رسالة مني إليّ: عزيزتي صوفيا الصغيرة

تختلف رؤى الإنسان/ة وتوجّهاته/ا بشكلٍ جذري ودائمٍ وفقًا لتجاربه/ا المُعاشة وتراكم خبراته/ا. في اعتقادي الشخصي، التغيير هو صفةٌ مستمرّةٌ في واقع كلّ إنسان/ة، على جميع الأصعدة؛ وما أقصده هنا تحديدًا هو التغيير المُرتبط بالوعي والإدراك. تبدو الحياة مثل أُحجيةٍ مُتداخلةٍ نجهل أساسًا أنّنا موجودون في داخلها، ومع الوقت نبدأ في فكفكة ألغازها لغزًا تلو الآخر. لا أريد الإطالة في العموميات، بل أودّ التركيز على ذاتي، على صوفيا نفسها ونضوج وعيها بمرور السنين وتراكم التجارب. لذلك أحضر إليكم/ن بهذه المُناجاة الصادقة التي أخاطب فيها ذاتي الصغيرة بهدف احتوائها، أو ربّما التصالح معها، عبر إظهار بعض الجوانب الخفية عنها في شأن جسدها وعلاقتها بمحيطها الاجتماعي والحميم، لعلّ تلك المناجاة تكون بمثابة الأنس والاطمئنان لمن تـ/يقرأها، ولاسيّما من ت/يمرّ بتجربةٍ مُشابهة.


عزيزتي صوفيا الصغيرة،

أعلم جيّدًا أنّ الطفولة بالنسبة لكِ لم تكن تعني ما تعنيه عمومًا، أو تحوي ما تحويه لغالبيّة الأطفال من براءةٍ وأمانٍ وراحةٍ ورعاية. أعلم أنّ تلك الطفولة انبثق عنها الكثير من التعقيدات والصراعات التي، للأسف، سوف تصاحبكِ مهما كبرتِ ونضجتِ. لكني الآن أحضرُ أمامك من زمنٍ آخر، ومن سياقٍ آخر، لا لنتبادل دروسَ الحياة، بل لأعانقك عناقًا طويلًا، وأقدِّم لك خُلاصة تلك العلاقة المريرة مع جسدكِ، ودافعي أوّلًا وأخيرًا، هو الحبّ.

************

أتذكُرين عندما كنتِ في السادسة من عمركِ وتتعاملين بفضولٍ شديدٍ وبراءةٍ وتلقائيّةٍ، بل وشغفٍ تجاه كلّ ما هو أنثوي؟ أتذكُرين عندما كنتِ تشاهدين أمّكِ وهي تضع مساحيق التجميل استعدادًا للخروج، وتتابعينها بعينَين تلمعان من شدّة الإعجاب، ومن ثمّ تقلّدينها عبر وضع مساحيقها وارتداء ملابسها التي كانت تُشعِرك بسعادةٍ وانتعاشٍ بالغَين بمجرّد ملامستها جلدك، كما لو كنتِ تمرِّين بتجربةٍ روحيّةٍ مع جسدك؟

ذلك الجسد الذي لطالما كان محلّ صراعٍ بين رغباتكِ الشخصيّة ومحاولات التلقين والعقاب والمُراقبة التي لم تُدركي أسبابها أو مبرّراتها بعقلكِ الصغير غير الملوّث بعد بالمفاهيم السلطويّة والأبويّة البالية؟

هل تذكُرين عندما كنتِ في ذلك السّن، كيف كنتِ تستحمّين، ثمّ تقفين أمام المرآة عاريةً وأنتِ تخبّئين ذاك العضو القابع بين فخذَيك، فتشعرين أنّ نوعًا آخر من الدماء يسري في عروقك، كما لو كنتِ تدركين أنّ ذلك الجزء من جسمكِ هو ما يُشغِلُ بالَ كلّ من كان يصنِّفكِ ويقيِّدكِ ويفرض عليكِ قوانينه بدءًا من البيت إلى الشارع والأقارب والمدرسة؟

أعتقدُ أنكِ في ذلك السّن أدركتِ معاناة الصدام مع الثنائيّة الجندريّة التي لا تُقاس إلّا من خلال الكشف على ما يوجد هناك، أسفل بطنك. وأعتقدُ أيضًا أنّ عينَيك تفتّحتا منذ عمرٍ صغيرٍ على نوعٍ خاصٍّ من المعاناة التي سوف ترافقكِ في ما بعد. إنّها معاناة الشعور بالغربة التي تتجلّى على مستوياتٍ عدّة. تبدأ بالجسد والذات، وتمتدّ لتشمل المحيطَين الاجتماعي والأسَري اللذَين لطالما شعرتِ كأّنك تنتمين إلى عالمٍ آخر غير عالمَيهما المحدود والمعياري. 

