الحمل الأوّل بعد الثلاثين: الصحّة بخير، أما المجتمع…

14/04/2022
1217 words

ليس سهلًا أن تكوني امرأةً صعيديّةً تخطّت الثلاثين من العمر ولم تتزوّج بعد، لاسيما إذا ما قورنتِ بامرأةٍ من المدينة يسهل عليها أكثر إيجاد عملٍ وتحقيق ذاتها، فتتجاوز سنّ الثلاثين وتكون لا تزال عازبة. في الصعيد، كما في كثيرٍ من المناطق التقليدية اجتماعيًا، "خُلِقت" المرأة للزواج وإنجاب الأطفال فقط. تقول أمّي: "حتّى لو بقيتِ وزيرة طالما ما تجوّزتيش فما فيش فايدة منك". هنا، يُعدُّون الفتاة للزواج منذ الصّغر، بدءًا من ألعاب "العرايس" و"النونو" التي تدربّ الفتيات على الإنجاب والتربية، مرورًا بانخراطهنّ في مساعدة أمّهاتهن في الأعمال المنزلية ليتعلّمن إدارة البيت بعد الزواج، ووصولًا إلى تحايل الأهل على القوانين الحكومية وتخطيب بناتهنّ أو كتابة كتابهن قبل إكمالهنّ السنّ القانونية تمهيدًا لتزويجهنّ عندما يبلغنها. أقصى طموحٍ متاحٍ للفتيات الصعيديّات هو استكمال الدراسة الجامعية التي تنتهي معها الأحلام الخاصة بتحقيق الذات، إذ يشرع الجميع في "مساعدة" الفتاة للعثور على عريسٍ تتزوّج به وتنجب الأطفال.

عندما اكتشفتُ أني امرأة

كنت محظوظةً في إقناع أبي بعدم إجباري على الزواج، وتركيَ القرار حتى أصبح راغبةً أو مستعدّةً لتلك الخطوة. مرّت السنوات بعد تخرّجي ولم أعثر على الشخص المناسب. كنتُ أؤمن أنّي في النهاية سأجد الحبّ الذي كنتُ أنتظره مهما طال الزمن، لكنّ كلام الناس وضغط أفراد العائلة على والديّ لإقناعي بالزواج من أيّ شخصٍ يتقدّم لي، بالتوازي مع تقدّمي في العمر، جعل الجميع يحذّرني من شبح "العنوسة" وصعوبة إنجاب الأولاد في حال تأخّرتُ أكثر في الزواج. 

بعد سنواتٍ قليلةٍ من إتمامي سنّ الثلاثين، تزوّجتُ، وارتحتُ، وارتاح الجميع. هذا ما تصوّرتُه في البداية. لكن بعد مرور أسبوعٍ واحدٍ على زواجي، بدأ السؤال عن الحمل. الجميع يسأل: "ها، مفيش حاجة جاية في السكّة؟" في الواقع، بدأَت النساء حولي يعددن الشهور والأيّام، ويعدّدن مَن تزوّجَت بعدي وحملَت قبلي. اكتشفتُ عالمًا آخر من النميمة يشارك فيه الجميع، حتّى الأطفال. الكلّ يعرف مَن حملَت ومَن أجهضَت حملها. الجميع، في العائلة وفي الشارع، يراقب بطني. هل انتفخ؟ هل أضع عليه يدي باستمرار؟ الجميع ينتظر إعلان حملي ويسأل عن سبب التأخير، لا بل بدأَ بعض النساء يدعين لي بأن "يفتح رحمي" بمولودٍ ذكر!

كلام الناس وضغط أفراد العائلة على والديّ لإقناعي بالزواج من أيّ شخصٍ يتقدّم لي، بالتوازي مع تقدّمي في العمر، جعل الجميع يحذّرني من شبح "العنوسة"

بعد مرور أربعين يومًا فقط على زواجي من دون حمل، خافت أمي أن أكون "مشَوهَرَة". فأمي ونساء الصعيد يعتقدن بأنّ "المشوهرة" تحدث عندما تقوم امرأةٌ لا تحمل أو لا يكتمل حملها، وهي في فترة الحيض، بزيارة عروسٍ جديدةٍ قبل أن تكمل شهرًا من الزواج (لذلك سُمّيت مشوهرة)، فتحمل المرأةُ الزائرةُ ولا تحمل العروس. أما أختي الكبرى المتزوجة منذ ربع قرن، فأحضرَت لي "طلع النخيل" كي أعبر فوقه سبع مراتٍ فأقضي على "المشوهرة" وأحمل. حماتي من جهتها، رأت أنّ عليّ الذهاب إلى قرية البهنسا والتدحرج فوق الجبل لكي أحمل. ما أثار دهشتي وقتذاك هو إيمان النساء بخرافاتٍ كتلك ترتبط دائمًا بالزواج والإنجاب، على الرغم من تديّنهنّ وثقتهنّ بأنّ الأمر بيد الله وحده.

