أن أرتدي الخوف كهوية

كان الجهلُ الجلّاد الأول الذي سلّم ورد زراع وجبةً سهلةً للخوف، مئات الأسئلة يطرحها على نفسه ولا يجد لها جوابًا.

***     هل خبِرتَ جِبالَ الخوفِ؟ في غابةِ المرتفعاتِ تِلك، كنتُ أركضُ من دون وجهة. هناكَ، لا مكانَ إلا للهرب... أركضُ وأتركُ كل صناديقِ المكان، وحدها رأسي كانت بيتي. بيتٌ بلا جدرانٍ أقيم فيه!    ***   

هذا ما توقفتُ عن المسير لأكتبه.

في الواقع، أنا أخرج للمشي كل يوم. بدأَت القصة من حاجتي للحركة في بلادٍ يطمرها الثلج نصف أيام السنة، لأكتشف مع تكرار الممارسة أنها غربالٌ سحري ينقّي أفكاري في كل خطوة. اختبرتُ الكثير من الحوادث القوية والهزّات النفسية، فصرتُ أحترف الهرب من مواجهة ما حدث، خوفًا من إدراك ما فقدتُه. أميالٌ كثيرةٌ اجتزتُها كي أتمكّن من كتابة جملةٍ بسيطةٍ كهذه. أمشي ولا أقصد مكانًا غير نفسي. فمن أبعدَني عني إلى هذا الحدّ؟

في الفترة الأخيرة، صرتُ أتذكر تفاصيل من حياتي لم أكن أنتبه لها سابقًا، كأني صُفعت وبدأ الخدرُ يزول الآن عن ذاكرتي عندما تتكرّر الأحداث وأستعيد المشاهد ذاتها.

ذات يومٍ في مدرسة البنات، صبيٌ صغيرٌ في الثالثة عشرة من العمر، له شعرٌ قصير، حاجبان سميكان وجسدُ فتاة، يجلس على المقعد في الصّف محشورًا بين فتاتين. تنادي المعلمة اسمي غاضبة: "لماذا لم تضَع الشريطة الصفراء على رأسك كبقية البنات؟" لكل مرحلةٍ مدرسيةٍ لون شرائط خاصٌّ بها، فاللون الأصفر مثلًا كان مخصّصًا للمرحلة الإعدادية. تكرّر ذاك السؤال مراتٍ عديدة. لا إجابة لديّ.

تقول المعلّمة شيئًا ما عن "المتشبّهات بالرجال"! لا أهتم. أنا رجلٌ لا أتشبّه بأحد. لكن عندما عدتُ إلى المنزل سألتُ نفسي: هل كانت تقصدني أنا؟

الخوف جعلني أعيش سنواتٍ على الحياد متجنبًا كل ما يتعلق بهويّتي الجندرية حتى بيني وبين نفسي

كان الجهلُ الجلّاد الأول الذي سلّمني وجبةً سهلةً للخوف، مئات الأسئلة أطرحها على نفسي ولا أجد لها جوابًا. في ذلك الوقت لم تكن هناك وجهة أقصدها لأسأل عن هويّتي، ولماذا أنا مختلف؟ هل من الطبيعي أن أكون صبيًا بجسد فتاة؟ كل ما كنتُ أستطيع فعله هو إخفاء هويتي كي أتجنّب العقاب أو النبذ على ذنبٍ أجهله. شعوري بالخطر كان نتيجةً طبيعيةً لكل ما يدور في المجتمع المحيط بي، كالأحاديث التي أسمعها عن كل من يخالف النمطية الجندرية المُتعارف عليها في الشارع والمحصورة بثنائية رجل/امرأة. المثليون/ات مثلًا كانوا يسمّون شواذًا، وكان اللفظ يُستخدم شتيمةً أو تهمةً أكثر منه وصفًا. في الأفلام والمسلسلات، رُسّخ العداء والعزل لكلّ من هو أو هي خارج القالب الجندري الجامد من خلال كليشيهاتٍ تصوّر الصبيان الناعمين أو الفتيات المسترجلات بشكلٍ مثيرٍ للسخرية يُبيحهم/ن للتنمّر.

"افتح يدك!"، تأمرني وهي تمسك بالعصا. أنظر إليها وأفتح يدي. ترتفع العصا وتنزل. أسمع صوتها تشقّ الهواء. واحد… اثنان. انتهى عقاب اليوم. كان هذا السيناريو يتكرر مرةً أو اثنتين كل أسبوعٍ تقريبًا على مدى فصلٍ دراسي كامل. في مدارسنا، يُعاقب الجميع بالقسوة ذاتها، لكن المشكلة أنّي لم أكن قادرًا على تجنّب السلوك الذي يؤدي لذلك العقاب، كما أن الخوف أخرسني. أنا صبيّ، هذه هي حقيقتي، فلماذا يفرضون عليّ وضع شريطةٍ على شعري مثل البنات؟ جملةٌ صرختُها في رأسي مراتٍ ومرات، لكنّي لم أتفوّه بها يومًا أمامهم.

