هي/هو وأنتَ/أنتِ: ضمائر الجسَد العابِر

أحبّ اللغة. أعتقد أنها أحد أعظم ابتكارات الحضارة الإنسانية، فهي لا تُعبّر عن الحياة فحسب، بل تصنعُها وتصيغُها وتُحدث فيها التغيير. تناولَت نظريّات اللغة والألسنية مسائل بُنى اللغة وأدوارها ومقاصدها بعمقٍ وبلاغةٍ وإسهاب، لكنّي أودّ الحديث هنا عن تجربتي الخاصة مع الضمائر كشخصٍ عابرٍ جندريًا: "هي/هو" و"أنتِ/أنتَ".

عندما وُلدتُ، سمّاني المجتمع (لغويًا) "هي/أنتِ"، نظرًا لجنسيَ البيولوجي المُسمّى (لغويًا) "أنثى"، والمُصمّم اجتماعيًا وثقافيًا واقتصاديًا وسياسيًا وطبيًا ليكون "نقيض" المُسمّى "هو" ومكمّلًا له. "هو وهي" يلتقيان، يتحابّان، يتزوّجان وينجبان. "هو وهي" "هما" أساس الحياة. هما الخياران الوحيدان، لا ثالث لهما. قصةٌ سحريةٌ - اسمها الثنائية الجندرية الضدّية التكاملية – قُرأَت ونُقشَت علينا لغويًا ومادّيًا لقرون، وإن بأشكالٍ مختلفة، حتى أصبحَت هي أسطورة الخَلق الوحيدة وانتحلَت صفة "الطبيعة" الأزلية الأبدية النقيّة والمُقدّرة إلهيًا. لكن تلك حكايةٌ أخرى.

عشتُ كـ "هي/أنتِ" لثلاثين عامًا حتى اعتدتُ ذلك الضّمير وترسانة التوقّعات والتصرّفات والتفاعلات المُجتمعية التي ترافقه. لم يكُن ضمير المؤنّث يزعجني، لكنّي مع تقدّمي في الحياة لم أعُد أشعر أنه كافٍ. لم يكُن جسدي ووجهي يُزعجانني أو يُشعرانني بالبؤس أو الاغتراب عن ذاتي، لكنّي مع الوقت بدأتُ أشعر بالضّيق والرتابة وقلّة السعادة: أردتُ المزيد. كان في داخلي ضمائر أخرى تتوق للخروج إلى الضّوء. يبدو أنّ اللغة تُسمّي هذا الشّعور "عبورًا"،1 فعبرتُ وبي فضولٌ لألتقي بنفسي على الضفّة الأخرى من نهر الثنائية الجندرية، وإن لم أكُن أرغب بخسارة كافة سِماتي المُسمّاة (لغويًا) "أنثوية"، كصَوتي الدافئ مثلًا.

لم يكُن ضمير المؤنّث يزعجني، لكنّي مع تقدّمي في الحياة لم أعُد أشعر أنه كافٍ

بعد شهورٍ من تناول هرمون التستوستيرون، بدأَت ملامحُ وجهي تتغيّر ونبتَت لي لحيةٌ خفيفة، وصارت الحيرة تدبّ في نفوس مَن يلتقون بي للمرة الأولى ويصعب عليهم/ن تقرير ما إذا كنتُ "أنتَ" أم "أنتِ"، وبالتالي اختيار الضمير "الصّحيح" لمخاطبتي. كان البعض يبدأ بأحد الضّميرَين ثم يتراجع أو يعتذر أو ينتقل إلى الضّمير الآخر. يعمّ التوترُ المكان. أشعرُ بالعيون تحاول التنقيب في وجهي وجسدي عن معلَمٍ ما يَشي بالضمير "الصّحيح". يتعرّق صاحب محلّ خدمات الهاتف. يرتبك سائق التاكسي ويحاول استراق النظر إليّ في المرآة ليقرّر مَن أكون. تحاول الممرّضة تفادي استخدام الضمائر أو أيّ كلمةٍ تدلّ على جندرٍ معيّن. طبعًا. فهل من إهانةٍ أكبر من مخاطبة شخصٍ ما بالضّمير "الخطأ"؟ إنها جريمة العصر. أتفهّم وأتعاطف. أبتسم لأبدّد التوتّر وأُطمئِن مُحدّثتي إلى أنّي فعلًا "أنتَ". أو "أنتِ". لا فرق. عزيزتي "أنتِ"، أريد منقوشة الزعتر وسأرحل في حال سبيلي لألتهمها بفَمي وأسناني التي لا تكترث لأيّ ضمائر لحظة تجوع.

