هل تواجهين اضطرابًا في الحيض خلال الجائحة؟ لستِ وحدكِ

26/04/2021
1155 wörter

آمنة مخلوف تستشكف كيف تخطت الجائحة التلاعب بعقارب ساعة عالمنا الخارجي لتؤثر في أدقّ أنظمة الجهاز التناسلي الأنثوي.

تعتريني كآبةٌ خانقةٌ في الآونة الأخيرة من دون سببٍ يُذكر، ويتقلّد غضبٌ لاعقلاني حباليَ الصوتية فيجعلُها تصرخ لكلّ تفصيلٍ لم يجرِ تمامًا كما خطّطتُ له، مهما كان ضئيلًا. في داخلي معركةٌ صامتةٌ تُصارع كبّة الصوف هذه التي استوطنَت حنجرتي. ضيفٌ ثقيلٌ فشِلَت حصصُ اليوغا وجلساتُ التأمّل وجميع أنواع الشاي والموسيقى الهادئة والعزلة في طرده. لا بل، لم تصلح كل تلك الوسائل - المفترض بها مساعدتي في إحلال السّكون - سوى لإطلاق العنان لوابلٍ آخر من أفكاري المتلاطمة.

إنّها نوبةٌ أُخرى ممّا أسمّيه "تضخّمًا عاطفيًا" مُضنيًا يصاحب متلازمة ما قبل الحيض التي صرتُ أعهد نزواتها المُستجدّة في الأسبوعَين الأخيرَين من كلّ شهر، مذ أصبحنا نتعايش مع جائحة فيروس كورونا المُستجد (كوفيد-19).

كانت حصيلة سنةٍ انقضَت على ظهور الفيروس بالنسبة لي كالآتي: شبحُ خوفٍ وقلقٍ حلّ محلّ ظلّي، و52 أسبوعًا من الاضطراب مرّت، تخلّلتها أسابيع قليلةٌ ألقّبها "مُستقرّة"، أي خالية من تقلّبات المزاج الفُجئية والأوجاع التي لا تُطاق في مرحلة الحيض، كأنّها أنيابٌ ومخالب حديثةُ العهد صارَت تنبتُ في رحمي.

ثم ماذا لو كان للوباء أعراضٌ أخرى تتعدّى الحمّى، الصّداع، السّعال، فقدان حاسّتَي الشمّ والذّوق وصعوبة التنفّس؟ ماذا لو كانت مضاعفات الاكتئاب والقلق الناجمة عن الجائحة، تعبث هي الأخرى بأدقّ أنظمة الجهاز التناسلي الأنثوي؟

يبدو أن الجائحة لم تتلاعب بعقارب ساعة عالمنا الخارجي فحسب، بل أثّرت في أعمق إيقاعاتنا الداخلية حين خلنا أننا كبشرٍ حفظنا تأثير هذا الفيروس على الجسد، وحذقنا التعايش معه ومع ألوان الضغوطات التي يذيقنا إياها مذ حلّ على هذا الكوكب. شاركتُ صديقتي ما أحسّ، فأخبرَتني أنها مثلي، كثيرًا ما تشعر قبل بداية الحيض أنها "بركانٌ في حالة غليانٍ دائمةٍ يُكابد لكبح جماحه"، وأنّ دورتها الشهرية صارَت غير منتظمةٍ منذ ظهور الوباء، وازداد استهلاكها للمسكّنات عمومًا.

في الواقع، لسنا وحيدَتين في كلّ هذا. تعيش نساءٌ كثيراتٌ منذ بداية الجائحة تجارب مشابهةً بشأن العوارض غير المُعتادة أو مُستجدّة الحدّة، سواء المتعلّقة بالحيض أو بالمتلازمة التي تسبقه، وقد ألقَت الضوء على ذلك بعض استطلاعات الرأي على وسائل التواصل الاجتماعي. ورغم أننا ما زلنا في بداية المشوار العلمي لفهم هذا الوباء والإلمام بمختلف أبعاده، إلا أن تواتر هذه العوارض كان كافيًا لجعل العديد من الدراسات تنكبّ على إثبات علاقةٍ ما بين اضطراب العادة الشهرية والجائحة. على سبيل المثال، أثبتَت هذه الدراسة العلميّة عن تأثير تغيّر أساليب عيشنا في ظل الوباء على أنماط الحيض وعوارضه أنّ 56٪ من المشارِكات سجّلن تغيّرًا في دورتهنّ الشهرية في خلال فترة الحظر، وأن غالبيّتهن كنّ يعانين إلى حدٍّ كبيرٍ نسبًا عاليةً من التوتر. فكيف يمكن تفسير هذه المعطيات؟

