الــ "كيم جنس": بين المتعة والإدمان والتابو

مضَى بضع سنواتٍ على المرّة الأولى التي مارستُ فيها الجنس تحت تأثير المخدَّرات. أذكر أنني سمعتُ موجزًا عن ماهية المواد التي كنتُ على وشك تناولها، وآثارها المتوقّعة، من دون ضغطٍ من الطرف الآخر عليّ كي أجربّها. في الواقع، كنتُ متحمِّسًا لاختبار أيّ جديد، كعادتي في خوض المجهول. وكانت تلك بداية مرحلةٍ من التجارب السّيئة والدروس الثمينة أيضًا.

يُعدُّ الجنس تحت تأثير المخدَّرات أي الـ "كيم جنس" أو الـ "كيم سِكس" (chem - from chemical - sex) من الممارسات الجنسية الشائعة، سواء بين الأفراد الكوير، أو بين الغيريّين/ات جنسيًا، بحسب استطلاعاتٍ أُجريَت في بلدانٍ مختلفةٍ من العالم.

يتنوّع تناول المخدَّرات في خلال ممارسة الجنس بدءًا من الماريجوانا، وصولًا إلى قطرات الجي (GHB, GBL) وحِقن الكريستال ميث (Crystal Meth). والحقيقة أنّني لم أنتبه في تجاربي الأولى لأسماء وتأثيرات أيّ من هذه المواد، لاسيّما الكيميائية منها. كانت عواقب تلك الغفلة سيّئةً جدًّا على صحّتي النفسية والجسدية. لكن بمرور الوقت، تعرّفتُ أكثر إلى هذه المواد والبيئات الاجتماعية المتشكِّلة حول تجارب الـ "كيم سِكس"، وحتى سوق المخدَّرات العالمي والقوانين المحلّية المناهِضة له.

تتعدَّد أسباب استخدام المخدَّرات في خلال ممارسة الجنس. فاستخدام الفياغرا، على سبيل المثال، تتفاوت أهدافه بين معالجة مشكلات الانتصاب وتمديد فترته في خلال حفلات الجنس، الأمر الذي يعود بنتائج سلبيةٍ على المدى الطويل. أيضًا، يتناول البعضُ الفطر (Mushrooms) من أجل اختبار هلوساتٍ وحالاتٍ يصفونها بالروحانية في خلال الفعل الجنسي.

في البداية، أذابَت هذه الموادُّ المحظوراتِ الجنسيّة والتابوهات المُعتادة، وأجبرَتني على تفسير مشاعر قويّةٍ انتابَتني في خلال تلك التجارب

بدأَت تجربتي الشخصية بالفضول، ثمّ أوصلَتني إلى اكتشاف خفايا نفسي وجوانب هذا العالم المخفي. في البداية، أذابَت هذه الموادُّ المحظوراتِ الجنسيّة والتابوهات المُعتادة، وأجبرَتني على تفسير مشاعر قويّةٍ انتابَتني في خلال تلك التجارب، مثل التعلّق الشديد بالشخص الآخر، وحالات الغيرة أو الغرور في خلال الممارسة الجنسية. وهي مشاعر ليسَت مألوفةً لديّ في العادة، وإنّما ظهرَت بفعل تناولي تلك المواد. ولاحظتُ في خلال تلك التجارب أنّ المخدّرات المُحفِّزة على الجنس لم تؤثِّر في مشاعري فقط، وإنّما غيَّرت لديّ مفهومَ الجنس نفسه، وجعلَته أداءً ميكانيكيًا غرضه إشباع حاجةٍ نرجسيةٍ تمنحُني رضًى مؤقَّتًا. يقول بعض مُستخدِمي/ات المواد المُخدِّرة إنّها تمنحهم/ن مشاعر القرب من الآخرين. وفي تجربتي، جعلَني هذا القرب قادرًا على الإفصاح عن أمورٍ حميمةٍ يصعب قولها في حالة الصحوة. ويعود ذلك، فيزيولوجيًا على الأقل، إلى تدفّق هرمونَيْ السيروتونين والدوبامين اللّذَين يبثّان إحساسًا بالطمأنينة ضمن هذه البيئات المُغلقة.1

