الاقتصاد النسوي في مجابهة لعبة الرأسمالية الصفرية

ترتبط سيرة "الاقتصاد النسوي" عندي بواقعة تقديم استقالتي من أحد أماكن عملي السابقة، حيث كنت أكدح لأكثر من عشر ساعات يوميًا كحال جميع نساء الطبقة الكادحة، مِمّن أدارَت قوّة عملهنّ مصانع الثورة الصناعية بالأمس، ويدُرن اليوم في فلك الرأسمالية النيوليبرالية التي خلقَت بؤسًا هائلًا بنجاحها في اختلاق سرديّة تمكين المرأة من أجل تجميل واقعها القبيح، وموظِّفةً حلم المساواة بين الجنسَين من أجل تكديس المزيد من الثروات عبر الاستغلال. لقد جعلَ هذا النظامُ السعيَ إلى الربح على حساب رفاهية الفرد أمرًا حميدًا للترقّي على السلم الاجتماعي، وتجسيدًا لمبدأ "البقاء للأقوى"، ضمن لعبةٍ صفريةٍ (Zero-Sum Game) لا فوز فيها إلّا بخسارة الآخر.

النساء في مواجهة قبضة يدٍ مضمومة

منذ قرابة عام، تلقيتُ رسالةً إلكترونيةً من مقرّ عملي، مُرفقٌ بها عن طريق الخطأ كشفٌ للأجور الشهرية للموظّفين، يوضح أنّ زميلي في العمل الذي تقلّ مهامه بمقدار خمسة أضعافٍ عن مهامي يزيد أجره بمقدار الضعف عن أجري. ظننتُ حينها أنَ مديري الذي أبدى ضيقه لرفضي العمل في خلال العطلة الرسمية لعيد الأضحى ينال مني على طريقته، بيد أنّ تتبع تفاصيل الكشف أظهرَت وجود سياسة تحيّزٍ جنسي. فانتهى الأمر بتقديم استقالتي مع مجموعةٍ من الزميلات والزملاء رفضًا منّا لتداخل أساليب الاستغلال في منظومة العمل.

لم أتقبّل يومها أن ينطبق عليَّ في القرن الحادي والعشرين، ما قالته الناشطة والكاتبة الماركسية إلينور ماركس (Eleanor Marx)، الابنة الصغرى لكارل ماركس، قبل أكثر من قرنٍ ونصف القرن، عمّا أسمَته بالمَهن المُرهِقة (Sweated Trades): "إذا أردت العيش من قوّة عملك، عليك العمل تحت ضغط عالٍ، ولساعاتٍ طويلةٍ جدًّا، تفوق ثمانية ساعاتٍ يوميًا".1 لكن ماذا عن الأخريات؟ النساء الكادحات في أعمالٍ لا تُغطِّيها قوانين العمل، وأجورها متدنّية، وفرص الترقّي فيها ضئيلة، مثل العاملات الفقيرات في المصانع والورش والحقول داخل ضواحي الهند والبرازيل ومصر، ولاجئات الشتات السوري والفلسطيني؟ ماذا عن غيرهنّ في جميع بقاع الأرض المعرّضات لكافة أشكال العنف والتمييز واللامساواة، ولاسيما النسوة ملوَّنات البشرة والمتحدِّرات من طبقاتٍ وأعراقٍ تعاني من الإقصاء والتهميش، مِمَّن يكدحن في سبيل كسب لقمة العيش لهنّ ولأسرهنّ من دون حقّ الشكوى وإلّا طُردن من عملهنّ وعجزهنّ عن تلبية احتياجاتهنّ وأسرهنّ، بعد نبذهنّ اجتماعيًا وحرمانهنّ اقتصاديًا من كافة الفرص. ماذا عنهنّ؟

في الوقت الذي أكّدت فيه ‫مجلّة ذي إيكونوميست (The Economist) أنّ: "النمو الاقتصادي تحرّكه النساء، لا الصين ولا الهند ولا الإنترنت"، كانت النساء يصارعنَ من أجل تحسين أوضاعهنّ المعيشية والمهنية في مختلف القطاعات

