حق المرأة في الكدّ والسعاية: عن مكتسبات قضمها الشرع

مع تطوّر وضع المرأة المادي والاجتماعي وتقاسمها أعباء الحياة مع الرجل، برزَت الحاجة إلى تكريس بعض القوانين التي تكفل لها حقوقها الماديّة التي لا يعترف بها الشرع، على عكس التاريخ الذي يتضمّن سوابق تضمن هذه الحقوق، وتتجاوز في تقدّميتها الشرع نفسه. ويُعدُّ حقّ المرأة في الكدّ والسعاية أبرزها، وهو حقٌّ أعاد شيخ الأزهر إحياءه مؤخرًا.

في الواقع، يندرج مفهوم حقّ الكدّ والسعاية ضمن فقه النوازل الذي يخصّ المرأة، ويكرّس لها مبدأ الذمّة الماليّة، أي حقوقها الماديّة والمعنويّة في المال الذي شاركَت زوجها في تكوينه. هو مفهومٌ فقهي خالصٌ ظهَر في القرن الخامس عشر في المجتمعات الإسلامية في المغرب، وعُنِي أساسًا بحقوق المرأة الريفيّة ونساء البوادي. 

لكن يبقى تطوير القوانين والأنظمة رهن السلطة السياسيّة التي لم تستطع تجاوز تأثير المؤسّسة الدينيّة، وما انفكّت تعارض أيّ مشروعٍ تقدّميّ يراعي هذا التطوّر، فضلًا عن خضوعها للعادات والتقاليد الاجتماعيّة التي تحدّ من التطوير.

الجذور التاريخيّة

يعود أصل هذا المفهوم إلى حادثةٍ وقعَت لحبيبة بنت زريق بعد وفاة زوجها، عامر بن الحارث، في عهد الخليفة عمر بن الخطّاب. فقد أقرّ لها الخليفة بنصف الثروة التي حصّلَتها مع زوجها في عمل النسيج، بعد أن تحامل عليها ورثتُه وحاولوا انتهاك حقّها وسعيها في جمع تلك الثروة، بالإضافة إلى حقّها الشرعي ونصيبها من الميراث. يظهر من هذه القصّة أنّ عمر بن الخطّاب تعامل مع هذه النازلة بتأويلٍ واضحٍ للمعطيات المتوفّرة لديه، متجاوزًا الدلالة القطعيّة للنصّ القرآني [يوصيكُم اللّهُ في أولادكُم للذّكر مثلُ حظّ الأنثيَيْن] (النساء، الآية 11). وقد فصل بين الحقّ في الميراث الذي تتمتّع به المرأة بمقتضى النصّ القرآني، وحقّها في الأموال والمكتسبات التي حقّقتها مع زوجها.

من هذا المنطلق، يستبطن مفهوم الكدّ والسعاية "دلالة لغويّة واصطلاحيّة قويّة ومُعبّرة، واصفةً لما يبذله السعاة من كدٍّ وسعايةٍ في سبيل تنمية مال الأسرة أو تكوينه"،1 وهو ما تدلّل عليه الآيتان [39/40] من سورة النّجم، (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى).

فتوى الكدّ والسعاية لم تمسّ جانب الميراث الذي نصّ عليه الشرع بمقتضى القرآن والسنّة. وهنا مكمن القضيّة

شكّلَت هذه الحادثة وهاتان الآيتان مُنطلقًا لتأسيس هذا المفهوم في فقه النوازل المالكي في المجتمعات الإسلامية في المغرب، أو ما يُعرف بفقه النساء، لينتقل في ما بعد إلى المشرق. 

يُعدُّ الفقيه المالكي ابن عرضون أوّل من استعادَ هذه الفتوى في القرن الخامس عشر، عندما سُئلَ عن حقّ نساء البوادي في الزرع والحصاد والأعمال التي يشاركن بها الرجال. فقد أجاز قسمة الغلّة على النصف أو على الرّؤوس إذا تشاركوا في عملها، واتّفق في ذلك مع مواقف بعض الفقهاء المغاربة، بقوله: "فأجاب بالذي أجاب به الشيخ القوري مفتي الحضرة الفاسية شيخ الإمام ابن غازي: إن الزرع يقسم على رؤوس من نتج عن خدمتهم. وزاد عليه مفتي البلاد الغمارية جدنا سيدي أبو القاسم بن حجو: على قدر خدمتهم وبحسبها من اتفاقهم أو تفاوتهم. وزدت أنا – لله عبد – بعد مراعاة الأرض والبقر والآلة، فإن كان متساوين فيها أيضًا فلا كلام، وإن كانت لواحدٍ حسب له ذلك، والله تعالى أعلم".2

ما يمكن إجماله، أنّ فتوى الكدّ والسعاية لم تمسّ جانب الميراث الذي نصّ عليه الشرع بمقتضى القرآن والسنّة. وهنا مكمن القضيّة. لذلك، تضاربَت الرؤى في مقولات المؤسّسة الدينيّة بين قبول هذه الفتوى بشكلٍ خاصّ والامتناع عن الخوض في مسألة المساواة في الميراث باعتبار أنّها محسومةٌ شرعًا. ولنا في الأزهر ومشائخ الزيتونة خير مثالٍ على هذا التضارب في المواقف.

