التمييز ضد النساء: من الوأد إلى تقنيات تحديد جنس الجنين

نشأتُ في بلدةٍ ريفيّة تُقدّس الذكور. أن يولد المرء بعضوٍ تناسلي ذكري هو مدعاة فخرٍ وسعادةٍ لأسرته، حتّى لو لم يُنجِز شيئًا في حياته، يكفي أن يكون ذكرًا؛ فذاك هو الإنجاز في ذاته. أحيانًا، يدّعي الأهل في الأيّام الأولى على ولادة الذكر بأنّهما رُزقا بأنثى لشدّة خوفهما من الحسد، فيُلبِسانه ملابس البنات، ويشعلان البخور في المنزل طردًا للعين، ويُحضران شيخًا لتلاوة القرآن. 

في المقابل، يُعتبر إنجاب الإناث عبئًا على الأهل بالنظر إلى "مشاكلهنّ كثيرة"، فالبنت شرف أبيها، وقد تجلب له العار لو طال كلامٌ سيءٌ سمعتها، أو تعرّفَت إلى شابٍ ما أغواها، في حين أنّ الولد يخلق مع مناعةٍ استثنائيّةٍ تقيه الكلام وتحفظ سمعته. ويُعرّض هذا بعض الأسر للاستغلال، إذ تصل الأمور إلى تقاضي أطباء النساء والتوليد أجورًا أعلى في حالات إنجاب ذكر، فضلًا عن تكبّد الأسر نفقاتٍ طائلةٍ قد تتجاوز قدراتها المادية في سبيل إنجاب الذكور.

كيف تنجبين ذكرًا؟

سابقًا، كانت النصائح الشعبيّة لإنجاب ذكر مُنتشرة بكثافة، وتُخصّص تحديدًا لمَن "تعاني" من "داء" إنجاب الإناث، إذ تبدأ بطرق التغذية والمأكولات التي يُقال إنّها تزيد من كمّية سوائل المهبل، وصولًا إلى وضعيّات العلاقة الجنسيّة وأيام ممارستها. وعلى الرغم من استمرار انتشار هذه المُعتقدات، أُضيفَت إليها مؤخّرًا قنوات على موقع "يوتيوب" يديرها أطباء يمدّون النساء بالطرق "المضمونة" لإنجاب ذكر، وإن كانوا يُلحقونها بعبارة "لكن في النهاية الأمر بيد الله"، في تعارضٍ تامّ مع كلّ المنهجيّات العلميّة التي تصنّف تلك الطرق "خرافات"، لاسيما أنّ نسبة إنجاب الذكور تساوي نسبة إنجاب الإناث في مصر.

يُعتبر إنجاب الإناث عبئًا على الأهل بالنظر إلى "مشاكلهنّ كثيرة"، فالبنت شرف أبيها، وقد تجلب له العار لو طال كلامٌ سيءٌ سمعتها، أو تعرّفَت إلى شابٍ ما أغواها

لم تقف الأمور عند هذا الحد، ففي السنوات الأخيرة أصبح بعض أهالي قريتي ممّن يسعون إلى إنجاب الذكور يتبعون طرقًا علميّةً لاختيار جنس الجنين، من ضمنها التلقيح المجهري على الرغم من عدم وجود عوائق طبيّة للحمل الطبيعي. لا أعرف كيف توصّلوا إلى هذه الفكرة، لكنّها أصبحَت شائعةً في مصر في العقد الأخير. لعل أحد الأطباء روّجها وتلقّفَتها الأسر مدفوعةً برغبةٍ في إنجاب الذكور على الرغم من كلفتها العالية وإمكانيّاتهم الماديّة المتواضعة. لكن إنجاب الذكر يستحقّ بذل الغالي والنفيس، حتّى لو اضطرهم الأمر إلى بيع كلّ ما يملكون.

تمييزٌ قبل الحمل والولادة!

يذكّرني هذا الأمر بالنسويّة الأميركية، فاليري سولاناس (Valerie Solanas)، صاحبة كتاب "SCUM Manifesto" أو "مانيفستو الحثالة"، وقد وصِفت بالتطرّف بسبب دعوتها إلى إيجاد طرقٍ علميّةٍ لاختيار جنس المولود بهدف عدم إنجاب ذكور، إذ برأيها هم مَن دمّروا العالم. لكن ما حدث، يا عزيزتي سولاناس، هو العكس تمامًا. يستخدم الناس الطرق العلميّة لتحديد جنس المولود وإنجاب ذكر، من دون أن يوصَفوا حتّى بالتطرّف أو بممارسة التمييز ضدّ النساء.

في مطلع القرن الواحد والعشرين، برزَت عمليّة طبيّة لتحديد جنس الجنين من خلال التلقيح الصناعي، وهي تنطوي على مخاطر عدّة مثل احتمال حصول نزيف، أو التقاط عدوى ما، أو الإصابة بمتلازمة فرط تحفيز المبيض، عدا عن أنّها تثير إشكاليّاتٍ أخلاقيّةً بدءًا من استخدامها للتمييز ضدّ الإناث، وصولًا إلى إحداث خللٍ في التوازن الديموغرافي المجتمعي، عدا عن مصير الأجنّة المُتبقية بعد عمليّة التلقيح الصناعي.