إذا تتبّعنا واقع النساء في أيّ مجتمعٍ في العالم، سوف نجد أنهنّ ساهمنَ بالجزء الأكبر من اقتصاده، لكنهنّ مثلما قالت الراحلة أنديرا غاندي (Indira Gandhi)، لا يستطعن مصافحة قبضة يدٍ مضمومة الأصابع. ففي الوقت الذي أكّدت فيه ‫مجلّة ذي إيكونوميست (The Economist) أنّ: "النمو الاقتصادي تحرّكه النساء، لا الصين ولا الهند ولا الإنترنت"، كانت النساء يصارعنَ من أجل تحسين أوضاعهنّ المعيشية والمهنية في مختلف القطاعات، من الأسرة إلى العمل والسياسة والاقتصاد داخل مجتمعاتٍ يسودها نظامٌ طبقي، وتتشكّل العلاقات الاجتماعية فيها على نسق العلاقات الاقتصادية التي يحكمها السّعي إلى المال، في إطار لعبةٍ صفريةٍ يقع الفقر والعوز فيها على عاتق الفرد وحده. 

وبعدما كان "إنهاء كافة أشكال التمييز ضد النساء والفتيات في كلّ مكان"2 يحتلّ الهدف الخامس ضمن أهداف الأمم المتّحدة للتنمية المستدامة (SDGs)، أطلَّ علينا الأمين العام للأمم المتّحدة أنطونيو غوتيريش (António Guterres) ليبشِّرنا بأنّ قضية المساواة الكاملة باتت هدفًا بعيد المنال، متوقعًا تعذّر تحقيقه قبل 300 عام، وبالتالي يجب على النساء أن يكدحن ليلًا نهارًا لكسب لقمة عيشهنّ في ظروفٍ شاقةٍ يسودها التحيّز الجنسي. فوفقًا لتقرير البنك الدولي "المرأة وأنشطة الأعمال والقانون 2023"، هناك 84 بلدًا يقيّد عمل المرأة، ويسجّل فجوةً جندريةً في الأجور، في حين لو حصلَت النساء طوال حياتهنّ على نفس دخل الرجل، لزادَت الثروة العالمية بنحو 172 تريليون دولار.

لماذا الاقتصاد النسوي ضرورة؟

أثبتَت التجربة أنّ الرأسمالية ما هي إلّا حلبة مصارعة، تتقاتل فيها المصالح من دون أدنى اعتبارٍ للأخلاق، بحيث تخلق تعاسةً مهولةً وخللًا يُهدِّد استمرارها كنظامٍ اقتصادي يسود العالم جرّاء سعيها الحثيث إلى تحقيق الربح على حساب البشر، على نحو يتماشى مع تأكيد الثنائي الاقتصادي ستيفن ليفيت (Steve Levitt) وستيفن دوبنر (Stephen Dubner) في كتابهما "الاقتصاد العجيب" (Freakonomics) بأنّ الأخلاق تمثِّل طريقةً يريد الجميع أن يسير عليها العالم، بينما الاقتصاد يمثِّل طريقةً يعمل بها العالم.

أثبتَت التجربة أنّ الرأسمالية ما هي إلّا حلبة مصارعة، تتقاتل فيها المصالح من دون أدنى اعتبارٍ للأخلاق، بحيث تخلق تعاسةً مهولةً وخللًا يُهدِّد استمرارها كنظامٍ اقتصادي

صحيحٌ أنّ الرأسمالية حقّقَت زيادةً مطردةً في النمو الاقتصادي العالمي في خلال العقود الأخيرة، إلّا أنّ المشكلة الاقتصادية ما زالَت قائمةً مع استمرار الفقر والجوع وإهمال مصالح المرأة كجزءٍ أساسي من عملية التنمية.3 تُركز الرأسمالية بطبيعتها الاستغلالية على زيادة حجم الكعكة لا على تقسيمها بعدالة. وحاليًا، يعيش نصف سكان العالم بأقلّ من دولارين في اليوم، وغالبيتهم من النساء المهمّشات.4

في الواقع، ظهر مصطلح "تأنيث الفقر" (Feminization of Poverty)،5 كتعبيرٍ عن أنّ الفقر قضيةٌ نسائيةٌ بالدرجة الأولى، في ظلّ عدم انسجام النماذج الاقتصادية ذات النظرة الذكورية مع الحقائق الاقتصادية القاسية التي تؤثِّر سلبًا على جودة الحياة الاجتماعية. على سبيل المثال، لا يُخبرنا نموذج قياس إجمالي الناتج المحلي6 عن كيفية توزيع معدّلات النمو، أو قيمة الأعمال المنزلية غير المأجورة، أو تفاوت الأجور بين الجنسَين، أو إنتاج النساء ملوَّنات البشرة داخل سوق العمل، أو حتى قيمة الثروات الطبيعية المُهدَّدة بانبعاثات غازات الاحتباس الحراري، والتي تتحمَّل النساء المهمَّشات داخل البلدان منخفضة الدخل الجزء الأكبر من أضرارها.

