من أجل زرع آذانٍ صاغية في جدران المستشفيات

خلف ضغط صورة الأمومة المثالية التي يُطالب الجميعُ النساءَ بالامتثال إليها بمجرّد أن يلِدن، نجد تجارب شاقةً ومرهقةً جسديًا ونفسيًا للعديد من الأمّهات. فهل تحظين بالدعم المنساب؟ وما أهمّية دمج الرعايتَين الجسدية والنفسية في رُؤيةٍ شاملةٍ للصحة الإنجابية؟

جمَعني وأمي مؤخرًا نقاشٌ طويلٌ بشأن رغبتي في الإنجاب في المستقبل. ناقشنا مسألة العدل في فرض الوجود على من هم/ن "زينة الحياة الدنيا" في مستقبلٍ قد لا يمتّ للزينة بصِلة. تحدّثنا عن أن الصعوبة لا تكمن في قرار منح قدَرٍ ما لإنسانٍ آخر فحسب، بل أيضًا في التعامل مع المجهول الذي يأتينا به ذلك الكائن الجديد.

أدركتُ في خضم النقاش أني لم أسَلها يومًا عن حيثيّات ولادتي من منظورها هي. كيف عاشت سيرورة الأمومة؟ كيف يستوعب جسدٌ وعقلٌ مُستنزفان كلمةً بتلك الضخامة؟ عمّ كانت تُحدّث ذاتها كل يوم؟ وكيف أثّر كل هذا في صحّتها وسرعة تعافيها؟

سألتُها: "هل كنتِ سعيدةً بمجيئي؟"

"طبعًا! أكثر مما تتسع له الكلمات."

الإجابات المُقتضبة المصحوبة بنظراتٍ متهرّبةٍ إلى طرف الغرفة، تعني في لغتنا المُشفّرة شيئًا واحدًا: وَخزة ألمٍ مستترة/مفضوحة.

داخل ذبذبات صوتها المرتعش انطوَت أحاسيسٌ مُغبرةٌ انطلقنا معًا في رحلةٍ لاكتشافها. أخبرَتني عن الشعور بالانسلاخ عن الذات، وفقدان القدرة على التحكّم بالعالم من حولها، وعن البكاء المتواصل والتفكّك الداخلي مقابل انهيار كلّ ما عرفَته سابقًا. كلّمتني عن الشعور بعدم الجدوى والارتباك، وعن الأرق المُطوّل، واللامبالاة بالطعام وانطفاء الطاقة في جميع خلاياها. أسرّت لي بأنها خاضت كل ذلك وحدها في الخفاء، لأن إظهار السعادة الدائمة - أو تصنّعها - ينأى بها عن صورة "الأم السيئة".

شرَعت كلماتها ترسم طيفًا صامتًا ظلّ لزمنٍ محبوسًا في صندوقٍ صغيرٍ حَشَر فيه المجتمع مفهوم الأمومة وكل ما يرتبط بها، ثم أقفلَه وابتلع المفتاح. لكن الفتحة الصغيرة التي أحدثها حوارنا في ذلك الصندوق خوّلت لي تشخيص حالة أمي النفسية وقتذاك بأثرٍ رجعي.

كدر الأمومة أم اكتئاب ما بعد الولادة؟

يختلف اكتئاب ما بعد الولادة (Postpartum depression) عما يُطلق عليه "كدر الأمومة" (Baby blues)، وهي حالةٌ فيزيولوجيةٌ لا تتجاوز مدّتها أسبوعين من الزمن. أما الاكتئاب، فقد يمتدّ لشهور وتتضمّن أعراضه تغيّرًا في السلوك الغذائي، وتعبًا وقلقًا مفرطَين، وخوفًا من إيذاء النفس أو الطفل/ة، وقلّة الاهتمام بالمولود/ة مع شعورٍ بالذنب والحزن أكثر حِدّةً من المعتاد؛ والقائمة تطول.

