"ستّات بتدلّع": الرضاعة الطبيعية بين وَصم المجتمع واستغلال الرأسمالية

اتخذَت الرضاعة معانيَ تتجاوز عملية تغذية الرضيع، وانطلقَت في شأنها خطاباتٌ واسعةٌ منها ما هو شاعريّ، وعلميّ، ودينيّ، وحتى قانونيّ، اتفق أغلبُها على أهمية الرضاعة الطبيعية للطفل والأم، بينما ظهرَت أصواتٌ أخرى تدعو لاستبدالها بالبديل الصناعي. وارتبطَت تناقضاتُ الخطابات بالسياق الاقتصادي والسياسي، لكنّ معظمها اشترك في تغييب أصوات النساء الموكلات مهمة الإرضاع. في هذا المقال، نحاول الاستماع إلى صوت للنساء وفهم تأثير هذه الخطابات عليهنّ.

الرضاعة الطبيعية فطرةٌ أم أيقونة؟

امرأةٌ تحمل رضيعها إلى ثديها؛ صورةٌ أيقونيةٌ معلّقةٌ على جدار البداهة، حتى لو أُخفيَت عن الأنظار لاعتباراتٍ "إباحية"، تظلّ الرضاعة الصورة الأكثر رومانسيةً وتعبيرًا عن الأمومة. إذا ما تحرّكنا في داخل الصورة وتأمّلنا في علاقة التغذية هذه، نجد طفلًا يبدأ علاقته بالطعام مع جسدٍ آخر يحاول ترويض الألم. تسلّمتُ ابنيَ الأول تحت تأثير المخدّر بوخزةٍ من أمي وتوصيةٍ بإعطائه حليب "السّرسوب"، أما الثاني، فالتقطه بينما كنتُ أستمع إلى شرح الطبيب عن كيف ستُعيد الرضاعةُ الرحمَ إلى وضعه المنكمش بفعل الانقباضات الشديدة التي عليّ تحمّلها لكونها "هدية" الطبيعة … وسبحان الله.

وضعَت الرضاعة الثنائية التي افترضَت أنّ الأدوار الجنسية طبيعيةٌ والأدوار الاجتماعية ثقافية، في موقعٍ حرج، وأظهرَت أن من المناسب أكثر التفكير فيها وفق طرح المفكرة والكاتبة في مجال دراسات الجندر جوديث بتلر (Judith Butler) التي أكدَت أنّ الجنس البيولوجي نفسه فئةٌ مُجندَرة، فلا ينبغي أن يُرى الجندر باعتباره المعنى المنقوش ثقافيًا لسطحٍ مُعطًى ومُعرّفٍ مسبقًا، بل ينبغي أن يُرى الجندر أيضًا بوصفه نظام الإنتاج الذي ينشأ بواسطته الجنسَان (البيولوجيّان). ونتيجةً لذلك، الجندر ليس ثقافيًا والجنس البيولوجيّ ليس طبيعيًا؛ بل الجندر هو الوسيلة الخطابية/الثقافية التي تُنتج "الطبيعة المُجَنَّسة" أو "الجنس الطبيعي".1

للوهلة الأولى، يُنظر إلى الرضاعة على أنها بديهيةٌ تاليةٌ للإنجاب، دورٌ بيولوجي مسندٌ للأمهات. لكن يبدو أن الأمر لم يكن كذلك حتى وإن التزمَت به أغلب النساء تاريخيًا، فهناك قلّةٌ غير نادرةٍ لم تستطع أو لم تشأ الالتزام به، ما أفرز حاجةً إلى وجود مُرضِعاتٍ يقدّمن الرضاعة عملًا مقابل أجرٍ منذ قديم الزمان، ودفع بالأديان إلى تنظيم الرضاعة بوصفها مسألةً فقهيةً تتحدّد صلاتُ القرابة والزواج بناءً عليها. ففي الإسلام، يُحرّم زواج الإخوة في الرضاعة بنصٍّ قرآني2 وحديثٍ سنّي،3 وللمطلّقة نفقةٌ عن رضاعة أبنائها.