إحياء حق الكدّ والسّعاية

دعا شيخ الأزهر أحمد الطيّب، منذ أشهر، إلى إعادة إحياء فتوى الكدّ والسعاية، مستندًا إلى فتوى الفقيه المغربيّ ابن عرضون، ومُعلِّلا ذلك بتطوّر وضع المرأة الاجتماعي. بيّن شيخ الأزهر أنّ التراث الإسلامي غني بمعالجاتٍ لقضايا شتّى، إذا تأمّلناها سوف نقف على مدى غزارة وعُمق هذا التراث. 

تأتي المرونة التي أظهرها الأزهر تجاه قضايا النساء من خلال هذه الدعوة، مفصولة عن أي انغماسٍ حقيقي في إعادة تجديد النصّ الديني

أحدثَت هذه الخطوة جدلًا كبيرًا في مصر، وأعادَت التذكير بالجدل القديم في شأن قانون مراجعة الأحوال الشخصيّة الذي يسعى البرلمان المصري إلى إصداره منذ العام 2017، ما تطلّب تدخّل متخصّصين في الفقه لتفسير الفتوى وأصولها. وكانت سبقَت الإشارة إلى هذا المفهوم في توصيات "مؤتمر الأزهر لتجديد الفكر الإسلامي" في عام 2019، عبر الدعوة إلى "وجوب تعويض المُشتركِ في تنمية الثروة العائليّة، كالزّوجة التي تخلطُ مالها بمال الزّوج، والأبناء الذين يعملون مع الأب في تجارةٍ ونحوها. فيؤخذُ من التّركة قبل قسمتها ما يُعادلُ حقّهم. إن عُلمَ مقدارُهُ. أو يتصالحُ عليه بحسب ما يراهُ أهلُ الخبرة و الحكمة وإن لم يُعلم مقدارهُ".

مع ذلك، تأتي المرونة التي أظهرها الأزهر تجاه قضايا النساء من خلال هذه الدعوة، مفصولة عن أي انغماسٍ حقيقي في إعادة تجديد النصّ الديني، ويرجّح أنّ تكون مجرّد مجاراةٍ لمطالب الحركات النسويّة لتخفيف التوتّر الحاصل حول بعض القضايا. عمليًا، يعود قبول الأزهر بفتوى الكدّ والسعاية إلى كونه لا يمسُّ الأصل الشرعي، ولا يوجدُ فيه دليلٌ قطعيّ واضحٌ يتنافى مع ما جاء في الشريعة، فهو يدخُلُ ضمن باب الاجتهادات التي تراعي تطوّر وضع المرأة ومكانتها في المجتمع، من دون البحث في مساءلة الأصول وإعادة قراءة النصّ الديني بما يتلاءم مع واقع المرأة حاليًا. 

خضّةٌ وضجّةٌ وتأييد

في مصر، لاقَت دعوة الأزهر استحسان مفتي الديار المصريّة السابق، علي جمعة، الذي دعا إلى تطويرها، فيما بيّن بعض أساتذة الأزهر، ومن بينهم أحمد كريمة، أنّ حقّ الكدّ والسعاية لا يلزمُ الأعمال المنزليّة باعتبارها من واجبات المرأة الضروريّة، ويتعلّق فقط بالمعاملات الماليّة وسعي المرأة في تنمية ثروة العائلة. وبرّر البعضُ ذلك بأنّ ارتباط حقّ الكدّ والسعاية بالأعمال المنزليّة قد يحوّل المرأة من زوجة إلى خادمة. أمّا رئيسة المجلس القومي المصري للمرأة، مايا مرسي، فتفاعلَت إيجابيًّا مع دعوة شيخ الأزهر، من خلال تدوينةٍ عبر وسائل التواصل الإجتماعي، شكرَته فيها على مبادرته إلى إحياء هذه الفتوى لحفظ حقوق النساء العاملات "خصوصًا في ظل المستجدّات العصريّة التي فرضَت عليها النزول إلى سوق العمل ومشاركة زوجها أعباء الحياة". أما مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الدينيّة، أسامة الأزهري، فاعتبر أنّ "فتوى الكدّ والسّعاية تمثّل رؤية شرعيّة مهمّة واستنباطًا فقهيًّا عميقًا استنادًا إلى فتوى عمر بن الخطّاب"، ودعا إلى دعم الأزهر في هذا التوجّه. 