في هذا السياق، شكّكَت الحركة النسوية في جوهر النظرية الاقتصادية وأدواتها، وأظهرَت فقر الاقتصاد الرأسمالي "ذكوري النزعة" بالمقارنة مع دراسات الاقتصاد النسوي، التي تبيِّن إنسانية الاقتصاد وأخلاقيّته بسعيه إلى استكشاف التركيبات الاجتماعية والحقائق الاقتصادية بصورةٍ أكثر كمالًا داخل المجتمع. فمعاملة جميع أفراد المجتمع كما لو أنّ لديهم نفس الاحتياجات والمشاكل والقدرة على الوصول المادي للموارد، لا تخبرنا شيئًا عن الآليات السياسية والاقتصادية التي تؤدّي إلى الإقصاء الاقتصادي لفئةٍ دون أخرى.

حتميةٌ تاريخيةٌ لظهور اقتصادٍ جديد

على هذا النحو، ينظر الاقتصاد النسوي إلى مجريات الواقع ويضمِّنها في التحليل الاقتصادي لمواجهة المعضلات الأخلاقية التي لم تُسخَّر أيّ فلسفةٍ لتبريرها منذ أن صاغ كارل ماركس (Karl Marx) فكرة "المادية التاريخية" (Historical Materialism) في عمله الأبرز "رأس المال: نقد الاقتصاد السياسي". فيحاجج ماركس ضمن تحليله لتاريخ الرأسمالية بأنّ علينا دراسة الصراعات الواقعية والعلاقات المادية (الاقتصادية والسياسية والاجتماعية) بين أفراد المجتمع من أجل فهم الطبقة الكادحة عبر التاريخ، ويؤكّد على أنّ الثورة الصناعية أفرزَت تفسخًا اجتماعيًا حوّل الطبقة العاملة إلى أداة إنتاج، وجعلها تبيع قدرتها الإبداعية والإنتاجية، أي الجزء الأكثر إنسانيةً من حياتها، من أجل كسب العيش.

اكتسبَت احتمالية تطوير اقتصادٍ نسوي زخمًا لدى الحركة النسوية في العالم في خلال حقبة السبعينات في القرن الماضي، بعدما أدركَت الموجات المتعاقبة منها أهمّية امتلاك عدسةٍ تقاطعيةٍ بين أشكالٍ مختلفةٍ من الاضطهاد

يقول ماركس في إطار تفسيره الاقتصادي لتاريخ الفقر إن الظروف القاسية، التي عمل بها الأطفال والنساء والرجال داخل المصانع في حقبة الثورة الصناعية، لخِّصت قيمة الفرد بالمال الذي يمكن أن يستبدل به عمله. فانتقلنا من عبودية الرقّ إلى عبودية العمل داخل مجتمعٍ رأسمالي يرتبط بعلاقاتٍ تراتبيةٍ مادية.7

وبناءً عليه، اكتسبَت احتمالية تطوير اقتصادٍ نسوي زخمًا لدى الحركة النسوية في العالم في خلال حقبة السبعينات في القرن الماضي، بعدما أدركَت الموجات المتعاقبة منها أهمّية امتلاك عدسةٍ تقاطعيةٍ بين أشكالٍ مختلفةٍ من الاضطهاد والعنصرية واللامساواة بين الجنسَين، وبالتالي ضرورة خلق اقتصادٍ أكثر عدلًا لجميع أفراد المجتمع وليس للنساء فقط.