بدا الأمر كأنّي عثرتُ على آلةٍ للرجوع بالزمن ورؤية الحياة بعينَيّ أمّي: إنسانةٌ تغيّرت بوصلة حياتها فجأةً، تنهض مبتسمةً في انسجامٍ مع كل التوقعات، حاملةً مولودتها بين ذراعَيها، وغُرزًا داميةً بين فخذيها وخوفًا من المستقبل على كتفيها. تستمر هذه النضالات الداخلية شهورًا أو سنواتٍ في محيطٍ يقابلها بعدم الاعتراف، والاستخفاف، وانعدام الفهم وحتى الازدراء.

تُجرّد النساء من ملكيّة أجسادهن بعوارضها ومشاعرهن بعمقها

تجربة الإنجاب بطبيعتها شاقةٌ ومرهقةٌ على المستويَين الجسدي والنفسي، فكيف إذا ما تضمّنت غيابًا كلّيًا للمساندة، وحَملًا صعبًا وولادةً مشوّهةً أو صادمة؟ المثير للدهشة والضيق أن ثقافتنا التونسية تطلق على هذه المسيرة الطويلة والعنيفة عبارةً لطيفةً ورشيقةً هي "قطوس النفاس"، وتعني تحديدًا: ضباب ما بعد الولادة. أما أنا فأسمعها هكذا: "تغيّرٌ طفيفٌ ومؤقتٌ في حالة الطقس يحجب بهجة المناسبة السعيدة وصفاء ذهن المرأة المعنيّة بالأمر. لكن لا تقلقوا، فسرعان ما ينقشع الضباب بوصفةٍ سحريةٍ من غير أن يثنيها أبدًا عن أداء مهمّة الأمومة المقدّسة على أكمل وجه".

هكذا لغتنا، فإما تبذل قصارى جهدها لإخماد أيّ صوتٍ مزعجٍ بتجريده من كل تعريفٍ فعلي، أو تُسَطِّح جبال المشاعر وتَحُطّ من أهمّيتها ليسهل هضمها، حتى تُضحي غريبةً عن صاحبتها.

يبدو هذا جليّا لدى النظر في تاريخ التسمية في حدّ ذاتها: "اكتئاب الفترة المحيطة بالولادة". فهذا التعريف الأخير هو في الحقيقة ثمرة كفاحٍ طويلٍ في سبيل اعتماده في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM-V). ونشرت المنظمة غير الحكومية "Postpartum Support International" المعنية بتقديم الدعم لحالات اكتئاب ما بعد الولادة مقالًا يتتبّع مراحل الاعتراف بخصوصية الصحة النفسية في أثناء الفترة المحيطة بالولادة (Peripartum). وما يثير التعجب في المقال أنه حتى سنة 1994، لم يكُن الاكتئاب أبدًا مرتبطًا بالولادة وفق تصنيف التشاخيص!

من الهستيريا إلى "التشوكيع والدّلّول"

اللغة وعاء الفكر، والفكر يُولّد السّلوك، وحين يستند السّلوك إلى معتقداتٍ منحازةٍ أو فراغٍ معرفي أو معلوماتٍ مغلوطة، يؤدي الأمر إلى مأسسة الوصم والتمييز والتطبيع معهما.

بالفعل، لم تكن ذكريات أمي يومذاك غريبةً عني، فالاستخفاف بالصحة النفسية في بلادي عمومًا أمرٌ راسخٌ ومتجذّرٌ في عمق ثقافتنا، وهو يتجاوز انعدام التعاطف والوصم الروتيني والذكورية السامة، ليغدو ردّ فعلٍ جماعي أوتوماتيكي يُقاوم على نحوٍ لاواعٍ إمكانية خروج عللِ مجتمعنا إلى النور.

أرصدُ ردّ الفعل هذا داخل المستشفى في ممارسات الطواقم الطبية وشبه الطبية والإدارية، إما في عدم تصديق الأعراض النفسية لدى المريض/ة وإضعاف مصداقيتها علنًا، أو في مواجهتها باللامبالاة والصمت. وعادةً ما يُعبّر عن تلك الأعراض في أقسام التوليد مثلًا بـ"التشوكيع والدَّلّول"، أي استجداء الاهتمام والتذمّر وتصنّع القلق بغرض الحصول على امتيازاتٍ معيّنة.