أحدث هذا النّقاش ضجّةً إعلاميّةً ضخمةً في مصر، وعلى إثره خصّصَت غالبيّة القنوات (مثل قناة صدى البلد، وقناة dmc، وقناة الحياة، وقناة mbc مصر) والصّحف المصريّة حلقات نقاشٍ إمّا بهدف تفسير الفتوى، أو فهم مدى فاعليّتها في واقع النساء المصريّات المُعاش. وأيضًا قُوبلَت الدعوة والنقاش المرافق لها باستحسان بعض النخب المصريّة التي رأَت فيها مرونةً من الأزهر، ودعَت إلى ضرورة تطوير الفتوى ووضعها ضمن إطارٍ قانوني ملزمٍ وفعّال، للقضاء على التوجسّات القائمة حيال سلطة الرجال الماليّة، والتقاليد والأعراف التي تصعّب تطبيق هذه الفتوى.

أمّا في تونس، فيعود النقاش في شأن حقوق النساء ليطفو على الساحة الإعلاميّة والسياسيّة كلّما اقترن بمناسبةٍ وطنيّةٍ أو مواقف تتعرّض لها النّساء. مثلًا، استفاق الشارع التونسي منذ فترةٍ على حادثٍ أليمٍ تعرّضَت له بعض العاملات الفلاحيّات في مدينة سيدي بوزيد، وأعاد النقاش في شأن حقوق النساء العاملات، وخصوصًا النساء الريفيّات، ومدى حرص الدولة على وضع الأطر القانونيّة والتشريعيّة التي تحميهنّ التمييز. 

حقّ الكدّ والسعاية في القوانين المدنيّة

تُعدُّ المملكة المغربيّة من بين أولى الدول في المنطقة الناطقة باللغة العربيّة التي طبّقَت حقّ الكدّ والسعاية، فقد حكمَت بعض محاكمها لصالح الزوجات والأبناء والبنات الذين ساهموا في تكوين ثروة العائلة بناءً على هذه الفتوى، على الرغم من أنّ القانون المغربي لا ينصّ على ذلك صراحةً في مدوّنة الأسرة، ما يعني أنّ تطبيق هذا المفهوم يبقى من اجتهادات القضاة. وقد رصد كمال بلحركة3 بعض القضايا التي حكمَت فيها محاكم أكادير والرباط بناءً على هذا المفهوم في المسائل العقاريّة والماليّة، بالإضافة إلى العديد من القضايا التي رفعَتها نساءٌ لإثبات مساهمتهنّ الماليّة، لكن نُقِضت بسبب عدم وجود أدلةٍ على مشاركتهنّ في تحصيل الثروة. 

لعلّ الإشكال الكبير الذي يرافق تطبيق حقّ الكدّ والسعاية هو عدم وجود وثيقةٍ بين الزوجين تُبيّن نسبة مساهمة كلّ منهما، وهو ما تتطلبه المادة 49 من مدوّنة الأسرة المغربيّة التي تنصّ على أنّ: "لكلّ واحدٍ من الزوجين ذمّة ماليّة مستقلّة عن الآخر، غير أنّه يجوز لهما في إطار تدبير الأموال التي تُكتسب أثناء قيام الرابطة الزوجيّة الاتفاق على استثمارها وتوزيعها، ويُضمَن هذا الاتفاق في وثيقة مستقلّة عن قرار الزواج. وإذا لم يكن هناك اتفاق فيرجع إلى القواعد العامّة للإثبات مع مراعاة عمل كلّ واحدٍ من الزوجين وما قدّمه من مجهودات، وما تحمّله من أعباء لتنمية أموال الأسرة".4

عمّق بروز تيّاراتٍ مختلفةٍ من الإسلام السياسي في الراهن السياسي في المنطقة من حدّة هذا الصدام، وجعل من تمرير هذه القوانين أمرًا صعبًا

أمّا في تونس، فيمثّل قانون الاشتراك في الملكيّة [1998] الذي يُنصّ عليه عند إبرام عقد الزواج أو بعده، ضمانًا لحقّ الزوجة في مساهمتها الماليّة وسعيها من أجل تنمية الأسرة. وينصّ القانون نفسه على أنّ ضابط الحالة المدنيّة أو المأمور العموميّ مجبرٌ على تذكير الطرفَين بهذا الإجراء، كما يمنح الحرّية للزوجين في اختيار النظام المالي الذي يريدان الخضوع إليه. إذن، يقترب هذا القانون إلى حدٍّ كبيرٍ من مفهوم الكدّ والسعاية بما أنّه يضمن الذمّة الماليّة للمرأة.