عيادات النساء في الصعيد: أسرارٌ ونميمةٌ ومآسي

مرّةً أخرى، رضختُ للمجتمع وذهبتُ مع زوجي إلى عيادةٍ نسائيةٍ لمعرفة أسباب عدم حملي. في العيادة، بدأ من حولنا بالسؤال عن سنّي وتوجيه النصائح لنا في السرّ والعلن بضرورة الذهاب إلى طبيبٍ نسائي حتّى يجد حلًّا لتأخّر الحمل، على الرغم من عدم مرور أكثر من ثلاثة أشهرٍ على زواجنا. في الحقيقة، بدأ الأمر يزعجني ويصيبني بالتوتر، وتسلّل إليّ القلق من عدم الإنجاب، على الرغم من اقتناعي بعدم وجود أسبابٍ طبيّةٍ أو منطقيّةٍ للقلق. لكن كما يُقال، "الزنّ على الودان أمَرّ من السحر"، لذلك قرّرتُ بالفعل زيارة عيادة طبيبٍ نسائي لمجرد الاطمئنان. ومنذ ذلك اليوم، دخلتُ عالمًا غريبًا عني تمامًا. 

قصدتُ وزوجي طبيبًا نسائيًا شهيرًا في المدينة، ثمن الكشف لديه مرتفعٌ مقارنةً بكشفيّات الأطباء في الصعيد (150 جنيهًا - حوالي 9 دولارات أميركية - في حال وجود حجز و200 جنيهٍ - حوالي 11 دولار أميركي - في حال لم يكن هناك حجزٌ مسبق). مع ذلك، كانت عيادته المكتظّة بالنساء غير نظيفةٍ وغير معقّمة، وكانت الكراسي مهترئةً والأثاث قديمًا كأنه تحمّل آلاف السيدات قبلي. انقبض قلبي وقلتُ لزوجي: "لا أريد الدخول"، إلا أنه أقنعني بالعكس قائلًا إنّ الأمر لن يستغرق إلّا دقائق، لكن تلك الدقائق كانت كافيةً لتصيبَني بالغثيان.

كان الكشف الأول عبارةً عن أسئلةٍ عن انتظام الدورة الشهرية وعمّا إذا كانت تربطني بزوجي قرابة، بما أنّ زواج القربى عادةٌ مُنتشرةٌ في الصعيد تؤدّي أحيانًا إلى ولادة أطفالٍ مصابين بالتشوّه الخلقي. اطمئنّ الطبيب بجهاز السونار على شكل الرحم وحجم البويضة ومدى نشاطها بمساعدة فتاةٍ تقف بجواره لتساعد النساء في رفع ملابسهنّ ووضع السائل اللزج على بطونهنّ كي يمرّر الطبيبُ جهازه فوق منطقة الرحم ويرى في شاشةٍ بائسةٍ شخبطاتٍ سوداء وبيضاء ترسم شكل الرحم. بعد انتهائه من الكشف، كتب لي بعض الأدوية المُنشّطة للبويضة والفيتامينات، وكذلك لزوجي، وطلب منه إجراء تحليلٍ للسائل المنوي، كما طلب منّا المتابعة معه مرةً كلّ شهر، مشيرًا إلى أن الحمل قد يحصل في أيّ وقتٍ طالما ألّا وجود لأيّ موانع طبيةٍ أو نفسية.

