قط وكلبة وامرأة: كيف ننجو معًا؟

بعد وصول شوشو إلى منزلنا بفترةٍ قصيرة، بدأتُ أُغيّر نبرة صوتي عند التحدّث إليه لأكمل حوارًا أختلقُه بيننا، وحين انضمَّت إلينا أختُه توتو، واظبتُ على الأمر نفسه. تدور أحاديثنا حول الطقس، أو رغبتهما في تجربة طعامٍ جديد، أو عن مهامي اليوميّة. ينظران إليّ بسعادةٍ أحيانًا، وبضجرٍ في أحيانٍ أخرى، وكأنّهما سئِما هذه المعاملةَ المُهينة. أقلّه هذا ما أتخيّله.

قد لا يظهر تعاليّ البشري واضحًا على الرغم من حضوره، فأنا أتحدّث معهما بلطفٍ طيلة الوقت، أربِّت على ظهر كلبتي توتو كلّما مرّت، وأحمل قطّي شوشو رغمًا عنه وأغمره بالقبلات، من دون أن أسأل عن رغبتهما أو رضاهما عن طريقة تعبيري عن حبّي لهما. وكأنّ رعايتي لهما تعطيني حقَّ فعل ما أريده، من دون معرفة ما إذا كانا سيختاران العيش معي فعلًا لو أُتيحَت لهما فرصة الاختيار.

أحاول التفكير في أفراد عائلتي غير البيولوجيّين، وأخرج قليلًا من حيّز تفوّقنا البشري على الكائنات الأخرى، وأتشارك أيامي وسريري وبعضًا من جيناتي معهما.1 2 كيف تتماثل ديناميّات الأبويّة والرأسماليّة وتتشابك لتلقيَ بأثقالها عليّ بصفتي امرأة، وعليهما بصفتهما حيوانَين؟ وأين أقف بصفَتي وكيلةً على حياتهما ومستقبل وجودهما؟

عائلاتٌ مُختارةٌ آمِنة

تظن ابنة جيراننا البالغة سبعة أعوامٍ أنّنا أحضَرنا شوشو إلى المنزل بسبب وفاة والدتنا. لكن في الحقيقة، شوشو هو من اختارنا. مسح رأسه بكاحلَينا أنا وأختي في الشارع، فلم نستطع المقاومة وجلبناه معنا إلى المنزل. سردتُ عليها الحكاية وحاولتُ إخبارها بأنّنا لا نستبدل الأمّهات بالقطط. لكن مع ذلك، أظنّ أنّ في حديث الصغيرة جزءٌ من الحقيقة، فأنا بشكلٍ ما استبدلتُ علاقتي السيّئة مع أمّي بعلاقتي مع شوشو. تزامن دخوله إلى حياتي مع إدراكي بأنّ علاقتي بوالدتي لم تكن جيّدة. رافقَني شوشو في رحلة الوعي، تفهّم شعوري بالغضب والخيانة وتأنيب الضمير من حمل الضغينة لشخصٍ ميت. تدريجيًا، أخرجتُ صوت أمّي من عقلي، وأجلستُ شوشو فوق وسادتي، مكان نومه المفضّل. 

dog-toto-800.jpg

تقول آلاء عبد الوهاب: "حين نفكّر في أنّ الحيوانات ليسَت أطفالًا، يباغتنا الالتباس الأخلاقي في شأن طريقة تعاملنا معها، حتّى في أبسط الأمور، مثلًا حينما ترفض توتو النوم في موعدٍ لا تريده، وتقف شامخةً أمام باب الغرفة رافضةً الدخول، كأنّها تقول لي 'مَن تكونين لتقرّري متى ينتهي يومي؟'" | الصورة لآلاء عبد الوهاب