يشكّل انتشار الوباء ضغطًا نفسيًا أثار ردّ فعل الجسم الفيزيولوجية، فإما الهروب أو المواجهة

قد تساعدنا في فهم ذلك لمحةٌ بسيطةٌ عن سيرورة تكيّف جسم الإنسان مع الضغط النفسي، أو ما يُسمّى بالإنجليزية "Fight or Flight response"، أي ردّ فعل الجسم الفيزيولوجية إزاء الخطر، إما هروبًا منه أو مواجهةً له. ومن بين السّبل التي يلجأ إليها الجسم في تلك اللحظات، زيادة إفراز عددٍ من الهرمونات المعيّنة التي تؤثّر في شحن مصادر الطاقة في الجسم وتكييف الفرد مع ظروفه/ا الجديدة. وتنقسم ردّ الفعل هذه إلى ثلاث مراحل: الأولى هي مرحلة الإنذار بالخطر (Alarm) وهدفها استنفار وسائل الجسم كافةً لتأمين استجابةٍ حينيّةٍ للعامل "المُعتدي"؛ يليها طور المقاومة (Resistance) الذي يمتدّ لفترةٍ متوسطة المدى، وقد يؤول إلى مرحلة إنهاك كافة طاقات الجسم (Exhaustion) إذا ما تواصل الضغط.

فلنتصوّر الأمر كالآتي: تتسلّق أجسادنا جبلًا بعناءٍ شديد، ثم ينتهي بها المطاف إلى سقوطٍ حُرٍّ من أعلى القمّة. وتطال انعكاسات هذا السقوط - المرتبط في الحقيقة باختلالٍ هرمونيٍ شامل - كلّ أعضائنا، بما فيها أجهزتنا التناسلية. على نحوٍ مماثل، يشكّل انتشار الوباء ضغطًا نفسيًا أثار ردّ فعل الجسم الفيزيولوجية الموصوفة أعلاه، فإما الهروب أو المواجهة. ومع استمرار الجائحة والضغوطات والتقلّبات التي ترافقها، وبما أن أجسامنا غير مُبرمجةٍ أو مجهّزةٍ لتظلّ عالقةً بين الهروب والمواجهة إلى أجلٍ غير مسمّى، ولّد الضغط النفسي الناجم عن الجائحة تسلسلًا مماثلًا في أجسامنا. وأدّى دوام ردّ الفعل هذه إلى بروز اضطراباتٍ في الدورة الشهرية وازدياد حدّة متلازمة ما قبل الحيض.

فحين نمارس شيئًا من التعاطف تجاه أجسادنا ونحاول فهم وجهة نظرها، نجد أن الفيروس لا يتمتع بالقدرة على اقتحام خلاياها وتدميرها فحسب، بل يتحوّل إلى "عاملٍ مُعتدٍ"1 يجول في عقولها باستمرار، وإن لم يستقرّ في الرئات.

ما يحدث من تفاعلاتٍ مجهريةٍ للتأقلم مع الضغط النفسي المستمرّ يحاكي ما يحدثُ في حياتي اليومية، إذ أجدني أستيقظ كل صباحٍ وأطرح على نفسي الأسئلة ذاتها: ماذا لو احتميتُ من العالم وأشباح الموت والوباء تحت غطاء سريري اليوم؟ ماذا لو لم تبقَ في جسمي ذرّة طاقةٍ لأخطوَ خطوةً أخرى؟ هل أهرب من الحقيقة المحبطة أم أكافح من أجل أملٍ في"حياةٍ طبيعية"؟ 

وفقًا للدراسات، يُعمّق الإجهاد النفسي إدراكَ أجهزتنا العصبية للألم، ويجعل منه إحساسًا مزمنًا أينما وُجد. يساعد هذا في تفسير اشتداد آلام الدورة الشهرية في ظل حالة قلقٍ مزمنةٍ ذات أبعادٍ عالمية، كتفشّي جائحةٍ خطيرة.

لقد أثقل الوباء كاهلنا بشتّى الضغوطات النفسية التي باتت تتعدّى الخوف على صحّتنا وصحّة من نحب، لتصِل إلى القلق الناجم عن عدم الاستقرار الاقتصادي والأمني الناتج عن الجائحة، وصولًا إلى المسؤوليات الثقيلة أساسًا الملقاة على عاتقنا كنساء، والتي ازداد عبؤها سواء خلال فترة الحظر المنزلي أو خارجها (مثل تعليم الأولاد حين توصد المدارس أبوابها، إلى جانب مسؤوليات الوظيفة والعناية بالمنزل، أو العمل لساعاتٍ متواصلةٍ لرعاية المرضى في مستشفياتٍ بلغَت قدرتها الاستيعابية القصوى). يحدث كلّ هذا في مناخٍ مشحونٍ بالخوف واليأس، وفي ظلّ تفاقم العنف الموجّه ضد النساء بمختلف أنواعه وتآكل حقوقهنّ الجنسية والإنجابية الهشّة أصلًا.