تكرّرت الزيارات على مدى سبعة أشهر، قابلتُ فيها نساءً عديداتٍ كان لكلٍّ منهنّ حكاية تسردها في انتظار موعدٍ قد يطول لساعاتٍ عدّة. كانت أعمارهنّ مختلفة، فهناك من تجاوزَت الأربعين وتجرّ أطفالها معها وفي بطنها جنينٌ آخر، وهناك من لا تزال عروسًا حملَت بعد شهرٍ من زواجها ولم تتجاوز بعد سنّ الثامنة عشر. كما كان هناك من تمنّي النفس بطفلٍ منذ سنين، فتروح وتجيء إلى عيادات الأطباء. وعلى الرغم من أن غالبية المريضات كنّ من الريف، كان الطبيب يقسم أيام الكشف بين عيادات القرى والمدينة نظرًا لبُعد بعض القرى عن المدينة وصعوبة تنقّل بعض النساء. ففي العادة، تلجأ النساء إلى المتابعة مع طبيبٍ أو طبيبةٍ في عيادةٍ خاصةٍ حتّى لو اضطُررن للسفر إلى المدينة، حيث توجد مستوياتٌ عدةٌ من العيادات الخاصّة مقسّمةٌ وفق الإمكانات المادية، إذ لا توجد رعايةٌ صحيّةٌ مخصّصةٌ للحوامل أو الراغبات في الحمل في الوحدات التابعة لوزارة الصحة.

يُمكن تشبيه الإنجاب في القرى بالمبارزة والمنافسة. من تنجب أكثر، تنتصر. وبالطبع، من تنجب صبيانًا أكثر من البنات أو صبيانًا فقط، تكتسب مكانةً اجتماعيةً خاصةً

ذات مرة، قالت لي إحدى السيّدات في العيادة أنها حاملٌ بثلاثة توائم نتيجة استخدامها عقارًا يفجّر البويضات، بحيث تنزل ثلاث أو أربع بويضاتٍ شهريًا بدلًا من واحدة، ما يزيد من فرص الحمل، غالبًا بتوأمٍ أو أكثر. نصحَتني أن أفعل مثلها. بالطبع، لم أخبرها عن خطورة الأمر عليها وعلى أطفالها الذين قد يُولدوا بتشوّهاتٍ جسديةٍ أو عقلية، وهو ما كنت قرأتُ عنه وشاهدتُه بنفسي لدى أطفال قريتنا المولودين بالطريقة نفسها. ولعلّ ذلك يفسّر أيضًا انتشار ظاهرة إنجاب التوائم مؤخرًا، فمَن يملك المال يلجأ إلى عمليّات الحقن المجهري، أمّا غير الميسورين فيقرّرون تفجير البويضات لإنجاب التوائم. هذه الفكرة رُوِّج لها في أوساط الأمّهات والآباء، حتى في القرى الصغيرة في الصعيد، من دون أدنى توعيةٍ بخطورة الأمر من قبل الجمعيات والمؤسّسات العامة المنتشرة بكثافةٍ في تلك المناطق وكثرة حملاتها عن التوعية الإنجابية ومحاربة الزواج المُبكر والختان. ويفاقم انتشار تلك الممارسة غيابُ الرقابة والمحاسبة عن الأطباء الذين يلجأون إلى تلك الإجراءات، فقد عرض الطبيبُ الأمرَ عليّ أنا وزوجي كحلٍّ في حال كنّا نستعجل الحمل والإنجاب، لكننا رفضنا وقطعنا زياراتنا إليه، وتركنا الحمل يسير بشكلٍ طبيعي طالما ألّا موانع طبية تحول دونه.

أيام الحمل بـ "حتة بنت"

بعد عامٍ ونصف العام من الزواج، حصل الحمل. فجأة، تغيّرَت نظرة العائلة والجيران لي، فابتهجَت أساريرهم واعتبروني امرأةً لا "أرضًا بورًا". بارك الجميع لي وانهالوا عليّ بالنصائح. حدث تحوّلٌ تامٌ في المعاملة. لم أكن أتوقّع أن يُظهر حملي وجهًا آخر لديهم جميعًا.

يُمكن تشبيه الإنجاب في القرى بالمبارزة والمنافسة. من تنجب أكثر، تنتصر. وبالطبع، من تنجب صبيانًا أكثر من البنات أو صبيانًا فقط، تكتسب مكانةً اجتماعيةً خاصةً ويُعدُّ زوجها محظوظًا. لي قريبةٌ تدعو على كلّ طفلةٍ تولد في العائلة أن تكون الأخيرة، وهناك من تتمنّى ألا تنجب بنتًا باعتبارها ناقصة. أمّا أنا وزوجي، فلم نفرح مرّةً كما فرحنا عندما علمنا بأنني حاملٌ بفتاة، ما أثار تعجّب كل من حولنا، إذ استغربوا كلّ تلك الفرحة كرمى لـ "حتة بنت".