ثمّة كثرٌ مثلي خلقوا عائلاتهم المثاليّة من حيواناتٍ3 مُرافقةٍ بعيدًا من أسَرهم البيولوجيّة ومجتمعهم الضاغط. في عالمٍ تملؤه الاضطرابات السياسيّة والاقتصاديّة والبيئيّة، ألِف الناس الحيوانات التي تُبعِد الوحدة. ليس غريبًا أنّ أكثر من 85٪ من مرافقي الحيوانات يعتبرونها فردًا من العائلة.4 علميًا، نحن أقارب، تجمعنا رابطة الثدييّات.5 وهذا إرثٌ مشتركٌ وعلامةٌ باقيةٌ لتطوّرٍ عمره 250 مليون سنة. نتواصل بودٍ، وتُمضي يومها معنا في الحيّز ذاته، لا تنتقد خياراتنا، وتقدِّم حبًّا غير مشروط. ولأنّها تعيش روتينًا يوميًا مختلفًا، تتجدّد الأيّام حولنا، وتتضاءل مشاعر القلق والجمود ما يسهِّل التكيّف مع تغيّرات الحياة. لهذا رافق سيغموند  فرويد (Sigmund Freud)6 في جلسات التحليل النفسي كلبٌ ليشجّع المرضى على الانفتاح والمشاركة. لا يكترث الكلب بما يحكيه الناس، فيطمئنّون وتتكلّل الجلسات بالنجاح.7

على عكس الصورة النمطيّة السائدة عن رفاق الحيوانات، ولاسيّما النساء، بأنهنّ وحيدات، تُكمّل علاقتُنا بالحيوانات علاقتَنا بالبشر ولا تستبدلها. بالنسبة لي، أشعر أنّني أكثر مرونةً وانفتاحًا مع الآخرين بسبب علاقتي مع شوشو وتوتو، فقد ساعداني في تكوين صداقات أفتخر بها مع مَن يشبهونني. علاقتنا سلسةٌ من دون الحاجة لبدء حديث، نتبادل صورًا ومقاطع فيديو لرفاقنا الصغار، وندردش قليلًا فتختفي الوحشَة.

بالإضافة إلى الرفقة، تخلق رعايتنا للحيوانات مشاعر أبديةً وبريئةً تشبه ما نختبره مع الأطفال، ربّما لأنّها لا تمتلك استقلاليةً ووكالةً على حياتها، كما الأطفال في مراحل الطفولة المُبكرة. أدركتُ مؤخرًا أنّ حسابي الشخصي على إنستغرام يمتلئ بصورٍ لشوشو وتوتو مذيّلةٍ بجملةٍ تشير إليّ بـ "ماما". لستُ أعرف، هل يعتبرانني أمّهما حقًا؟ وكيف أعتبرهما ولديّ على الرغم من أنّني لا أريد إنجاب أطفالٍ أساسًا؟

على عكس الصورة النمطيّة السائدة عن رفاق الحيوانات، ولاسيّما النساء، بأنهنّ وحيدات، تُكمّل علاقتُنا بالحيوانات علاقتَنا بالبشر ولا تستبدلها

في المقابل، قد تبتعد بعض النساء عن مرافقة الحيوانات للسبب نفسه الذي تفضّلها لأجله نساءٌ أخريات: مشاعر الأمومة8 التي تقترن أيضًا بالمسؤوليّة والشعور بالذنب، على الرغم مما تقدّمه من ملذّات الرعاية لنساءٍ يرفضن دور الأم وقيوده الأبويّة في العائلة المغايرة. لذا، يصفُنا علماء النفس في علاقتنا بالحيوانات بـ "مقدّمي الرعاية"، أو الأوصياء، إذ لا يمكن للحيوانات فرض شروطها في علاقتها معنا. فهي تعتمد علينا للبقاء على قيد الحياة نتيجة آلاف السنين من التدجين والاستئناس وتغيّر البيئة حولها.9

قد يكبر الأطفال ويعتمدون على أنفسهم، كما يمكنهم اختيار حياتهم وتحسينها، لكن الحيوان يبقى على حاله، وقد تتفاقم حاجته إلينا. حين نفكّر في أنّ الحيوانات ليسَت أطفالًا، يباغتنا الالتباس الأخلاقي في شأن طريقة تعاملنا معها، حتّى في أبسط الأمور، مثلًا حينما ترفض توتو النوم في موعدٍ لا تريده، وتقف شامخةً أمام باب الغرفة رافضةً الدخول، كأنّها تقول لي "مَن تكونين لتقرّري متى ينتهي يومي؟" لكن من المهمّ إدراك أنّ العيش باعتماديّةٍ غير مُرتبطٍ بفقدان الكرامة، ولا ويؤدّي دائمًا إلى الاستغلال، إذ يمكننا تطوير رعاية الحيوانات بطرقٍ لا تشبه علاقتنا مع أطفال البشر، ومعاملتها ككائناتٍ واعيةٍ ومستقلّة، لأنّ الحيوانات تاريخيًا رفيقتنا نحن النساء في الظلم والألم.