"عبَرتُ" وأصبحتُ إلى حدٍ كبيرٍ "هو". نمَت لحيتي، وغادرني ثدياي، وخشُنَ صوتي، وكثُر الشّعر في جسمي، وتبدّل شيءٌ ما في ملامح وجهي فباتت أكثر حدّة. لعلّها عظام الفكّين والصّدغَين؟ مهما يكن، صار سهلًا على مَن يلتقي بي أن "يعرف" الضمير "الصّحيح". وصرتُ أكتسبُ ألقابًا جديدةً تقزّزني: زعيم، قائد، ريّس، أستاذ، "كبير"، بيك. حتى أنّ أحد شبّان التوصيل ناداني مرةً بـ "سعادة النائب". ما هذه الأنا المتضخّمة لدى الرجال؟ ولماذا يحتاجون إلى كل هذا "النّفخ"؟ مهما يكن، صارت الأمور أسهل للغرباء، لكن أصعبَ للأصدقاء والصديقات اللواتي بتنَ يرتبكن ويجتهدنَ لاستخدام الضمير "الصّحيح" وكلّ ملحقاته المذكّرة من أفعالٍ وصفاتٍ وغيرها، توكيدًا على احترامهنّ لهويّتي. في الواقع، لا يزعجني اسميَ الذي منحَه لي والداي، ولا اسميَ الذي منحتُه لنَفسي. ولا تزعجني أيٌّ من الضمائر. أصرّ على تذكيرهنّ/م دومًا بأنّي لا أمانع اسميَ الأوّل2 أو ضمائر المؤنّث، لكنّ إحدى الصديقات قالَت لي مرّةً إنّ من المُربك نوعًا ما - حتى لعقلها المتحرّر – أن ترى وجهًا تكسوه لحيةٌ وتخاطبه بصيغة المؤنّث. تحدّثنا يومها عن كيف تشتغل اللغة على تشكيل وصنع أدمغتنا وحواسّنا وقنواتنا العصبية. توقّفتُ بعدها عن التعليق، إذ لا أشاء في واقع الأمر أن أكون صديقًا مزعجًا يُبالغ في توكيد مواقفه السياسية والشخصية بينما تُخبرني صديقتي عن آخر اشتباكٍ خاضَته في المصرف لتحصل على نقودها.

لكن الضّمير الجديد جاءت معه بوتقةٌ أخرى من التوقّعات والتصرّفات والتفاعلات الاجتماعية، فبات عليّ أن أنتبه إلى طريقة كلامي وحضوري مع النساء كي لا يشعرنَ بالانزعاج أو بالتهديد، وصار جسدي خفيًا غير مرئيٍ لا يثير اهتمام أحدٍ أثناء سَيري في الشّارع، وصرتُ أحظى بخدمةٍ سريعةٍ وانتظارٍ أقلّ عندما أزور المحال التجارية أو الصيدليّة أو المقهى، لكن عامل محطّة الوقود لم يعُد يهرع لملء خزّان دراجتي النارية فور وصولي، إذ عليّ أنا كـ "رجلٍ" أن أفتح غطاء الخزّان وأعيد إغلاقه.

