Add new comment

بيروت يا حلوين، مدينة نُروّضها على مهل!

بيروت مدينة نُروّضها على مهل لتكون لنا ملاذًا نعيش فيه قصصنا الغرامية الجامحة ومغامراتنا الجنسية الجريئة.

عند زاوية إحدى الحانات في منطقة مارمخايل قبّلتُ الشاب المسؤول عن موسيقى الحانة أو ما يُعرف بـ"الدي جاي". لم أعرف وقتها السبب الذي دفعني إلى تقبيله في الطريق العام وأمام النّاس، هل هو انجذاب شديد يُلغي معه التفكير في الحواجز وفي الآخرين أم هو تحدّ للسلطة بجميع تشكّلاتها.

هنا في بيروت، نشأت على احتقار زملائي في المدرسة ونعتهم لي بـ"البنوتي" و"النعنوع". ترعرت وكبرت وأولاد الحيّ يسيرون خلفي مُطلقين أصواتًا "غريبة" و"جنسيّة"، ساخرين من حركاتي. هنا في بيروت، في هذه المدينة الصغيرة، اكتشفت هويّتي الجنسية. لن أنسى صوت بائع الخضار يقول لصديقه "ليك ها اللوطي"، ظلّ صوته المُتهكّم يتكرر في رأسي. في بيروت عشتُ أيام حرب تموز/يوليو سنة 2006، كنتُ مُرتعبًا من فكرة الموت. بل كنتُ مرتعبًا أن أموت يومًا في غارة إسرائيلية وأنا شخصٌ عاصٍ، يُحبّ الذكور ويُمارس العادة الجنسية.

هذا التناقض بين المقطعين يُلخّص مسار حياة خضتها في بيروت. المدينة المُنفتحة على الآخر المُختلف، المدينة التي يعيش فيها المثليّون "بسلام وأمان"، هذا الكلام الورديّ سمعته مرّات عديدة من أصدقاء عرب. هذا الكلام الجميل أستغربه وأستنكره لأن بيروت التي يتكلمون عنها ليست هي بيروت الحقيقية التي نشأت بين حاراتها وأزقّتها وشوارعها ولم أشعر يومًا فيها بالأمان.

قد يكون السبب الذي جعل أصدقائي العرب في شوق إلى بيروت، تلك الصور الكرنفالية الملوّنة التي ينشرها بعض الأشخاص على انستغرام يُعبّرون من خلالها عن ذواتهم وهويتهم الجنسية غير المعياريّة، أم لعلّ السبب فيديوهات ليالي بيروت الحمراء والصاخبة. قد يكون السبب أيضًا علانية المنظمات والجمعيات المُهتمة بقضايا الجندر والمُدافعة عن الحريات الفردية والمثليين في بيروت، أم لعله حلق في أذن شاب ظهر في إحدى المقابلات التلفزيونية. لا أعرف السبب ولست متأكدًا منه. كلّ ما أعرفه أنّ أصدقائي لا يعرفون خبايا تلك الصور الكرنفالية ولا يعلمون أنّ ذلك الشاب صاحب الحلق والواثق من نفسه قد خاض صراعًا طويلا مع أهله وأقاربه وسكان الحي من أجل أن يرتدي ما يُريده، ولا يعلمون أن حسابات الانستغرام النابضة بالحياة والشغف هي حسابات خاصة مغلقة يراقب أصحابها متابعيها بحذر خوفًا من ذويهم. لا بد أنهم لا يعرفون المادة 534 من قانون العقوبات اللبناني والتي تتخذها السلطة أداة لقمع المثليين وملاحقتهم.

بيروت التي يتكلمون عنها ليست هي بيروت الحقيقية التي نشأت بين حاراتها وأزقّتها وشوارعها ولم أشعر يومًا فيها بالأمان

بيروت يا حلوين، حلبة كبيرة للصراع مع الأهل والمجتمع والسلطة. بيروت يا حلوين، دوّامة ومتاهة كُبرى نعيش داخلها بمنطق تبريري، يجب أن تبرّر كلّ شيء يخصّ وجودك، واهتمامك بمظهرك، وحركات يديك، وقفتك المعوجّة، مشيتك السريعة، كلامك الليّن، نظراتك الحائرة، ارتباكك، خوفك، مشطة شعرك، بنطلونك، وحبّك للألوان، وغضبك، وحزنك، وحتى لحظات فرحك الزائلة. نُبدّل خلسةً ملابسنا ذات الألوان القاتمة بأخرى مُبهجة مُطرّزة في سيارات أصدقائنا، ونسكر خلسة، ونبكي خلسة، ونمارس الحبّ خلسة، ونتكلم عن ميولنا خلسة. بيروت يا حلوين، يعيش فيها مُعظم المثليين داخل قوقعة مُظلمة. في أحياء فقيرة وبيوت تتسرب إليها مياه الأمطار في الشتاء وفي أحياء راقية وبيوت مفروشة سجادًا عجميًا شتاء وصيف. المثلي ليس كائنا فضائيًا أو أيقونة موضة، ليس دلوع الماما أو بهجة العائلة، هو إنسان يعيش ما يعيشه أيّ منكم من فرح وحزن وصعاب ونجاحات وفروقات اجتماعية وطبقية.

منذ أيام، خرجت من بيتي مرتديا "بنطلون جينز" مُمزّقًا عند ركبته. اتّصل بي والدي المغترب في إحدى دول جنوب أفريقيا ليطلب مني الذهاب عند أحد أصدقائه في منطقة تعتبر من أكثر المناطق المحافظة في بيروت لتحصيل مبلغ مالي. بعد قرابة نصف ساعة من الأخذ والرد مع صديقي على الواتساب حول ضرورة عودتي إلى المنزل لتغيير البنطلون الممزق بواحد "عادي"، قررت أن أذهب مثلما أنا لست خائفًا من نظرة الناس لي.

منذ فترة منعت السلطات اللبنانية إتمام برنامج احتفال بيروت برايد Beirut Pride واعتقلت المنظم لتفرج عنه بعد ساعات، وفي متابعتي للحدث على تويتر مرت أمامي تغريدة يقول فيها صاحبها إنه لن يعيش في لبنان بعد منع الحفل، مُعربًا عن استغرابه الشديد مما حصل وكأنه لا يعيش معنا في نفس المدينة. بيروت التي نعرفها ليست بيروت التي يعرفها. فبيروت ليست شارعين آمنين للمثليين من مختلف الجنسيات فقط، لا يُمكن أن نختزلها في حاناتها المكتظة ولياليها الصاخبة ولا في مثليّيها القليلين جدًا الذين يعيشون فوق سحابة "البابي" و"المامي" غير مُدركين لما يتعرّض له السواد الأعظم من قمع وتنكيل.

بيروت يا حلوين هي مدينة نُروّضها على مهل كي تقبل اختلافنا، نتحداها لتكون لنا، يومًا ما، حضنًا يسعنا ويسع حبّنا للحياة، لتكون لنا ملاذًا نعيش فيه قصصنا الغرامية الجامحة ومغامراتنا الجنسية الجريئة.