قمعٌ تاريخي موازٍ

بدأ التقارب بين موقع النساء والحيوانات في الهرم الاجتماعي البشري منذ زمنٍ طويل، نتيجة أيديولوجيّة الإقصاء الثنائيّة التي أسّسها البشر للسيطرة على ما حولهم، والتي تبرّر العنصريّة وقمع الآخر. هل أنت إنسانٌ أم حيوان؟ ذكرٌ أم أنثى؟ أبيض أم أسود؟ غني أم فقير؟ هذا ما يُحدِّد مكانتك. ويمكّننا ذلك من تفكيك أسباب سيطرة النظام الأبوي عبر فهم أسباب تفوّقنا البشري بالدرجة الأولى، وكيفيّة سيطرتنا على بقية الأنواع.

كان أسلافنا جامعي الثمار والصيّادين يحترمون الكائنات حولهم ويتواصلون معها،10 مدركين أنّهم يضطرّون أحيانًا للصيد لتأمين الغذاء أو الدفاع عن أنفسهم، لكنهم في الوقت نفسه يشاركونها الأرض والموارد. عاشوا سويًا وفق قوانين تحترم سلامة الآخر ومكانته.11 لكنّ كلّ ذلك تغيّر منذ عشرة آلاف عامٍ حين بدأ البشر بالزراعة وتدجين الحيوان.12 هكذا أحكَمنا قبضتنا على الأرض وكُلّ ما عليها.

cat-shosho-800.jpg

تزامن دخول القط شوشو إلى حياة آلاء عبد الوهاب مع إدراكها بأنّ علاقتها بوالدتها لم تكن جيّدة. تقول: "رافقَني شوشو في رحلة الوعي، تفهّم شعوري بالغضب والخيانة وتأنيب الضمير من حمل الضغينة لشخصٍ ميت. تدريجيًا، أخرجتُ صوت أمّي من عقلي، وأجلستُ شوشو فوق وسادتي، مكان نومه المفضّل". | الصورة لآلاء عبد الوهاب

يُبرِّر الإنسان سلطته المُطلقة بأنّه استثنائي ويتفرّد بالوعي. علميًا، تمتلك جميع الفصائل الحيوانيّة الرئيسة، مثل الثدييات والطيور والأخطبوط، الركائز العصبيّة ذاتها التي تُنتج وعينا، وتقوم بأفعالٍ إراديّةٍ مثلنا تمامًا. لكن السبب الرئيس لتفوّقنا البشري هو إيماننا بأنّنا متصلون بالقوة العظمى:13 الإله، والكون، والأنا العليا، أو ما نظن أنّه سبب وجودنا على البسيطة. لنأخذ ميثولوجيا الأديان الإبراهيميّة مثالًا. خلق الله الإنسان من روحه وكرمه لخلافة الأرض وفق ما ذكر في القرآن، ومنحه حقّ السيادة في سفر التكوين،14 بالإضافة إلى صكّ التمييز، امتلك آدم المعرفة، وعرف أسماء جميع الحيوانات. لذلك من غير المستغرب أن يُسمّى نوعنا (Homosapien)، أي الإنسان العاقل أو الرجل الحكيم.15

لعلّي أدركتُ تماثل وعينا مع وعي الحيوانات حين كنتُ أراقب شوشو وتوتو يحلمان بالكوابيس، فيموء أو ينبح أحدهما بصوتٍ مخنوق، ويركل الهواء بإحدى قدمَيه، فأحاول إيقاظه مطوّلًا قبل أن يفتح عينَيه بصعوبةٍ وينظر حوله متفاجئًا أنّه ليس في الحلم. عرفتُ حينها أنّ لهما مخاوفٌ وماضٍ وذكريات، ووعيٌ وعقلٌ باطنٌ، مثلي، يغرق في الأحلام أو الكوابيس.