************

هذا كلّه في دفّة، ومرورك في مرحلَتي البلوغ والمراهقة في دفّةٍ أخرى مُختلفةٍ تمامًا. أعلم كم كنتِ تشمئزّين من التغيّرات التي كانت تطرأ على جسدكِ، وتتصوّرينه بشكلٍ مختلفٍ تمامًا، على عكس توقّعات كلّ من حولكِ. أعلم أيضًا اشتداد شعوركِ بالاغتراب تجاه ذاك الجسد وكلّ ما أحاط بكِ في خلال تلك المرحلة، لاسيّما عندما كان الطلبة الذكور يجلسون في حديقة المدرسة ليتحدّثوا عن أجساد النساء والعادة السرّيّة. أعلم أنّك كنتِ تريدين الصراخ بصوتٍ عالٍ أو الهروب وترك كلّ شيء وراءك، لأنّ تلك المرحلة كانت بمثابة بلوغ قمّة التعقيد الذي فاق قدرتكِ على الاحتمال.

سوف تتعرّفين إلى أناسٍ لديهم/ن تجارب مُشابهة، وإلى مساحاتٍ تستطيعين التعبير عن ذاتكِ فيها من دون قلقٍ أو خوفٍ

أتذكُرين كيف كان شغلكِ الشاغل وسط كلّ ذلك الهراء هو الابتعاد عن أولئك الذكور الذين كانوا يثيرون اشمئزازكِ وحفيظتكِ، والالتصاق بالفتيات للاطلاع على منظورهنّ للجسد واللذة والرغبة، بعيدًا من أعين الذكور وسلطتهم؟

كانت تلك المرحلة بمثابة القشّة التي قصَمَت ظهر البعير. فمع ازدياد إحساسكِ بالاغتراب، وضغوط التنمّر والرفض في المجالَين الخاصّ والعام، خرجَت أوّل صرخةٍ من داخلكِ إلى العلن، واعتقد أهلُكِ في إثرها بأنّكِ مُضطربةٌ نفسيًا، واقتادوكِ إلى طبيبةٍ نفسيّةٍ لم تفعل سوى إعطاءكِ حزمةً من الأدوية التي سوف تلازمكِ لوقتٍ طويلٍ في ما بعد. جرى كلّ هذا من دون أن يتطرَّق أحدٌ إلى أسباب تلك الصرخة، ومن دون محاولة الوصول إلى جذور المشكلة، كما لو أنّها وسخٌ ينبغي إخفاؤه تحت السجّادة لتبدو الصورة صافية، ولو كذبًا، كما أرادوها أن تكون.

************

عزيزتي صوفيا الصغيرة، أعلمُ كم كان المرور بكلّ هذه التجارب صعبًا، وأعلمُ كم كنتِ قلقةً وخائفةً، لكنّي أريدُ طمأنتكِ إلى أنّ الوضع سوف يتغيّر تدرّجيًا. سوف تتعرّفين إلى أناسٍ لديهم/ن تجارب مُشابهة، وإلى مساحاتٍ تستطيعين التعبير عن ذاتكِ فيها من دون قلقٍ أو خوفٍ. سوف يكون ذلك بمثابة تحوّلٍ تدرّجيّ، فتخرجين من ذاك الحيِّز الضيّق إلى آخر أوسع، وتتغيّر أفكاركِ ومنهجيّتها، وتبدأين بالالتفات إلى حقيقة أنّكِ جزءٌ من مجتمعٍ أكبر؛ مجتمع كويري ونسوي يعاني مثلك، ولكنّه يحفر طريقًا لنفسه وِسط هذا الضباب، وإن كان من عدمٍ.

لن يحدث أيّ انفتاحٍ في الأفق والمعارف إلّا مع وصولكِ لاستيعاب حقيقتكِ كامرأةٍ عابرةٍ جندريًا

لكني لا أريدُ خداعكِ، فحتّى هذا المجتمع النسوي الكويري الصغير لديه تعقيداته ومحدودياته. في البداية، سوف تتخبّطين بين وصاية الرجال المثليّين الذين يُهيمنون على غالبيّة تلك المساحات، وبين تذبذب بعض النسويات تجاهكِ. لن يفهمكِ كلّ من يتقاطع طريقه معك أو يدركَ كينونتك، وسوف يكون هذا التخبّط قاسيًا. 