للوهلة الأولى، يُنظر إلى الرضاعة على أنها بديهيةٌ تاليةٌ للإنجاب، دورٌ بيولوجي مسندٌ للأمهات. لكن يبدو أن الأمر لم يكن كذلك حتى وإن التزمَت به أغلب النساء تاريخيًا، فهناك قلّةٌ غير نادرةٍ لم تستطع أو لم تشأ الالتزام به

أتصوّر أن المجتمعات التقليدية مهّدَت نسبيًا مهمّة الإرضاع للنساء غير الراغبات أو فاقدات القدرة على تحمّل أعباء الرضاعة، فإتاحة الوصول لدوائر القريبات أو الجيران أو حتى المُرضِعات المأجورات داخل العائلة الممتدة، سهّلَت لبعض النساء البوحَ بالعجز عن الإرضاع. لا أقول إنها خلّصَتهن تمامًا من دورهنّ كمُرضِعاتٍ أو تفهّمَت الرضاعة بصفتها دورًا اجتماعيًا، لكنّ وجود بدائل داعمةً وممكّنةً خلّص بعض النساء من ضغط "إما أن تُرضِعي أو يموت طفلك".

هل حرّر اللبنُ الصناعي النساءَ من الإرضاع؟

حين تشكّلَت المجتمعاتُ الأوروبية الحديثة إبّان الثورة الصناعية في فترة 1750-1850 التي انتهَت بمشاركة النساء في سوق العمل مدفوع الأجر، زادت حدّة أزمة الإرضاع، وأصبحَ عدم القدرة أو الرغبة في الإرضاع مرتبطًا بعمل النساء في مؤسّساتٍ مختلفة. وسواء كانت الأسباب طبقيةً أو نفسيةً أو عملية، لم تستمع تلك المؤسّسات لحاجات النساء ورؤاهنّ لحلّ الأزمة، ولم يتمّ البحث في تعديل نظام العمل على نحوٍ يمكّن النساء الراغبات من إرضاع أولادهنّ، لأنّ أيّ تعديلٍ في النظام يعني تهديدًا لكثافة الإنتاج.

هذا هو السياق الذي جعل الحاجة إلى بديلٍ فردي أمرًا ملحًا في تلك اللحظة. وفي عام 1865 حصل الكيميائي يوستوس فون ليبيغ (Justus von Liebig) على براءة اختراع اللبن الصناعي الذي سُوّق بديلًا للبن الأم برغم اختلاف التركيبة الكيميائية الصناعية عن التركيبة الطبيعية، وكانت عبارةً عن (دقيق القمح + شعير + بيكربونات البوتاسيوم + لبن حيواني). بعدها، تطوّرَت التركيبات واختلفَت، وأُضيف إليها السّكّر والنشاء ومواد أخرى. اليوم، ثمة أربع تركيباتٍ كيميائية لإنتاج اللبن الصناعي تعتمدها مئات الشركات، ثم تصنّف منتجاتها بحسب الفئات العمريّة للأطفال واحتياجاتهم.

تقول نبيلة (اسم مستعار، 35 عامًا): "كنتُ أعمل صحافيةً في مقرٍّ لجريدةٍ في حيٍّ راقٍ من أحياء القاهرة، وكان المقرّ عبارةً عن شقّتَين دائمتَي الاكتظاظ بالصحافيّين والصحافيّات. عندما كنتُ حاملًا في الشهور الأخيرة، تطرقتُ مع الزميلات إلى موضوع إلزام المؤسّسة بإنشاء حضانةٍ لأولادنا لنتمكّن من إرضاعهم فيها. علمتُ وقتها من صديقةٍ مختصّةٍ في المواضيع القانونية أنّ قانون العمل يُلزم المؤسّسة بإنشاء حضانةٍ عندما يصل عدد العاملات فيها إلى 100 امرأة. اقترحَت عليّ مديرتي أن أُحضر ابني وأتركه مع ابنة حارس العقار، لكنّها رفضَت بدورها لانشغالها بأعمال النظافة التي تدرّ دخلًا أفضل من رعاية الأطفال".

وتتابع نبيلة: "بحثتُ في دور الحضانة المجاورة للمقرّ، ووجدتُ أن الأرخص بينها يزيد اشتراكُه الشهري عن مرتّبي بكامله. كنت أود أن أرضع ابني رضاعةً طبيعيةً وأغنيه عن اللبن الصناعي وأوفّر على أمي جهد رعايته بينما أكون أنا في العمل، ومجهود تحضير الرضعات، لكن الأمر كان مستحيلًا. كان اللبن يتراكم في ثدييّ، ومن الظهيرة حتى انتهاء دوام العمل في الخامسة، كان الثقل فيهما لا يُحتمل. نصحَتني صديقةٌ لي بأخذ دواءٍ لانقطاع اللبن، لكنّني كنتُ حريصةً على الرضاعة الطبيعية حتى ولو رضعتَين فقط في المساء، فنصحَتني أخرى بشفط اللبن بمضخّةٍ مخصّصةٍ لذلك. وبالفعل، بدأتُ أقوم بذلك وأرمي اللبن في حوض المياه في الحمام في أثناء دوام العمل كل يوم".