لكن عوضًا عن تمكين الحيوانات وتقبّل فرادتها، سيطر المجتمع الأبوي عليها إسوةً بسيطرته على النساء. أوّلًا، حين قرن بين المرأة والطبيعة باعتبارهما تجلبان الحياة ويجب ترويضهما لتمتثلا للأوامر، وتقديمهما، هي والحيوان غير المروّض، قربانًا للآلهة طلبًا للرضا والحماية في حقبة المجتمعات الزراعيّة. وثانيًا، جرى تملّك المرأة باعتبارها وسيلةً للإنجاب وزيادة عدد أفراد القبيلة، كما جرى تملّك الموارد الطبيعيّة لتأمين الغذاء وضمان العيش والنجاة، في ظلّ حقبة من الصراعات البدائيّة التي قامت على السيطرة والملكيّة كوسيلةٍ لاكتساب القوّة وبالتالي الاستمراريّة والبقاء.

يُبرِّر الإنسان سلطته المُطلقة بأنّه استثنائي ويتفرّد بالوعي. علميًا، تمتلك جميع الفصائل الحيوانيّة الرئيسة، مثل الثدييات والطيور والأخطبوط، الركائز العصبيّة ذاتها التي تُنتج وعينا، وتقوم بأفعالٍ إراديّةٍ مثلنا تمامًا

وبما أنّ النضال النسويّ يهدم الثنائيّة الإقصائيّة التي ميّزت الإناث عن الذكور، تكمن بداية الحل في تأسيس نظامٍ أكثر عدالةٍ لا يقوم على التملّك، فيحرّرنا من ائتلاف الذكوريّة والملكيّة. قد يكون الكلام جميلًا، وبالفعل فكّر فيه كثُر، لكنّ تطبيقه يتلاشى تدريجيًا حين يرتطم بالرأسماليّة وتُرُسها المدمّرة.

أنظمةٌ مُحكمةٌ لتدوير العنف

استمرّ الربط بين تملّك النساء والحيوان والطبيعة حتّى في مجتمع ما بعد الثورة الصناعيّة، حيث لا تزال المرأة تشارك الحيوان16 موقعًا رمزيًا في المجتمع الأبوي، هدفه توفير الراحة للذكور جسديًا ونفسيًا والحفاظ على تفوّقهم وهيمنتهم. هذه الزمالة في الاستغلال هي صنيعة النظامَين الرأسمالي والأبوي، والوسيلة الأنجع لإدامة القمع.

تستغل الرأسماليّة الحيوانات عبر طرقٍ عدّةٍ أبرزها العلم والإنتاج. يعتمد التقدّم العلمي والطبي على استخدام الحيوانات في التجارب المخبرية، إذ غالبًا ما تركّز الأبحاث على فهم ودراسة المخاطر التي يتعرّض لها الحيوان لفهم ما قد يتعرّض له الإنسان في ظروفٍ مماثلة.17 أمّا آلام الحيوان ومعاناته وحياته فلا تؤخذ في الحسبان. في الولايات المتّحدة وحدها مثلًا، يقضي ما بين 17 إلى 70 مليون حيوانٍ في مختبرات الأبحاث سنويًا.18

مثلًا، العقار المضاد للاكتئاب الذي أتناوله يُجرّب على الفئران.19 يعاني الفأر وحيدًا في قفصٍ من الآثار الجانبيّة لعقاقير مضادات الاكتئاب، وغالبًا ما تكون آثارًا مضاعفةً وغير معروفة، لاسيما إذا ما كانت تركيبته في طور التكوين. أنظر إلى حبوب الدواء الموضوعة بجانبي وأشعر بالذنب.