بعد سنوات، ومع دخول الإنترنت حياتنا، بدأتُ باستخدام محرّكات البحث التي كانت مساحةً آمنةً لي للبحث عن إجاباتٍ لأسئلتي. أردتُ أن أعرف من أنا. استخدمتُ العربية لأنّ لغتي الإنكليزية لم تكن جيدةً بما يكفي لأفهم كل ما كُتب، وهنا كانت الكارثة. لم أقع على مصدرٍ علمي واحدٍ باللغة العربية يشرح اضطراب الهوية الجندرية أو القلق الجندري. كل فراغٍ في المعلومات كان يملؤه شيوخٌ لا يجيدون سوى التكفير والوعيد، أو مرشدون اجتماعيون يجرّمون الاختلاف مستندين في كلامهم إلى الأعراف والعادات بدل الدراسات المعاصرة والحقائق العلمية. يدفعونك للخوف من ذاتك وإنكار ما تشعر به. ذلك الخوف جعلني أعيش سنواتٍ على الحياد متجنبًا كل ما يتعلق بهويّتي الجندرية حتى بيني وبين نفسي. اخترعتُ آلياتٍ دفاعيةً لأناي، كان منها التماهي مع الهوية القومية. ففي منطقةٍ ساخنةٍ خصبةٍ بالحروب اللامتناهية كتلك التي نعيشها، ليس هناك ما هو أسهل من ذلك.

عندما تُحتل بلادٌ تُحتلّ أجساد أفرادها أيضًا. أذكر أنّي لم أمتلك جسدي إلا بعد أن هاجَرت. الهجرة ضريبةٌ أخرى كان عليّ تسديدها كرجلٍ ترانس (عابر)

هذه الذكريات التي يتجاوز عمرها عشرين سنةً عادت إلى ذهني ربما بسبب الأخبار هذه الأيام. فعلى القنوات الفضائية وصفحات التواصل الاجتماعي خبرٌ عاجلٌ بالخط العريض: "أميركا تترك أفغانستان لطالبان!" أجسادنا تنتقل من محتلٍ إلى آخر، مرة أخرى من العسَس إلى اللّحى! يدفعني ذلك لأُفكر بصبيّ يعيش اليوم هناك في جسد فتاةٍ مع كل هذا الرعب في داخله؛ خوفه من أن يكشفوا هويته ومن العقاب الذي سيحلّ به. كيف سيقول أنه رجلٌ وهو مرغمٌ على تغطية رأسه وارتداء الفساتين؟ للخائفين صوتٌ واحدٌ وحناجر عديدة.

عندما تُحتل بلادٌ تُحتلّ أجساد أفرادها أيضًا. أذكر أنّي لم أمتلك جسدي إلا بعد أن هاجَرت. الهجرة ضريبةٌ أخرى كان عليّ تسديدها كرجلٍ ترانس (عابر). لو وضعنا الحرب في سوريا جانبًا، هل كان بإمكاني الخروج من الخزانة وأنا في البلد؟ الإجابة واضحة: "لا". فأنا الآن لا أستطيع العودة إلى هناك. عليّ أن أختار بين الوطن والجسد، ولأنّي كفلسطيني سوري لم أمتلك يومًا وطنًا أو هوية مواطن، اخترتُ الهرب كي أمتلك جسدي. أي مفارقةٍ تلك؟ وهل يكون المكان الذي يجبرك على إنكار ذاتك وطنًا لك؟

مخزوننا من الحزن أعمق من أن تفرغه طريقٌ للمشي في اتجاهين، نحن الذين اعتدنا على الركض في اتجاهٍ واحدٍ والهروب دائمًا من هاويةٍ ما. نحن الذين لا نعرف العودة إلى الوراء لأنّ ما من وراءٍ خلفنا. سيقاننا خشبيةٌ نخفّف بالركض وزرَها. طرقُنا وعرةٌ تبدأ خلف الرغيف وتنتهي أمام المرآة. نكبر معتادين على أسلوب الحياة ذاك. نحن من بلادٍ أحذيتها افتراضيةٌ تصلح لطرقٍ نقرأ عنها لكن لن نستطيع اجتياز خطوةٍ واحدةٍ فيها. نهدر الكثير من أعمارنا فوق سطورها لا ترابها. أطفال مدارس ممنوعون من الركض في باحاتها، أسوارها عاليةٌ كالسجون، تعلّمنا آداب طريقٍ لا نراه.