لكنّ إضفاء الطابع المؤسّسي على الاقتصاد النسوي باعتباره اتجاهًا بحثيًا داخل علم الاقتصاد حدث في مطلع التسعينات من القرن الماضي. من هنا، يمكن القول إنّ الاقتصاد النسوي فرعٌ تكميلي لعلم الاقتصاد، يسعى إلى تصميم نماذج اقتصادية مبنية على التنوّع الطيفي اعتمادًا على الدراسات الاستقصائية التكميلية، من أجل فهم العلاقات المعقّدة الناتجة عن تقاطع الجندر مع الهويات الاجتماعية الأخرى (مثل العرق والطبقة)، إلى جانب التوجّه الجنسي في تشكيل السياسات والنتائج الاقتصادية، والتركيز على القضايا التي أُهملَت في النماذج الاقتصادية التقليدية والتي غالبًا ما تُهيمن عليها النظرة الذكورية، مثل: الأعمال المنزلية غير المأجورة، وعلاقات القوّة غير المتكافئة بين النساء والرجال، والتحيّز الجنسي في سوق العمل، واستدامة الموارد الطبيعية المحدودة بما يضمن تحقيق رفاهية جميع فئات المجتمع.

أهم مساهمات الاقتصاد النسوي

في الأصل، يرجع تاريخ الاقتصاد النسوي إلى أواخر القرن التاسع عشر، عندما بدأَت الموجة الأولى من الحركة النسوية في تحدّي النظريات الاقتصادية البالية. ففي عام 1869، أصدر الاقتصادي الشهير جون ستيوارت ميل (John Stuart Mill) كتابه الرائد "استعباد النساء" (The Subjection of Women)، محاججًا فيه بأنّ الأعراف السائدة لتنظيم العلاقات الاجتماعية تدعم التبعية الاقتصادية للنساء، وتفصل بين المجالين العام والخاص، مانحة الذكور وحدهم أحقية الاستحواذ على المجال العام، بعد أن حشرت النساء داخل منازلهنّ بما يعيق تحسين حياة البشر، ومن ثم يجب تبني قضية المساواة الكاملة بين الجنسين. وفي نفس العام، كتبَت الروائية والناشطة النسوية شارلوت بيركنز جيلمان (Charlotte Perkins Gilman) كتابها الأشهر "المرأة والاقتصاد" (Women and Economics) مدافعةً عن حقّ المرأة في العمل وتقاضي أجرٍ على قدم المساواة مع الرجل، بعدما التحقَت النساء بالمصانع ليصبحن وقود الثورة الصناعية. ثم في عام 1888، كشفَت الكاتبة النسوية آني بيزنت (Annie Besant) في مقالها "العبودية البيضاء في لندن" (White Slavery in London) عن بشاعة أحوال النساء العاملات في مصانع أعواد الثقاب، وهي صناعةٌ تستخدم مادة الفسفور الأبيض السامّة التي عرّضتهنّ لجملةٍ من الأمراض المميتة، إذ كنّ يعملنَ لساعاتٍ طويلةٍ وصلَت إلى 14 ساعةٍ يوميًا مقابل سنتاتٍ قليلة، وفي ظروفٍ قاسيةٍ وغير آمنة.

وفي الستينات من القرن الماضي، بدأَت الموجة الثانية من الحركة النسوية في تطوير دراساتٍ خاصّة عن كيفية تشكيل الجندر للعمليات الاقتصادية داخل المجال الأكاديمي، وأدخلَت على مفاهيم الاقتصاد الكلّي مفاهيم جديدةٍ مثل: أعمال الرعاية غير المأجورة، والمساواة بين الجنسَين، والتحليل القائم على الجندر. وكان بين هؤلاء الناشطة النسوية أليس روسي (Alice Rossi) التي أكّدت على أنّ المساواة بين الجنسَين ضروريةٌ لتحقيق رفاهية المجتمع ككلّ، وقدّمَت كتابها "المساواة بين الجنسَين: طرحٌ غير محتشم" (Equality Between the Sexes: An Immodest Proposal) للمرّة الأولى في عام 1963 في اجتماعٍ للأكاديمية الأميركية للفنون والعلوم، ونشرَته في العام التالي. وجادلَت روسي في كتابها بأنّ الأمومة وأعمال الرعاية أصبحَت مهنة بدوامٍ كاملٍ لمعظم النساء، بما لا يؤذيهنّ هنّ فحسب، بل المجتمع الذي يعشنّ فيه أيضًا. يومذاك، نالت روسي نقدًا لاذعًا بعدما وُصفَت بأنّها امرأةٌ غير طبيعيةٍ وأمٌّ غير صالحة. وفي العام نفسه، نشرَت الكاتبة بيتي فريدان (Betty Friedan) كتابها الأيقوني "اللغز الأنثوي" (The Feminine Mystique) وتناولَت فيه قضايا مماثلةً تؤكِّد أنّ التحيُّز الجنسي هو بمثابة ترياق الرأسمالية التي استغلَّت النساء بدهاءٍ لخدمة عجلة الإنتاج، بعدما خدعتهنّ بفكرة أنهنّ ناعماتٌ رقيقاتٌ لا يقوينَ على تحمّل "قسوة" المجال العام. فالنظام الرأسمالي يُصوّر للنساء أنهنّ حسّاساتٌ مثل الأطفال، ومكانهنّ الوحيد الحياة الأُسرية، ليُصبحن عمالةً منزليةً غير مأجورةٍ ينحصر دورهنّ في اصطياد رجلٍ والاحتفاظ به والإنجاب منه، وتربية الأطفال والاستهلاك حتى يحصلن على السعادة والرضا النفسي؛ أما إذا ما قررنَ الخروج إلى المجال العام أو تناول حبوب منع الحمل، فيُصبحنَ خاطئاتٍ و"خارجاتٍ عن الفطرة".

