتيجةُ التحليل كلّ ما مررتُ به. أعلم أن الفيروس لم يختفِ تمامًا كما كنتُ أتمنّى، لكن العلاج أصبح قادرًا على إبقائه بعيدًا تحت السيطرة. في الواقع، بتّ أعرفُ قيمة الحياة أكثر. اليوم أصبحتُ "عايش".

 

 

  • 1. يمكن لغير المُتعايشين مع الفيروس تجرّع حبّة دواءٍ (تروفادا) في التوقيت ذاته يوميًا للوقاية من الإصابة بفيروس نقص المناعة. يهدف هذا البروتوكول إلى تمكين الأشخاص من ممارسة العلاقات غير المحميّة والوقاية في الوقت عينه من الإصابة بالفيروس. لكن تروفادا لا يحمي من عدوى الالتهابات المنقولة جنسيًا الأخرى، ونادرًا ما تجد أشخاصًا في منطقتنا يتبعون بروتوكول الوقاية هذا بسبب ارتفاع سعر الدواء نسبيًا.
  • 2. للمزيد من المعلومات حول التعايش مع فيروس نقص المناعة البشرية في مصر، يمكن الاطلاع على هذا الكتيب.