تشتري الأمهات التركيبة السحرية البيضاء وكذلك الببرونات، والمعقّمات، والحلمات، وفرشاة التنظيف ليضمنّ تحرير المؤسّسات من "تهديد" تأثر دورهنّ الإنتاجي بدورهنّ الإنجابي والرعائي

تشتري الأمهات التركيبة السحرية البيضاء وكذلك الببرونات، والمعقّمات، والحلمات، وفرشاة التنظيف ليضمنّ تحرير المؤسّسات من "تهديد" تأثر دورهنّ الإنتاجي بدورهنّ الإنجابي والرعائي. وسواء كان ذلك باختيارهنّ اللبن الصناعي أو عبر رمي اللبن في حمّام مكان العمل، تُتهم النساء بالتقصير تحت سطوة خطاب أهمية الرضاعة الطبيعية للطفل والأم، الذي رغم صحّته أقلّه من الناحية العلمية، تحوّل إلى خطابٍ قاهرٍ وإلزامي وشموليّ لا يُسمح للنساء بالخروج عن طوعه.

بِكَم الرضاعة الطبيعية اليوم؟

انطلاقًا من منطقٍ اقتصادي رأسمالي بحت، يتبادر إلى ذهني السؤال: إذا كان اللبن الصناعي بديلًا للبن الأم، وتتم عمليات شرائه وبيعه مع أدواته بسلام، فلماذا إذًا تستمرّ خطابات إلزام النساء بالرضاعة الطبيعية؟

خصّصَت منظمة الصحة العالمية الأسبوع الأول من شهر أغسطس/آب من كل عامٍ للتثقيف عن أهمية الرضاعة الطبيعية. وتُنظّم بالتعاون مع اليونيسف العديد من الفعاليات كما تنفذ النشاطات مع المؤسّسات النسائية والنسوية الرسمية وغير الرسمية في دولٍ عدّة. في مصر، مثلًا، وفقًا لمصادر وزارة الصحة والسكان في شأن معدّلات الرضاعة الطبيعية لعام 2021، بلغَت نسبة الأطفال الذين بدأوا بالرضاعة الطبيعية في خلال الساعات الأولى من الولادة 63%، كما بلغَت نسبة الأطفال ممّن هم في سنّ 4 أشهر  ويرضعون رضاعةً طبيعيةً مطلقةً 73%. أمّا الأطفال الذين بلغوا سنّ 18 شهرًا واستمرّوا في الرضاعة الطبيعية فبلغَت نسبتهم 73.6%.

وإزاء هذه النسبة العالية من الأطفال الذين يرضعون طبيعيًا في ظل عدم وجود أي تغييراتٍ في قانون العمل، نتوقع أنّ يكون العديد من الأمهات استغنَيْنَ عن العمل، أو قدّمن استقالاتهنّ أو طلبات إجازةٍ غير مدفوعة الأجر للتفرّغ لرعاية أولادهنّ. فبينما تبنّت وزارة الصحة والسكان خطابَ الرضاعة الطبيعية، لم تُلاقِها أيٌّ من الوزارات المعنيّة، مثل وزارة القوى العاملة أو وزارة العدل، كما لم يُقدم أيّ مشروعٍ في البرلمان لحلّ أزمة تناقُض الرضاعة مع عمل النساء خارج المنزل. والأمر مفهومٌ في سياق انتفاخ سوق العمل بالعمّال، وإحلال الآلة مكان العمالة، وتمكين المؤسّسات من الاستغناء عن عمّالها وتسريحهم، إذ بات السوق يرحّب بمَن لا تعوقه أيّ ظروفٍ أو أدوارٍ عن الإنتاج وخدمة رأس المال.

تقول أسماء (اسم مستعار، 37 عامًا) التي تعمل في مجال التسويق الرقمي: "أنجبتُ منذ عامٍ واحد، كان عمري وقتها 36 عامًا، بعد ضغوطٍ كثيرةٍ وتخوفٍ من تأثير تقدّمي في السّن على قدرتي على الإنجاب، وعلاقة ذلك بزيادة احتمالات التوحد لدى الأطفال. حلمتُ بالأمومة كثيرًا، وكنتُ قد اتخذتُ قرارًا مع زوجي بترك العمل بمجرّد الولادة حتى "أشبع من بنتي وبنتي تشبع مني". قلتُ إنّي لن أعود إلى العمل قبل أن تبدأ ابنتي سنواتها الدراسية. بمجرّد حدوث الحمل، سألتُ الأصدقاء وقرأتُ عمّا يحتاجه الطفل في خلال السنة الأولى".