لن يحدث أيّ انفتاحٍ في الأفق والمعارف إلّا مع وصولكِ لاستيعاب حقيقتكِ كامرأةٍ عابرةٍ جندريًا. عندها يبدأ الستار بالتكشّف عن كلّ تلك التجارب، بحيث تنظرين إليها بوعيٍ غير مسبوقٍ وبقدرةٍ مكتسبةٍ على التحليل والفهم.

************

من هنا وصاعدًا، سوف تنحسر حدّة انعزالك عن ذاتكِ، وستمدّين يدك للتواصل مع الآخرين، وستقرأين وتبحثين وتجنين المعارف التي قد تنعكسُ إيجابًا على علاقتكِ بجسدكِ. في مقابل هذا التخبّط، سوف تكوِّنين صداقاتٍ قريبةٍ بمثابة عائلاتٍ بديلةٍ مع عابرين وعابرات، ما يحثّك على الخروج من التفكير الثنائي الذي ينظُرُ إلى الأمور في إطارٍ أبيض/أسود. سوف يتضح لكِ يا عزيزتي أنّ العبور الجندري هو رحلةٌ مُتداخلة، ليس لها نقطة بدايةٍ ونهاية، كما هو حال جسدكِ تمامًا. سوف يُسقِط هذا الوعي الجديد القناع عن الصورة الذهنيّة الأوليّة التي تختزلُنا في ثنائيّات ذكرٍ وأنثى، وسوف تدركين أنّ الكثير من التفاصيل تغيب وتختفي وتتوارى في تلك المناطق الرماديّة التي تشكِّل جزءًا كبيرًا من حياتنا كبشرٍ عمومًا، وعابرين وعابرات خصوصًا.

سوف يتضح لكِ يا عزيزتي أنّ العبور الجندري هو رحلةٌ مُتداخلة، ليس لها نقطة بدايةٍ ونهاية، كما هو حال جسدكِ تمامًا

سوف يتضح لكِ أن ليس الذنب ذنبكِ، وألّا وسخ عليكِ أو بكِ حتى تداريه عن الأعين. أمّا جسدك الذي لطالما كان محل نزاع، فهو أيضًا ليس سببًا لتلك المعاناة. سوف تفهمين ألّا معنًى مُحدّدًا للجسد، وأنّه لا يوجد جندرٌ مُحدّدٌ غير الذي تحدّدينه لذاتكِ، بل هي الأبويّة تخلق تلك الفروقات والمُسمّيات والمعاني لصالح هيمنة الرجال على باقي التصنيفات الجندريّة.

سوف تبدأين في تهدئة وطأة صراعاتك مع جسدكِ، وسوف تفكّرين في طرقٍ لبلوغ أهدافكِ في العبور بشكلٍ آمن، ومن دون الإمعان في تعقيد علاقتك بهذا الجسد كي لا تدفعي الثمن وحدكِ. سوف تنتقلين إلى التفكير الاستراتيجي في مصلحتك، ما يعني أنّ آلام جروح الطفولة لن تستمرّ بمرور الوقت والتجارب. وسوف تصبحين امرأةً ناضجةً تُسيِّر أمورها بنفسها، وتكتسب خبراتٍ وتجارب تسهّل حياتها وتساعدها في تحقيق أهدافها إسوةً بالجدار الذي يُبنى حجرًا فوق حجرٍ ليصبح أكثر تماسُكًا وثباتًا. طبعًا لن تكون الحياة مثاليّةً يا عزيزتي. في الحقيقة، بالتوازي مع خروجكِ من حيّز التفكير الثنائي الحدّي، سوف تدركين أنّ غالبيّة الأمور ليسَت ورديّة، كما أنها ليسَت إما بيضاء أو سوداء، بل هي تجمع بعضًا من كلّ شيء.

************

أختم رسالتي بالتأكيد على أنّكِ مليئةٌ بالشغف والحياة على الرغم من معاناتكِ وآلامكِ وشعوركِ بعدم اكتراث من حولكِ بكِ، وإحساسكِ بالعجز عن احتواء ذاتك. أؤكد لك، يا عزيزتي، أنّك ستقطعين شوطًا كبيرًا في علاقتكِ بنفسكِ حتّى وإن بقي الخوفُ يطاردك في الخلفيّة.