تجربة الإنجاب بطبيعتها شاقةٌ ومرهقةٌ على المستويَين الجسدي والنفسي، فكيف إذا ما تضمّنت غيابًا كلّيًا للمساندة؟

وتجدر الإشارة إلى أن الغالبية الساحقة ممّن يقصدن ويقصدون المستشفى العمومي تنتمي إلى فئاتٍ اجتماعيةٍ هشة، ما يخلق هوّةً حقيقيةً في تكافؤ فرص الوصول إلى الرعاية الصحية النفسية. هذه الخدمات العمومية المتآكلة والمفتقرة إلى أبسط الإمكانيات ومعايير الجودة واحترام الذات البشرية هي الخيار الوحيد لذوات وذوي الدخل المحدود أو المنعدم، ما يعني أن أقصى ما يرتجيه هؤلاء هو بالكاد البقاء على قيد الحياة! فالبعض لا يعي حاجته إلى العلاج النفسي بفعل الاعتياد على غياب ذلك الخيار عن قائمة الخيارات المتاحة، والبعض الآخر لا يجرؤ على الدنوّ من تلك المسألة أساسًا، بينما يمتلك البعض الآخر الوعي والجرأة لطلب العلاج النفسي لكنه لا يستطيع إليه سبيلًا. في المقابل، تحظى الفئات "الأوفر حظًا" بامتيازٍ طبقيٍ يخوّلها تفادي تلك الرحلة الشاقّة لفَكّ ألغاز الإجراءات الإدارية المُعَقّدة والتنقّل من مكتبٍ إلى آخر وتعريض خصوصيتهن/م للخطر، وهو خطرٌ يدفع بكثرٍ إلى تجنّب طلب المساعدة خوفًا من الوصم.

وتُظهر خريطة العالم تفاوتًا مشابهًا بين البلدان الفقيرة والثريّة لناحية وصول السكان إلى الرعاية الصحية النفسية. وتكتسي هذه الفجوة بُعدًا أعمق بالنسبة إلى النساء نظرًا لتغلغل سردية الهستيريا التاريخية داخل المؤسسات الاستشفائية، ما يُعرقل الإصغاء إلى أوجاعنا الجسدية، ناهيك عن آلامنا النفسية التي عادةً ما تُصنّف ضمن أوهام الهستيريا. هكذا تُجرّد النساء من ملكيّة أجسادهن بعوارضها ومشاعرهن بعمقها.

لا يوجد في قصّة أمي طبيب/ةٌ أو عامل/ةٌ في مجال الرعاية الصحية تنبّه/ت إلى حالتها النفسية أو حاول/ت البحث فيها. لم تكن هي نفسها آنذاك قادرةً على تسمية ما كانت تعيشه، فخلف ضغط صورة الأمومة المثالية التي يطالب الجميعُ النساءَ بالامتثال إليها بمجرّد أن يلِدن، كانت التجربة - فعلًا وحرفيًا - أكبر مما تتسع له الكلمات المتوفرة لأمي وقتذاك. حينها، لم يكن البحث في هذه الاضطرابات النفسية أو الوقاية منها ضمن أولويات البرامج الصحية. وللأسف، ما يزال الأمر على حاله بعد أكثر من عقدَين من الزمن.

الرعاية النفسية حقٌ إنساني

إذًا، معركة الاعتراف بالارتباط الوثيق بين المعطيَين النفسي والجسدي وشموليّة الصحة الإنجابية ما تزال قائمة، بالرغم من كل المؤشرات والحجج التي تؤيّد ذلك الارتباط. على سبيل المثال، تعاني 10 إلى 15% من النساء من الاكتئاب أثناء الحمل أو بعد الولادة، ويُعدّ الانتحار في بعض البلدان سببًا رئيسًا من أسباب الوفيات المرتبطة بالحمل. ويمكن تجنّب هذا النوع من الوفيات إذا ما توفّرت استراتيجيةٌ ناجعةٌ لإدماج الصحة النفسية في برامج ومؤسسات الصحة الأساسية، كالمستشفيات والمستوصفات ومراكز الرعاية الإنجابية. فالاضطرابات النفسية المرتبطة بالحمل والولادة لا تؤثر على الأمهات فحسب، بل تطال أيضًا قدرتهنّ على الاستجابة للرضيع/ة وبالتالي على نموّه/ا الجسدي والإدراكي والعاطفي.