تمكّن النظام الرأسمالي من تحقيق الاستفادة القصوى من كلّ تناقضاتِ الخطاب في شأن الرضاعة الطبيعية. ففي لحظات التراجع، قدّم اللبن الصناعي بديلًا صحيًا

وتتابع أسماء: "اشتريتُ بكلّ ما أملك، وكان مبلغ 20 ألف جنيه (حوالي 646 دولارًا أميركيًا وفقًا لسعر الصرف الحالي)، أدواتٍ وملابس وأجهزةً تخصّ الطفلة. بالنسبة للرضاعة، نصحَني الطبيب بتناول ثلاث فيتاميناتٍ مستوردةٍ بلغَت ميزانيتها 500 جنيه في الشهر (حوالي 16 دولارًا أميركيًا وفقًا لسعر الصرف الحالي)، كما اشتريتُ وسادةً مخصّصةً لتسهيل وضعيّة الرضاعة الصحيحة لي ولابنتي. أحضرتُ أيضًا مضخةً كهربائيةً وأخرى يدويةً لشفط اللبن وتركه فيها في حال غبتُ عن ابنتي وتركتها مع أمي لساعتَين. اشتريتُ ساتر الرضاعة لأتمكن من الإرضاع خارج المنزل وفي الزيارات العائلية. ولأننا كنا في فصل الصيف، رفضَته البنتُ فاضطُررتُ لاستبداله بـ "تي شيرت" مخصّصةٍ ذات فتحاتٍ تسهّل الرضاعة من دون الكشف عن الثدي. "ما فيش حاجة ما اشتريتهاش"، كان الجميع ينصحني بالشراء، وكان الإيقاع أسرع من أن أفكر إن كنتُ أحتاج كل تلك الأشياء أم لا. لم تكن لديّ أيّ خبرةٍ مسبقةٍ عن فعاليتها. فبين أمي التي كانت تقول أن ليس هناك أيّ فائدةٍ لكلّ تلك المشتريات، وبين مواقع الإنترنت التي تنصح بضرورة اقتناء تلك الأغراض للحفاظ على صحة الطفل ودعمه في رحلة الانتقال من الرحم إلى الحياة، أضعتُ أموالي واضطررتُ للبحث عن فرصٍ للعمل من المنزل. ورغم كون العمل ضاغطًا بسبب تزامنه مع ممارستي دور الأمومة، إلا أنه حسّن من وضعيَ المادي وحافظ على وقتي الذي أقضيه مع ابنتي".    

 يمكننا أن نستنتج من العرض السابق كيف تمكّن النظام الرأسمالي من تحقيق الاستفادة القصوى من كلّ تناقضاتِ الخطاب في شأن الرضاعة الطبيعية. ففي لحظات التراجع، قدّم اللبن الصناعي بديلًا صحيًا، بل أضاف له طابعًا حداثيًا وطبقيًا ونسويًا أيضًا، فصار خلطةً علميةً صحيةً تحرّر النساء من قيود العمل الرعائي، وتحفظ جماليات جسد الأم وفقا للنموذج الهوليودي، ما برّر ارتفاع سعره وأدواته.

أما عندما اجترّ الخطابُ الإسناداتِ العلميّة المؤكّدة على أهمية لبن الأم، وبينما انحازَ أغلب النساء له، طوّرَت شركاتُ منتجات الرعاية بالرضّع أدواتها مستندةً إلى جملٍ تسويقيةٍ تربط شراء منتجاتها بالراحة، والسعادة، وتحقيق الأمان، وتسهيل المهمّة على الأم والطفل.  