الأمر نفسه ينطبق على مراقبة إناث الرئيسيّات.20 فهي ليسَت محايدةً نتيجة الثقافة الذكوريّة الموروثة، إذ تشكّل رعاية الحيوانات تهديدًا مباشرًا للعلوم التقليديّة لأنّها تشكّك في الحياديّة العلميّة. إذا فكّر العالِم في حيوان أبحاثه ككائنٍ مساوٍ له، تنهار الأيديولوجيّة الثنائيّة بكلّ محاورها،21 وتصبح المساواة بين الذكور والإناث بديهيّة. لهذا السبب، يتعلّم العلماء نزع العاطفة والانفصال عن معاناة الحيوانات لإتمام واجباتهم، فيما تبقى المنظومة كما هي. 

استمرّ الربط بين تملّك النساء والحيوان والطبيعة حتّى في مجتمع ما بعد الثورة الصناعيّة، حيث لا تزال المرأة تشارك الحيوان موقعًا رمزيًا في المجتمع الأبوي

في عصرنا الحالي، دمجَت التجارب المخبريّة والأبحاث الحيويّة التجارة بالعلم،22 عبر الاستنساخ واستخدام تقنيات الخلايا الجذعيّة لتطوير الفصائل وإنتاج السلالات مثلما يرغب الإنسان، كأنّها منتجاتٌ لا روح لها. هكذا نعزّز خصائص معيّنةً وفق احتياجاتنا ونتسبّب بتشوّهاتٍ للحيوانات.23

رأسمالية الإنتاج المرتبطة بالحيوانات عنفها مضاعفٌ وهمجيّ ناحية إناث الحيوانات مقارنةً بالذكور.24 لنأخذ الدجاج مثالًا، من أجل إنتاج البيض تُحبَس الدجاجة في أقفاصٍ مكتظّةٍ لا تتوفّر فيها مساحةٌ كافيةٌ لتمدّ جناحَيها، كما تتشوّه ساقاها بسبب الوقوف المستمر، وتنمو أظافرها وتلتفّ حول أسلاك القفص، فلا تتمكّن من الحراك وتموت جوعًا وعطشًا بعد أيامٍ من الألم. أمّا الأبقار، فتُلقّح باستمرارٍ على مدار خمس سنواتٍ من دون راحة، وتنجب من دون أن تتواصل أو تتلامس مع عجولها الرضيعة، وتصاب بالتهاب الضرع نتيجة ضخّ الحليب الدائم، وتُذبح بعد أن تُستهلك تمامًا وتنتقل إلى حفلة شواءٍ لا يدرك أصحابها ماضي طعامهم الأليم.

لا تُستثنى الحيوانات المُرافقة من هذا التعذيب، فتُحبس القطط والكلاب والهامستر والأرانب بأعدادٍ كبيرةٍ في أقفاصٍ صغيرة، وتُباع إذا ما توافقَت مع المعايير الجماليّة التي يضعها البشر؛ مثلًا، قطٌّ أبيض ذو عينَين ملوّنتَين ومن صنفٍ أصيلٍ غير مهجّن. أمّا الحيوانات غير المحظوظة، فتعود إلى عجلة الإنتاج، أو تُقتل، أو تُشرّد. أذكر حين علمَ عددٌ من معارفي وأصدقائي أنّ توتو أنثى، أخبروني أنها قد تشكّل استثمارًا ناجحًا إن زوّجتُها مرّاتٍ عدّةً وبعتُ جراءها.

لأجل تلك الظروف القمعيّة التي جمعَتنا مع الحيوانات من الإنجاب الدوري إلى العمل المجّاني،25 يصبح ضروريًا العمل لإحقاق المساواة وهدم مفاهيم الهيمنة بجميع أنواعها.