لا توجد دولة تتيح صراحةً اختيار جنس الجنين، هناك خمس دول تحظره لأي سبب، وتحظره 31 دولة لأسباب اجتماعية أو غير طبية

ووفقاً لدورية "AMA Journal of Ethics"، فلا توجد دولة تتيح صراحةً اختيار جنس الجنين، هناك خمس دول تحظره لأي سبب، وتحظره 31 دولة لأسباب اجتماعية أو غير طبية. أما لجنة الأخلاقيات للجمعية الأمريكية للطب التناسلي فتوصي بالتشخيص الوراثي قبل الزرع لاختيار جنس الجنين لمنع انتقال الأمراض الوراثية المرتبطة بالجنس.

ووفقًا لدراسةٍ نُشرت في دوريّة Reproductive Biomedecine، يعتبر الأطباء عملية اختيار جنس الجنين لأسبابٍ غير طبيّةٍ أمرًا غير أخلاقي لأنّه يُعدُّ تمييزًا ضدّ النساء، وقد يقود إلى التخلّص من الجنين بسببه جنسه/ا فقط. وبالفعل، أدّت هذه العمليّة إلى إحداث خللٍ في التوازن الطبيعي بين الجنسَين في الدول الآسيويّة، إذ اتبعَتها بعض المجتمعات في جنوب شرق آسيا متيحةً الإجهاض الانتقائي للفتيات. وقُدّرَت وفاة 100 فتاة جرّاء هذه العمليّات التي أُطلِقت عليها تسمية "gendercide"، أي المذبحة الجندريّة. كذلك بينَت الدراسة أنّ تفضيل الذكور سجِّل أيضًا في مناطق واسعةٍ في الولايات المتّحدة الأميركية بين مجموعاتٍ عرقيّةٍ من أصولٍ صينية، وهندية، وشرق أوسطية.

…وفي مصر أيضًا

في السياق نفسه، تنتشر على الإنترنت إعلاناتٌ لعياداتٍ مصريّةٍ تعلن عن إمكانيّة اختيار جنس الجنين بنسبة 99% بعد عملية التلقيح الصناعي. وتتم تلك العملية عبر إعطاء الزوجة مُنشِّطاتٍ لتحفيز المبيض على إطلاق البويضات، ثمّ تخصيبها بواسطة حيوانٍ منوي في ما يُعرف بالحقن المجهري.

اليوم، ها هي الأفكارُ الأبوية الرجعيّة تطوِّعُ العلمَ وطرقه الحديثة والمتطوّرة لوأد الإناث قبل أن يولَدن

تقول الدكتورة ياسمين أبو العزم، طبيبة في الأمراض النسائيّة مُهتمّة في الشؤون النسويّة وصاحبة مبادرة "neswa diaries"، إنّ اختيار جنس الجنين  يتمّ عبر تخصيب البويضات بالحيوانات المنوية، ومن ثمّ فحصها جينيًا لتمييز أجنّة الذكور عن أجنّة الإناث، وأخيرًا زرع الأجنّة من الجنس المرغوب داخل الرحم. تختلف تكلفة هذه العمليّة من طبيب/ة إلى آخر، ومن مختبرٍ إلى آخر، لكنها تفوق تكلفةً عمليّة الحقن المجهري من دون اختيار جنس الجنين. تعارض أبو العزم عملية اختيار جنس المولود مُسبقًا، وتراه خطيرًا من الناحية الطبيّة، خصوصًا بالنسبة للسيّدات القادرات على الحمل التلقائي، فضلًا عن عدم وجود رقيبٍ أو منظّمٍ لهذه العمليّات في مصر.

حظرَت دولٌ كثيرةٌ عمليّات تحديد جنس الجنين لأسبابٍ غير طبيّة، لكنّها ما زالت تجري في مصر بالرغم من توقيعها اتفاقيّة سيداو للقضاء على جميع أشكال التمييز ضدّ النساء، ومن ضمنها وأد الإناث واختيار جنس الجنين قبل الولادة.

يبدأ العنف ضدّ النساء بالعبوس الذي يرافق معرفة بعض الأهل أنّ الجنين أنثى، ولا ينتهي بقتلهنّ في الشوارع، مثل نيرة أشرف، الشابة التي قتلَها رجلٌ أمام جامعتها على مرأًى من المارة في بلدةٍ تبعد عني ساعةً ونصف الساعة. قبل قرونٍ كان وأد الإناث، أي دفنهنّ حيّات، منتشرًا في بلدانٍ عدّة، كما كنّ يتعرّضن للخنق في سنٍّ مُبكرة، أو يُتركن للموت جوعًا. واليوم، ها هي الأفكارُ الأبوية الرجعيّة تطوِّعُ العلمَ وطرقه الحديثة والمتطوّرة لوأد الإناث قبل أن يولَدن.