صدامٌ بين تيّاريْن يعمّق أزمة تأصيل القوانين 

من خلال الجدل الذي أحدثه إحياء مفهوم الكدّ والسعاية في مصر، والدعوات إلى إقرار قانون المساواة في الميراث في تونس، والانقسام الذي حصل نتيجة ذلك في بلدانٍ أخرى، يبدو واضحًا التصادم بين ذهنيّتَين لا تزالان تتنازعان الواقع في منطقتنا؛ ذهنيّةٌ تتمسّك بالمقولات التراثيّة بحرفيّتها وتكتفي ببعض الاجتهادات مراعاةً لتطوّر وضع المرأة في المجتمع، وأخرى ليبراليّة - عقلانيّة تنظُر إلى المسألة خارج إطار التمييز الجندري الذي تقوم عليه النصوص التراثيّة الإسلاميّة، وتتبع رؤيةً مدنيّةً وحقوقيّةً تقوم أساسًا على التمييز بين الحقّ والواجب.

عمّق بروز تيّاراتٍ مختلفةٍ من الإسلام السياسي في الراهن السياسي في المنطقة من حدّة هذا الصدام، وجعل من تمرير هذه القوانين أمرًا صعبًا. وقد يكون قانون المساواة في الميراث في تونس خير دليلٍ على ذلك، إذ لا يزال مُعلّقًا حتّى اليوم.

في الواقع، غالبيّة البلدان الناطقة باللغة العربيّة هي عضو في الاتفاقيّات الدوليّة والمواثيق التي تنادي بالمساواة التامّة بين الجنسَين، مثل اتفاقيّة سيداو للقضاء على جميع أشكال التمييز ضدّ المرأة التي أوصَت بالحقوق الكاملة والمساواة التامة للمرأة، ونصّت على ضرورة إدماج ذلك في الدساتير الوطنيّة والتشريعات المناسبة، بالإضافة إلى فرض الحماية القانونيّة لتلك الحقوق عن طريق المحاكم والمؤسّسات، فضلًا عن رفض جميع أشكال التمييز ضدّ المرأة على أساس الجنس أو الدّين أو اللون. إلّا أنّ تطبيق هذه التعهّدات في الدساتير والمراسيم ومجلّات الأحوال الشخصيّة يبقى شبه معدوم، ويعود ذلك إلى استناد غالبيّة القوانين التي تخصّ المرأة والأسرة عمومًا في هذه البلدان على مبدأ عدم التعارض مع النصّ الديني، وهو أمرٌ تساهم التيّارات الدينيّة في تغذيته.

هل من حاجةٍ إلى فقهٍ جندريّ؟

تمثّل مدوّنة الفقه في معظم بلدان المنطقة عقبةً حقيقيّةً أمام تقدّم مجتمعاتنا، وحاجزًا منيعًا أمام تحقيق المساواة التامّة بين الجنسَين. إنّ تطوّر وضع المرأة، وقدرتها على إثبات ذاتها وتحقيق استقلاليّتها العلميّة والاجتماعيّة والسّياسيّة، يضع الأصل الشرعي أمام مساءلةٍ حقيقيّةٍ تستدعي بدورها قراءةً جديدةً للنصّ الديني. يحتاج الأمر إلى إخراج الفقه من دائرة التمييز الجندري التي تُسيّج كلّ اجتهادٍ قانوني في علاقته بحقوق المرأة.

فإذا كان مفهوم الكدّ والسعاية قد مثّل اجتهادًا فقهيًّا ينطلق من استنطاق بعض المعطيات التاريخيّة - الواقعيّة لإحداث تغييرٍ في واقع المجتمع عمومًا والمرأة خصوصًا، ألا يُمكن بدوره أن يكون مدخلًا من أجل تكريس مبدأ المساواة في الميراث بين الجنسَين؟ 

 

 

  • 1. كمال بلحركة، "إحالة مدوّنة الأسرة المغربيّة على الفقه المالكي في مسائل ما جرى به العمل"، مؤتمر "فقه النوازل عند المالكية تأصيلًا وتطبيقًا"، المغرب.
  • 2. عيسى بن علي الحسني العلمي، "النوازل"، ج2، وزارة الأوقاف والشّؤون الإسلاميّة، المملكة المغربيّة، 1986، ص 101-102.
  • 3. كمال بلحركة، "إحالة مدوّنة الأسرة المغربيّة على الفقه المالكي في مسائل ما جرى به العمل"، مؤتمر "فقه النوازل عند المالكية تأصيلًا وتطبيقًا"، المغرب
  • 4. سعيدة شيبوط، "دراسة تفصيليّة للمادّة 49 في مدوّنة الأسرة المغربيّة"، مجلّة العلوم القانونيّة والسياسيّة، المجلّد 10، عدد 3، ص 390-405، 2014.