النسويّة البيئيّة ونسويّة ما بعد الإنسانيّة

يظن كثرٌ أنّ التوفيق بين علم البيولوجيا والمفاهيم النسويّة مستحيل،26 لأنّ المنظومة الأبويّة استخدمَته أساسًا للمبرّرات التي تقلّل من شأن النساء ومكانتهنّ. مع ذلك، انخرط النضال النسوي في إيقاف الكثير من الممارسات القمعيّة للعلم. مثلًا، أنهَت الناشطات النسويّات تشريح الأحياء في القرن التاسع عشر،27 حين راقبن الحيوانات الحيّة المُقيّدة وهي تنظر إلى مبضع العالِم ينغمس في أجسادها، فتذكّرن ما يعِشنه كنساءٍ في المجتمع. تسعى النسوية إلى تكوين أنظمةٍ مجتمعيّةٍ أكثر تقدّميّة واستدامة. كما أنّ نسويّة ما بعد الإنسانيّة مثلًا، تدعو لإجراء بحوثٍ لا يكون فيها الإنسان مركزًا للبحث بل جزءًا منه، وفق أسُس البيولوجيا التطوريّة وعلم النفس، بغية إيقاف العنف واستبدال الهيمنة الثنائيّة بتعدّديةٍ تعترف باختلاف الأنواع.

أيضًا، تهدف النسويّة البيئيّة28 إلى وقف الاضطهادات وتضارب المصالح البيئيّة بين الإنسان والحيوان عبر خلق مفاهيم بديلةٍ وأخلاقيّةٍ تثمّن التحالف بين النساء وبقية الكائنات، وتتخلّى عن الرغبة في البطولة الفرديّة من أجل إنقاذ الآخرين، أي النظر إلى الحيوانات والآلات كشريكٍ في المقاومة لإنقاذ البيئة، وتحسين العلاقات البشريّة وغير البشرية عبر الاعتراف باختلاف الحيوانات، وليس البحث عن تشابهها معنا فقط.

cat-dog-shosho-toto-800.jpg

تقول آلاء عبد الوهاب: "أشعر أنّني أكثر مرونةً وانفتاحًا مع الآخرين بسبب علاقتي مع شوشو وتوتو، فقد ساعداني في تكوين صداقات أفتخر بها مع مَن يشبهونني". | الصورة لآلاء عبد الوهاب

وفي محاولةٍ لتحقيق هذا المبدأ، ابتكرَت دونا هاراواي (Donna Haraway) مفهوم السايبورغ (Cyborg)،29 وهو كائنٌ هجينٌ يجمع بين التكنولوجيا والخيال،30 ويخلق تواصلًا قويًا ومتبادلًا بين الإنسان والحيوان والتقنية الحديثة، ويطمس عمدًا الحدود بينهم. تحاول هاراواي من خلال السايبورغ الإجابة على تساؤلاتٍ عدّةٍ عن مستقبل الكائنات، ويمكن اعتباره نقطة انطلاقٍ لبناء مجتمعٍ خاضعٍ للمساءلة وغير متحيّزٍ لأيّ فصيلةٍ من المخلوقات. كذلك تدعو النسويّة إلى انتشار ما يُعرف بـ (feminist-dog writing)،31 32 وهي كتابةٌ أكاديميّةٌ غير قياسيّة، مُشتركةٌ ومُتشابكةٌ في إطار ما بعد الإنسانيّة، تُعبّر عن علاقتنا المُعقّدة مع الحيوانات المرافِقة، وتُشركها في الكتابة بوصفها كائناتٍ مستقلّةٍ من دون وكالةٍ بشريّةٍ على النصوص. يركّز هذا النوع من الكتابة33 على السرد من الإنسان وليس عنه، والاشتباك مع الحيوان عبر وضع أنفسنا مكانه: ماذا يفعل؟ ولماذا؟ وكيف يعيش داخل هذا الجسد؟ والمقصود هنا ليس التكلّم باسمه وتخيّل ما قد يمرّ بعقله، بل الانتقال إلى موقعه والكتابة من خلال الإشارات الحسيّة34 والتواصل غير اللفظي، وتبادل المشاعر، ومراقبة ردود أفعال الحيوان إثر المحفّزات، في شكل نثري تجريبي، وهي طريقةٌ ترتكز35 على علاقة الكاتب بالحيوان، وتفاعله معه، وإدراك اختلافنا من دون إلصاق مصطلحات تعبّر عن مشاعرنا تجاه البشر أو تقيس تجاربنا عليهم.36 تتفهّم هذه الطريقة قصور لغتنا ومفرداتنا غير الدقيقة، وأنّ ما نكتبه معًا ليس وصفًا تامًا لتجربة الحيوان، لكنها أكثر نزاهة وإنصافًا له.