في الستينات من القرن الماضي، بدأَت الموجة الثانية من الحركة النسوية في تطوير دراساتٍ خاصّة عن كيفية تشكيل الجندر للعمليات الاقتصادية داخل المجال الأكاديمي

ثمّ طالبَت المفكِّرة النسوية مارغريت بنستون (Margaret Benston) بضرورة وضع نظريةٍ لعمل المرأة غير المأجور داخل الأسرة باعتباره جزءًا لا يتجزّأ من الاقتصاد السياسي للرأسمالية المعتمدة على الأسرة كمصنع لإنتاج ورعاية الأيدي العاملة بأقل التكاليف، وذلك في مقالها "الاقتصاد السياسي لتحرير المرأة" (The Political Economy of Women's Liberation)، المنشور في عام 1969، بعدما لاحظَت أن النظرية الماركسية تركّز على العمل المأجور داخل المصانع، والذي كان يُعَدُّ تاريخيًا عملًا للرجال، وهو ما تبدَّد مع تزايد معدلات دخول النساء إلى المصانع بعد الحرب العالمية الثانية. وفي نفس العام، أصدرت المفكرة الماركسية وباحثة الأنثروبولوجيا اڤيلين ريد (Evelyn Reed) كتابها "مشاكل تحرير المرأة: رؤى ماركسية" (Problems of Women's Liberation :A Marxist Approach)، جامعة فيه مقالاتها المنشورة في نشرة حزب العمال الاشتراكي حول أصول اضطهاد المرأة الاجتماعي والاقتصادي داخل المجتمعات الرأسمالية وأسباب إدامة الأعراف والقوانين المؤيدة للتميّز الجنسي.

وفي حقبة السبعينات، ظهرت النسوية الاشتراكية كتيار فكري داخل الحركة النسوية، ثم نشرت الكاتبة الماركسية الإيطالية سيلفيا فيديريتشي (Silvia Federici) مقالها المؤثر "أجور مقابل الأعمال المنزلية" (Wages for Housework) مطالبة فيه بتأسيس حركة نسوية عالمية لتوعية النساء بدورهنّ في إعادة إنتاج رأس المال من منظور ماركسي، والدعوة إلى إعادة النظر في التكوينات الاجتماعية التي تنتجها الأعمال المنزلية غير المأجورة والاعتراف بها ماديًا ومعنويًا. ومن ثم فتحت النقاشات الجادة حول اللامساواة والجوانب الجنسانية للعمل داخل الاقتصاد الرسمي. تبع ذلك أعمالٌ أخرى، مثل كتاب "إذا عُدّت النساء" (If Women Counted) المنشور في عام 1988، للكاتبة والاقتصادية النسوية مارلين وارينغ (Marilyn Waring)، والذي يُعَدَّ مانيفستو الاقتصاد النسوي وجزءًا من خطابه السائد اليوم، بعدما أوضحَت فيه أساليب إقصاء كدح النساء المنزلي عن النظرية الاقتصادية والحسابات القومية ودور اللامساواة واضطهاد المرأة في استدامة وتدعيم النظام الرأسمالي.