الذنب يمنع البوح

طرحَت شبكةُ الإنترنت مساحةً للنساء ليَبُحن ويتحدّثن عن قضاياهنّ، سواء عبر النشر الفردي أو التحرّك الجماعي، وأقصد هنا الحملات الدعائية التي تنشر فيها النساء مشاركاتهنّ تحت هاشتاج موحّدٍ في شأن قضيةٍ محدّدة. منذ حوالي شهر، اطلقَت الصفحة النسوية Superwomen حملةً دعائيةً بعنوان "غدي النونة". وعنها تقول آية منير، المسؤولة عن المبادرة والصفحة: "أطلقنا الحملة حين صرّحَت نهاد أبو القمصان (مديرة المركز المصري لحقوق المرأة) أنّ المرأة غير ملزمةٍ شرعًا بالرضاعة، ورغم استنادها إلى الآراء الفقهية، إلا أنها هوجمَت من كُثُرٍ بالسّباب والتهجّم وحتى السخرية. أظهرَت تعليقاتٌ مثل "الرضاعة فطرة/ ستات بتدلّع/ ربّنا حطّ اللبن في صدر السّت عشان تعمل كابتشينو" جهلًا وإخفاقًا في تقدير الكثيرين متاعب الرضاعة وآلامها، فدعَينا عبر صفحتنا النساء لكتابة تجاربهنّ مع الرضاعة، سواء اخترنَ أن يرضعن طبيعيًا أو صناعيًا لأيّ سببٍ كان. توقّعنا أن تصِلنا عشراتُ القصص، لكن فوجئنا بتلقّينا عشر قصصٍ فقط، خمسٌ منها رفضَت كاتباتُها النشر أساسًا لكن شاركنَ من باب دعم العمل على القضية، والخمس الأخريات وافقنَ على النشر من دون أسماء".

إنّ الخطاب الرومانسي في شأن الرضاعة وتعاظم التخيّلات عن الامومة، يوقع بالنساء في فوهات الذنب، والذنب كفيلٌ بأن يُبقيهنّ معزولاتٍ ومنكبّاتٍ على تأدية أدوارهنّ من دون السماح لهنّ بمجرّد التفكير فيها

وتتابع آية منير: "دارَت القصصُ حول الوصم المجتمعيّ للأم التي ترفض الإرضاع أو تعبّر عن ألمها من الرضاعة، منهنّ واحدةٌ كانت مرّت باكتئاب ما بعد الحمل، واثنتان عانتا مشاكل صحيةً أدّت إلى جفاف اللبن. ورغم أن هؤلاء الأمهات لم يرفضن الرضاعة الطبيعية بل كان الأمر مرتبطًا بعجزهنّ عن الإرضاع لظروفٍ صحيةٍ ونفسية، إلا أنهنّ حوصرنَ بالوصم المجتمعيّ واللّوم والاتهامات، فضلًا عن جهل بعض الأطباء والاستخفاف بآلامهنّ. حتى حين نُشِرت القصص، فوجئنا بتعليقاتٍ من المتابعين والمتابعات تسخر من القصص وتستنكرها رغم كل ما تحويه من ألم، بالإضافة إلى تناقل الأقاويل العلمية المغلوطة مثل أنّ الرضاعة الطبيعية تحمي الأم من سرطان الثدي، أو المبالغة في تصوير الآثار الجانبية للّبن الصناعي على صحة الأطفال".

تجد آية منير أن المجتمع يتعامل مع الرضاعة باعتبارها من المسلّمات، ويُشعِر الأمهات بالذنب إن لم يلتزمن بالصورة المتخيّلة عن الأمومة المقدّسة المرتبطة بالتحمّل والتضحية والإيثار، ولو لم يكُن ذلك هو الحال، لكانت مئات النساء عبّرن وشاركنَ تجاربهنّ مع الرضاعة بكلّ جوانبها الحسّية.

تقول إيمان مرسال في كتابها "كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها": "يبدو الشعور بالذنب وكأنه الشعور الذي يوحّد الأمهات على اختلافهنّ. إنه يكمن في المسافة التي تقع بين الحلم والواقع مثلما في البنوّة والحب والعمل والصداقة، هو أيضًا نتاج المسافة بين مثالية الأمومة في المتن العام وبين إخفاقاتها في الخبرة الشخصية".4

إنّ الخطاب الرومانسي في شأن الرضاعة وتعاظم التخيّلات عن الامومة، يوقع بالنساء في فوهات الذنب، والذنب كفيلٌ بأن يُبقيهنّ معزولاتٍ ومنكبّاتٍ على تأدية أدوارهنّ من دون السماح لهنّ بمجرّد التفكير فيها. الشعور بالذنب يُخجلنا من ألمِنا، ويمنعنا من التعبير عنه، ويُنسينا صوتنا.

 

 

  • 1. Judith Butler, Gender Trouble: Feminism and the Subversion of Identity, New York, Routledge, 1990, p. 7. The Arabic translation is available on the relevant links in the section.
  • 2. {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} النساء 23.
  • 3. يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب (متفق عليه).
  • 4. إيمان مرسال، كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها، سلسلة كيف تـ مع مؤسسة مفردات، برلين - بروكسل، 2017.