تبدو كلّ هذه مفاهيم مُعقدة، لذا إن كنت تتساءل/ين عمّا يمكنك فعله حاليًا مع حيوانك المرافِق لتوطيد علاقتك معه وفق المفاهيم النسويّة البيئيّة وما بعد الإنسانيّة، يمكن البدء بمعاملته باستقلاليّة، وإيلاء احتياجاته النفسيّة الاهتمام نفسه كما الجسديّة،37 ومشاركة علاقتك الآمنة معه مع مَن حولك. بمرور الوقت، سوف تنتشر هذه المفاهيم تدريجيًا وتصبح بنيةً اجتماعيةً راسخة.

شوشو موجودٌ في منزلنا منذ خمس سنوات، أمّا توتو فقد أهداني إياها أخي منذ سنتين. مع ذلك، ما زلتُ مسحورةً بطريقة نومهما، وطقوسهما في لعق جسدَيهما، وصوتهما لدى تناول الطعام وشرب الماء، وكأنّي أراهما للمرّة الأولى. دخلا حياتي في مرحلةٍ حرجة، حين كنتُ في بداية الانتظام على جرعةٍ جديدةٍ من عقار مُضاد الاكتئاب والقلق، وأحاول عبثًا تجاوز آثاره الجانبيّة وتقبّل عقلي من دون أفكاره السابقة التي تكبّله، وكنتُ أخطّط يوميًا للانتحار. معهما تهاوَت خطط الموت في رأسي. اليوم، أنهض من سريري وورائي شوشو وتوتو يبدآن يومهما، يتلذّذان بالطعام والشراب، فأفعل مثلهما.

 

 