ما زال غريبًا بالنسبة لي أن أصِف نفسي بـ "رجلٍ". ما زلتُ أحلمُ بصيغة المؤنّث. لكنّي لستُ "امرأةً" أيضًا. إذًا ما أنا؟ هل أنا "هو" لأنّي تخلّيتُ عن الثّديَين وصارت لي لحيةٌ وصوتٌ خشنٌ نوعًا ما وشعرٌ يغطّي جسدي وخطوط وجهٍ أكثر حدّة؟ أم أنا "هي" لأن جسدي ما زال يُنتج الأستروجين وما زالت بعض أعضائه "أنثويةً" بما في ذلك عينيّ الرقيقتَين؟ لعلّي "هما"؟ أو "هم"؟ أو "هنّ"؟ ألا يُمكنني أن أكون بطيخةً مثلًا بدلًا من كل تلك الضمائر؟ لكن البطيخة مؤنّثةٌ أيضًا. ماذا تُريد اللغة وضمائرها مني؟ سأكون حلزونةً، أو فرَس بحرٍ، لا ضمير لي، ولي كلّ الضمائر.

ما زال غريبًا بالنسبة لي أن أصِف نفسي بـ "رجلٍ". ما زلتُ أحلمُ بصيغة المؤنّث. لكنّي لستُ "امرأةً" أيضًا. إذًا ما أنا؟

أدركُ أن النظريّات الجندرية النسوية والكويرية تتحدّث عن "اللا-جندر"، أو التحرّر المُطلَق من أيّ تسمياتٍ ووسومٍ وألقابٍ وتصنيفات، لكن "اللا-تسمية" و"اللا-تصنيف" هما في الواقع تسميةٌ وتصنيف. فحتى إن كنتُ "خارج الثنائية الجندرية"، ما زالت اللغة تشكّلني كانتفاءٍ للثنائية الجندرية الثابتة كنقطةٍ مرجعيّة. لا مفرّ من اللغة. الكلمة. التسمية. المناداة. المخاطبة. القراءة. لكن على أيّ حال، هل أريد أن أفرّ من اللغة؟ هي ساحة الوجود والحياة، وهي تمنحني الكثير أيضًا، فسألاعبُ إذًا محدوديّتها وقيودها.

كيف نكون "هما" أو "خارج الجندر" في مجتمعٍ مهووسٍ بالفصل الجندري والتصنيف وتسمية كل "هو" وكل "هي" كي يستدعي ترسانة الحقوق والواجبات والتوقّعات "الصّحيحة" ليفرضها على كلٍّ منّا؟

تغيّر حرفٌ واحدٌ في ضَميري، وتغيّرَت به كلُّ حياتي. كم أنّي الشخص ذاته، كم أنّي شخصٌ آخر!

سألَتني صديقتي مرةً، لماذا "تعبرُ" إذًا إن كنتَ لا تمانع ضمائر الأنوثة واسمكَ الأوّل؟ ما زلتُ أتأمّل في هذا السؤال أحيانًا، لكني أجبتُها يومها أنّي أردتُ أن أعبرَ من محدودية الضمير الواحد الذي يفرضه عليّ مظهري إلى فضاء الضمائر المتعدّدة التي أصنعها أنا، كما أنّ بي فضولٌ لأرى نفسي في حلّةٍ أخرى من حُللي التي أستمرّ في استكشافها. لماذا تبدّلين تسريحة شعركِ إن كنتِ تحبّين إحداها؟3 لعلّه الفضول، طلبُ المزيد، التجريب في سبيل اكتفاءٍ أكبر أو سعادةٍ مُختلفة. ثم لو كانت البُنى المُجتمعية السائدة تُتيح تغيير مظهري لأفرح أكثر داخل جسدي، من دون أن أضطرّ إلى مواكبة ذلك التغيير بلغةٍ وتسمياتٍ وضمائر جديدةٍ يُفترض بها أن "تعكس" واقعي المُستجد – بينما هي فعليًا تصنع ذلك الواقع وتقرّ به وتؤكّده – لكنتُ أقدمتُ على ذلك، وليُنادِني الجميع بطيخةً! لكنّ بضع شُعيراتٍ في وَجهي كادت تُصيب أمّي بنوبةٍ قلبيةٍ والناطور بحالةٍ عصَبية، فكان عليّ أن أشرح وأوضح وأفسّر وأسوّغ و"أصحّح". ودائمًا ما تكون رواية "وُلدتُ في الجسد الخطأ" – مع سطحيّتها وانعدام دقّتها – هي الأسهل، إذ تُكسِبُك التعاطف والتفهّم النابعان من اطمئنان المجتمع إلى أنك "طفرة" أو "خطأ" ارتكبَته الطبيعة ويمكن تصحيحه، لا حالةً إنسانيةً "عابرةً" للزمان والمكان. هكذا يحرس المجتمع قصّته السحرية، "هي وهو"، وتستمرّ الحياة كالمعتاد. لكن بالرغم من سهولتها وشيوعها، أرفض تلك الرواية لأنها ليسَت روايتي. لن أسمّي نفسي خللًا أو خطأ. ابتكرتُ لنَفسي روايةً هي الأقرب إلى حقيقتي: "كنتُ هي، وصرتُ هو". "عفوًا؟ لم أفهم؟". "كنتُ هي، وصرتُ هو". "آه... طيّب، المهم إنتَ مرتاح؟" / "آه... طيّب، تفضّل عالعيادة" / "آه... أحلى هيك!" / "آه... فهِمت عليك، فهِمت عليك" / "آه... ليش ما غيّرت أوراقك بعد؟ مكتوب "أنثى" عالهوية". عزيزي "أنتَ"، لا تزعجني "الأنثى" في هويّتي، هي جزءٌ مني وستظلّ، ولا أريد الخضوع لجراحة استئصال الرّحم لتغيير أوراقي، هل يمكنني أن أنتهي من فحص كورونا الآن؟