الاقتصاد ملكٌ عارٍ

هكذا، أرسَت الحركة النسوية دعائم الاقتصاد النسوي بعدما غذَّت دراساته مجموعةٌ واسعةٌ من النظريات المتنوّعة، مثل الاقتصاد السلوكي، والاقتصاد الأخضر، واقتصاديات الرفاه الاجتماعية، واقتصاديات العمل، ونموذج التنمية المستدامة، متداركةً - من الناحية الأخلاقية على الأقل - ما تغافل عنه النظام الرأسمالي ذو النزعة الذكورية بشأن تغييب كدح النساء عن نماذجه، وقضية اللامساواة، والإقصاء الاقتصادي، والتحيّز الجنسي، عبر مواصلة الضغط من أجل زيادة إشراك المرأة في عمليّات صنع القرار الاقتصادي.

أرسَت الحركة النسوية دعائم الاقتصاد النسوي بعدما غذَّت دراساته مجموعةٌ واسعةٌ من النظريات المتنوّعة، مثل الاقتصاد السلوكي، والاقتصاد الأخضر، واقتصاديات الرفاه الاجتماعية، واقتصاديات العمل، ونموذج التنمية المستدامة

ونجد أنّ ريبيكا هندرسون (Rebecca Henderson)، أستاذة في كلية الأعمال في جامعة هارفارد، ومؤلّفة كتاب "إعادة تشكيل الرأسمالية في عالمٍ يحترق" (Reimagining Capitalism in a World on Fire)، المنشور في عام 2020، تدحض العقيدة السائدة للرأسمالية بالتأكيد على أنّها على وشك تدمير الكوكب وزعزعة استقرار المجتمع جرّاء اندفاعها نحو مراكمة الثروة من دون النظر لاعتبارات العدالة الاجتماعية. بالنسبة لها، عندما تمتلكين نظرةً مختلفةً عن الجميع، غالبًا ما سترين الأمور بطريقةٍ مغايرة تميل إلى التعاطف مع احتياجات مختلف فئات المجتمع والانفتاح على الحلول المتنوعة بصورةٍ أكبر، وهذا ما يتطلّبه استقرار الوضع الراهن.

لطالما اعتبرتُ ما فعله الاقتصادي الأميركي بول سامويلسون (Paul Samuelson)، حين نَصَّبَ علمَ الاقتصاد "ملكًا للعلوم الاجتماعية" حماقةً لا تُغتفر، لكونه "ملكًا عاريًا" أصابه العمى الجندريّ فجعله لا يعبأ بتشكيل الجندر للسياسات والنتائج الاقتصادية، ودفعه لتقديم صورةٍ مزيّفةٍ انبثق عنها تحليلٌ لا يُعبِّر عن الفئات المهمَّشة الأكثر عرضةً للفقر والإقصاء الاقتصادي، ما أنتج قصورًا حادًا في الأيديولوجية والممارسة يستوجب ظهور اقتصادٍ جديدٍ يراعي تلك المسائل. وبما أنّنا حاليًا في خِضَمّ أزمةٍ اقتصاديةٍ وإيكولوجيةٍ طاحنة، وبحاجةٍ ماسّةٍ إلى سُبلٍ جديدةٍ ومبتكرةٍ للخروج منها، لماذا لا يكون الحلّ في تبنّي عدسة الاقتصاد النسوي؟

 

 

  • 1. إلينور ماركس، تدقيق وتحرير إيفون كاب، سنوات الحشد 1884-1898، 1979، المجلد الثاني، ص. 364.
  • 2. تقرير أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة، 2015، الهدف الخامس، ص. 22.
  • 3. أمارتيا صن، التنمية حرية، ترجمة شوقي جلال، طبعة المركز القومي المصري للترجمة، 2010، الفصل الرابع.
  • 4. يُعرَّف البنك الدولي الفقر المدقع على أنّه الحالة الذي يعيش الفرد فيها على أقل من 1.90 دولارًا في اليوم.
  • 5. مصطلحٌ صكّته الباحثة في شؤون الجندر ديانا بيرس (Diana Pierce) في سبعينات القرن الماضي، وتعرّفه لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا) بأنّه مجموعة عوامل تُبقي النساء أسيراتٍ للفقر على نحوٍ خاصٍّ يختلف نوعيًا عن الرجال.
  • 6. ديان كويل، الناتج المحلّي الإجمالي: تاريخٌ موجزٌ، ترجمة عمر سعيد الأيوبي، طبعة مشروع كلمة، 2015.
  • 7. روبرت داونز، كتب غيّرت التاريخ، ترجمة أمين سلامة، طبعة مؤسسة هنداوي، 2022، الفصل السابع.