  • 1. Donna J. Haraway, When Species Meet, Vol. 3, USA, University of Minnesota Press, 2008, p. 3.
  • 2. لا تزال الخلايا الأولى للتطوّر موجودةً في أحماضنا النووية. وتحتوي جيناتنا البشريّة على 10% من بقايا كائناتٍ أخرى.
  • 3. Aubrey Manning & James Serpell, Animals and Human Society: Changing Perspectives, London- Canada-New York, Routledge, 1994, p. 129.
  • 4. Froma Walsh, “Human-Animal Bonds II: The Role of Pets in Family Systems and Family Therapy”, Family Process, Vol. 48, No. 4, 2009, p. 481.
  • 5. Alan M Beck, “Pets and Our Mental Health: The Why, the What and the How”, Anthrozoos A Multidisciplinary Journal of The Interactions of People & Animals, Vol. 1, No. 3, December 2005, p. 176.
  • 6. Aubrey H. Fine, Handbook on Animal-Assisted Therapy: Foundations and Guidelines for Animal-Assisted Interventions, USA-UK, Academic Press, 2015, p. XX.
  • 7. أُنشئت أول وحدةٍ للطب النفسي تقدّم برنامج علاجٍ بمساعدة حيواناتٍ أليفةٍ في جامعة أوهايو في العام 1977.
  • 8. Leslie Irvine, We Are Best Friends: Animals in Society, USA, Mdpi AG, 2019.
  • 9. Carol J. Adams & Lori Gruen, Ecofeminism: Feminist Intersections with Other Animals and the Earth, New York-London, Bloomsbury Academic, 2014, pp. 375, 390-402.
  • 10. يوفال نوح هراري، الإنسان الإله: تاريخ وجيز للمستقبل، ترجمة حمد سنان الغيثي وصالح علي الفلاحي، أبوظبي، مركز أبوظبي للغة العربية، مشروع كلمة للترجمة، 2021، ص. 72-73.
  • 11. في عصرنا الحالي، لا يزال شعب ناياكا في جنوب الهند يتبع المبدأ نفسه: الأرواحيّون أو Animists.
  • 12. Aubrey Manning & James Serpell, Animals and Human Society: Changing Perspectives, London-Canada-New York, Routledge, 1994, pp. 132-133.
  • 13. Greta Gaard, Ecofeminism: Women, Animals, Nature, USA, Temple University Press, 1993, p 180.
  • 14. Aubrey Maaning & James Serpell, Animals and Human Society: Changing Perspectives, London-Canada-New York, Routledge, 1994, p. 81.
  • 15. توم فيليبس، البشر: موجز تاريخ الفشل، ترجمة يارا برازي، لبنان، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2020، ص. 20.
  • 16. Greta Gaard, Ecofeminism: Women, Animals, Nature, USA, Temple University Press, 1993, pp. 60-72.
  • 17. Leslie Irvine, We Are Best Friends: Animals in Society, USA, Mdpi AG, 2019, p. 20.
  • 18. Greta Gaard, Ecofeminism: Women, Animals, Nature, USA, Temple University Press, 1993, p 65.
  • 19. يوفال نوح هراري، الإنسان الإله: تاريخ وجيز للمستقبل، ترجمة حمد سنان الغيثي وصالح علي الفلاحي، أبوظبي، مركز أبوظبي للغة العربية، مشروع كلمة للترجمة، 2021، ص. 112.
  • 20. Lynda Birke, “Relating Animals: Feminism and Our Connections with Nonhumans, Humanity & Society”, Vol. 31, No. 4, November 2007, p. 307.
  • 21. Lynda Birke, “Science, feminism and animal natures II: Feminist critiques and the place of animals in science”, Women's Studies International Forum, Vol. 14, Issue 5, 1991, p. 457.
  • 22. Donna J. Haraway, When Species Meet, Vol. 3, USA, University of Minnesota Press, 2008, pp. 52-55, 134.
  • 23. Carol J. Adams & Lori Gruen, Ecofeminism: Feminist Intersections with Other Animals and the Earth, New York-London, Bloomsbury Academic, 2014, p. 396.
  • 24. Greta Gaard, Ecofeminism: Women, Animals, Nature, USA, Temple University Press, 1993, pp. 72-73.
  • 25. Lynda Birke, “Relating Animals: Feminism and Our Connections with Nonhumans”, Humanity & Society, Vol. 31, No. 4, November 2007, pp. 308-309.
  • 26. Elina Penttinen, “Posthumanism and Feminist International Relations”, Politics and Gender, Vol. 9, No. 1, March 2013, pp. 96-99.
  • 27. Greta Gaard, Ecofeminism: Women, Animals, Nature, USA, Temple University Press, 1993, p. 179.
  • 28. Carol J. Adams & Lori Gruen, Ecofeminism: Feminist Intersections with Other Animals and the Earth, New york-London, Bloomsbury Academic, 2014, pp. 60, 508-515.
  • 29. Donna J. Haraway, A Cyborg Manifesto: Science, Technology, and Socialist-feminism, USA, Springer, Dordrecht, 1985, pp. 7-56.
  • 30. Lisa Disch & Mary Hawkesworth, The Oxford Handbook of Feminist Theory, USA, Oxford University Press, 2016, p. 680.
  • 31. تستاء الأوساط العلميّة والأكاديميّة من هذا النوع من الكتابة، وتعتبر أنّه يقلّل من احترام الباحث/ة وكفاءة وجدّية عمله/ها لأنه يتحدّى المركزيّة والاستعارات الذكوريّة المُهيمنة على النصوص وسياسات الكتابة الأكاديميّة.
  • 32. Astrid Huopalainen, “Writing with the bitches”, Organization, October 13 2020, pp. 3-4.
  • 33. المصدر نفسه، ص. 9-10-15.
  • 34. Linda Tallberg, Astrid Huopalainen & Lindsy Hamilton, “Can methods do good? Ethnology and multi-species research as a response to covis-19”, Ethnologia Fenncia, Vol. 47,  No. 2, 2022, pp. 107-108.
  • 35. Susan McHugh, “Bitch, Bitch, Bitch: personal criticism, feminist theory, and dog writing”, Hypatia, Vol. 27, No. 3, 2012, p. 619.
  • 36. Catherine Bailey, “Scavengers of the In-between: Feminist Ruminations on Dogs, Love, and Pragmatism”, Between the Species, Vol. 23, No. 1, 2019, p. 35.
  • 37. Leslie Irvine, We Are Best Friends: Animals in Society, USA, Mdpi AG, 2019, p. 83.