إنّ استمرار هذا الوضع الوبائي والاجتماعي الشاقّ والمخالِف لطبيعة عمل جسم الإنسان، يُساهم في تعميق الأزمة التي تمرّ فيها أجسادُنا على الصّعيدَين الجسدي والنفسي. ولعلّ أبرز دليلٍ على تحكّم الضغط النفسي المستمر بصحّة أجهزتنا التناسلية الأنثوية تحديدًا، الرابطُ الوثيق بين الإجهاد النفسي ونشأة متلازمة تكيّس المبيضين المُثبتة في دراساتٍ علميةٍ عديدة.

من المهمّ التحدّث بجدّيةٍ عن الصعوبات والآلام التي نواجهها كي نكسر الحلقة المفرغة التي تتكوّن حين تُضحي العوارضُ عاملَ ضغطٍ في حدّ ذاتها، فتعزّز حدّتها بنفسها

شيءٌ ما في كلّ هذه الدراسات يُطمئنني، كأنّ صوتًا خافتًا يُردّد في ذهني: "لا تقلقي. أنتِ لستِ بصدد فقدان صوابكِ". لا أظنّني الوحيدة التي استبطنَت - بفعل عوامل مُعقّدةٍ ومُتعددة - فكرة أنّ مشاعري، لاسيما تلك المرتبطة بدورتي الشهرية، ليسَت بالأهمية الكافية، وأنّ الحديث عنها مُضجرٌ وعديم الجدوى، وأنّني في حاجةٍ دائمةٍ إلى إثبات شرعيتها. هكذا، أجد شاشة حاسوبي تُربّت على كتفي قائلة: "ما تشعرين به حقيقي. لستِ وحيدةً في ذلك". أظن أنّ فهم ما أمُرّ به من الناحية العلمية ساعدَني كثيرًا على التعامل مع العوارض بهدوءٍ أكبر، وعلى التعاطف مع جسدي وبالتالي مع ذاتي. 

أما تبادل التجارب، فهو خطوةٌ أكثر من ضروريةٍ للاعتراف بأحاسيسنا، وإيلائها الأهمية اللازمة وتلبية تلك الحاجة المُلحّة لتصديق ما نشعر به وإثباته. لذا، من المهمّ التحدّث بجدّيةٍ عن الصعوبات والآلام التي نواجهها كي نكسر الحلقة المفرغة التي تتكوّن حين تُضحي العوارضُ عاملَ ضغطٍ في حدّ ذاتها، فتعزّز حدّتها بنفسها. ويكمن السبيل إلى ذلك في تعديل زاوية النظر إلى تجارب كهذه. فهذه العوارض، رغم اتّسامها بالصعوبة والإزعاج، ما هي إلا فرصةٌ لنتقرّب من أجسادنا أكثر ونُدرك رقّتها وحساسيّتها المرهفة المثيرة للدهشة تجاه كلّ ما يجري حولها، فنتعلّم أنّ من حقّ أجسادٍ تحارب أوضاعًا غير مألوفةٍ أن تحيدَ عن خطّ مسيرها المعتاد.

حينما وجدتُ صدًى لصوتي في نساءٍ كثيراتٍ حولي، أدركتُ أن هذه العوارض ما هي إلا عدسةٌ أخرى تعيننا في الحقيقة على استكشاف سبُل تقديم المحبّة لأنفسنا، وتُهنّئنا كلّ يومٍ بإنجازٍ قد نبخس من قدره، هو أننا بصدد المقاومة. ولا بأس في أن تأتي هذه المقاومة من تحت غطاء السرير أحيانًا، أو أن تذوب في كوب شايٍ دافئٍ بعيدًا عن ضوضاء العالم.

اليوم مثلًا، توفّرَت لديّ طاقةٌ كافيةٌ للمقاومة بالكتابة؛ فماذا عنكِ؟ 

 

 

  • 1. أي العامل الذي يُسبب حالة الضغط، مهما كانت طبيعته، والذي يفهمه جسمُ الإنسان كتهديدٍ تجب مواجهته إما بالهروب أو بالكفاح دفاعًا عن النفس.