حتى إن كنتُ "خارج الثنائية الجندرية"، ما زالت اللغة تشكّلني كانتفاءٍ للثنائية الجندرية الثابتة كنقطةٍ مرجعيّة. لا مفرّ من اللغة. الكلمة. التسمية. المناداة. المخاطبة. القراءة

"اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ".4 أوّل سورةٍ قرآنيةٍ ظهَرت، وفيها أفعالُ القراءة والتسمية والخلْق. اللغة. المناداة. المخاطبة. بحسب أسطورة الخلق، كانت سطوة الله على أوّل البشر في أنّه سمّاهما: آدم وحوّاء. هو وهي. دفعَ بهما إلى مجال الوجود. باتا مُسمّيان، حاضران، موجودان. وأنا، عندما أضفتُ إلى نفسي اسميَ الثاني، استعدتُ نفسي الكلّية من الرفض، من الإنكار، من اللامرئية أو اللاوجود. دفعتُ بذاتي إلى الحياة، وحَضَرتُ بكلّ ضمائري.

لعلّي لستُ هو أو هي. لعلّي لستُ هما، أو هم، أو هنّ. لعلّي أنا أنا.

 

 

  • 1. يستخدم البعض مصطلح "تحوّل جندري"، لكنّي لا أحبّذه لأنه برأيي يوحي بـ "تحوّل" الشخص إلى شخصٍ أو كائنٍ آخر، أو بأنّ الفرد ينتقل من "حالة أصيلة" إلى "حالة مصطنعة" أو غريبة. أما مصطلح "العبور"، فيوحي بأن الشّخص ذاته يشرع في رحلةِ استكشاف (أو وصولٍ) يعبر فيها من مكانٍ إلى آخر ليستقر في المكان الذي يحلو له أو يُريحه، فإما يبقى أو يعبر منه إلى أماكن أخرى. بهذا المعنى، يختزن مصطلح "عبور" انسيابيةً وتحرّرًا وفرحًا وأصالةً أشعر أنها تعبّر عن هويّتي وتجربتي.
  • 2. لا أحبّذ أن أسمّيه اسميَ "السّابق" أو "الميت"، فهو جزءٌ منّي وما زال حيًا فيّ ولا يمثّل أيّ تهديدٍ لهويّتي الحالية. ما زال والداي يخاطبانني بضمير المؤنّث. تلك هي الحالة الوحيدة التي أُمانع فيها ذلك الضمير، لأنه يأتي من موقع رفضٍ لي وإنكارٍ لأناي ونفيٍ لضمائري الأخرى.
  • 3. لا أقصد تبسيط موضوع العبور الجندري ومساواته بتسريحة الشّعر، لكن تعليقي جاء على سبيل الدعابة والمبالغة لغايةِ إيصال المعنى.
  • 4. "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ". خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" – القرآن الكريم، سورة العلَق: الآيات 1 – 5.