ليس ترفًا إذًا دعم برامج الرعاية النفسية اليوم، لا سيّما تلك الموجّهة إلى الفئات الاجتماعية الهشة اقتصاديًا والتي هي في أمسّ الحاجة إليها. من المُلِحّ حقًا إدراك أن التقاطعات بين صحة النساء النفسية والإنجابية تتجاوز مدة الحمل والولادة لتطال أُطُرًا أوسع على امتداد حيواتهن ومحطاتها المختلفة. فالجوانب النفسية والجسدية تتلازم في حالات العقم، وتجارب المساعدة على الإنجاب، والإجهاض، والإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية المكتسب، والتعرّض لتشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية (الختان) وغيرها من الظروف التي تؤدّي فيها الإحاطة النفسية دورًا محوريًا في كافة الخطوات نحو التعافي.

آن الأوان لنزيح التمثّل السائد للعملية الإنجابية الذي يُحيل الإنسانة إلى مجموعة أعضاءٍ تناسليةٍ تخضع ككل شيءٍ آخر لمبدأ تقديس الإنتاجية، بحيث ينحصر التعامل معها ضمن المساحة الزمانية والمكانية الضيقة لعملية الولادة. حان الوقت ليبدأ المتخصّصون والمتخصّصات في الرعاية الصحية وصانعو/ات السياسات ومخطّطو/ات البرامج في معالجة الاضطرابات النفسية المرتبطة بالحمل والولادة باعتبارها قضيةً صحيةً عامة، من خلال تعزيز الوعي وتأمين الوصول إلى خدمات الرعاية اللائقة.

تلك المصابة بمرضٍ مُزمنٍ أفقدها الثقة في قدرتها على العناية بمَولودها الجديد تحتاج إلى سند

تزدهر اليوم حول العالم الدراسات التي تنكبّ على تجارب دمج الرعايتَين الجسدية والنفسية في رُؤيةٍ شاملةٍ للصحة الإنجابية، وإن كانت ما تزال بحاجةٍ إلى الكثير من التشجيع والاهتمام لا سيّما في البلدان محدودة الدخل. ولا تنفكّ تلك الدراسات تُبَرهن نجاعةً علاجيةً ووقائيةً للسياسات الدامجة. يُمثّل "برنامج تحويل الأمومة" (Maternity Transformation Programme) الذي تُقدمه "مؤسسة الخدمة الصحية الوطنية البريطانية" (National Health Service, UK) مثالًا هامًا على قدرة الأنظمة الصحية على التكيّف لتلبية مختلف احتياجات النساء والرضّع في الفترة المحيطة بالولادة. ولا تستقيم هنا حجّة "محدودية الميزانية" لأن الهند وباكستان وغيرهما من الدول الفقيرة نسبيًا وجدَت طرقًا لا تتطلب اعتماداتٍ ماليةً كبيرة، مثبتةً إمكانية توفير عنايةٍ صحيّةٍ تحترم النساء وإن بموارد محدودة.

تلك المرأة التي تحمل وحدها عبء رعاية أولادها في البيت وهي في قلب المخاض تحتاج إلى مثل هذه التدخلات. تلك التي لا تفقه شيئًا عن طريقة التنفس أثناء الولادة وتبرّر باستمرارٍ قائلةً "والله...إنه حملي الأوّل" كأنها اقترفَت ذنبًا ما، تحتاج إلى الدعم. تلك المصابة بمرضٍ مُزمنٍ أفقدها الثقة في قدرتها على العناية بمَولودها الجديد تحتاج إلى سند. تلك التي تحتمل آلام العلاقة الجنسية مع زوجها إثر الولادة وتتظاهر بأن كلّ شيءٍ على ما يُرام خوفًا من تلقّي الغضب أو التعنيف أو الطلاق تحتاج إلى من تُنصت إليها وتُوجّهها.

هاتي جميعًا وكثيراتٌ غيرهنّ ما زلن قابعاتٍ تحت رداء الصمت، بحاجةٍ إلى مساحةٍ لكي يعلو صوتهن.

آن الأوان إذًا لنزرع آذانًا صاغيةً في مستشفياتنا، كي لا تظل وجوهُ النساءِ في حاضري أسيرةً لذكرياتِ أمي.