يُعبّر صديقي عن واقع هذه البيئات بقوله لي: "نحن نكرّر ما فعله أسلاف البشر الذين كانوا يتعاطون موادّ مُخدِّرة، ويرقصون حول النار، ويمارسون الجنس، ثم يعلنون بلوغ الحكمة الكونيّة". صحيحٌ أن مزج المُخدَّرات بالجنس هو نشاطٌ بشريٌّ قديمٌ شاع منذ آلاف السنين عند الإغريق والرومان، كما في مصر والصين،2 بيد أنّ القدماء لم يستعملوا المخدّرات الكيميائية المُستخدمة اليوم والتي تتغير تركيبتها باستمرارٍ من دون رقابة، بحيث لا يمكن تحديد آثارها ومضاعفاتها، بعكس المخدّرات الطبيعية، وهذا ما يجعلها أكثر خطورة.

الحقيقة أنّ الإدمان هو محاولتنا إيجاد علاجٍ دائمٍ بواسطة دواءٍ مؤقّت

في البداية، منحَتني هذه البيئات ملجأً يحوي متعةً ورفقةً بين فئاتٍ من الشبّان والشابّات الكوير على درجةٍ عاليةٍ من الوعي، ومن طبقةٍ اقتصاديةٍ متوسّطةٍ أو أعلى في برلين. نجتمع في نادٍ ليليٍّ أو في بيتِ أحدهم الأنيق، في جوٍّ حميمٍ تتخلّله موسيقى ومزاحٌ ومواضيع شيِّقة، كما لا يخلو الحال من حوادث العنف والقلق المُفرط نتيجة عدم النوم وتناول المواد المخدّرة لساعاتٍ طويلة، تتبعها عادةً أعراضُ انسحابٍ في الأيّام اللاحقة نتيجة التوقف عن تناول هذه المواد. لم أدرك أنّ ما نختبره في هذه التجمّعات هما الحميميّة والإحساس بالأمان ذاتهما اللّذَين ينشدهما البشر في كلّ مكانٍ تقريبًا إنّما بوسائل مختلفة، منها الـ "كيم سِكس" في حالتنا. فتجمّعنا هذا لا يختلف عن المُدمنين/ات الذين يُطلق عليهم/ن وصف "المشرَّدين والمشرَّدات" في محطّات المترو في برلين، سوى أنّنا نتمتع بالإمكانات المادّية ونحافظ على المظاهر "اللائقة". وعلى الرغم من هذه الصداقات والفوائد الكثيرة التي نتجَت عن تجاربي ضمن هذه البيئات، إلّا أنّ حصر محيطي الاجتماعي بأشخاصٍ ومناسباتٍ معيّنةٍ فوّت عليَّ فرصة استكشاف الأبعاد الأخرى للمدينة ورؤية الجوانب السّلبية لتلك الدوائر المحدودة.

وحين تتكرّر هذه التجارب لدى البعض وتصبح طقسًا دوريًا في نهاية كلّ أسبوع - بل كلّ بضعة أيام - يتحوَّل الأمر حسبما رأيتُ إلى إدمان. ملاحظة هذه الأمور والبحث عن أصلها الاجتماعي والتاريخي وربطها بحال أصدقائي الذين يعانون الإدمان، قادَني إلى تجريد مفهوم الإدمان نفسه من السّلبية التي تحيط به، والاطلاع على بحوث خبراء نفسيّين، مثل الدكتور غابور ماته (Gabor Maté)، الذي يرفض النظرة السّلبية المُعيبة للإدمان ويعتبره وسيلةً طبيعيةً للتأقلم استجابةً لوضعٍ اجتماعي ضاغط، أو تنفيسًا لتوتّرٍ ما، أو ملجأً حاضنًا يقي من الضغوطات والتهميش السياسيّ أو الاقتصادي. لهذا، يجب علاج الإدمان بدايةً بمعالجة مسبِّباته النفسية والمادّية.3 والحقيقة أنّ الإدمان هو محاولتنا إيجاد علاجٍ دائمٍ بواسطة دواءٍ مؤقّت.

يُعتبر تعاطي المخدّرات تابو مخيفًا، دعك من الإدمان الذي يُشيطَن اجتماعيًا ويُعاقَب صاحبه بمعزلٍ عن مسبِّباته الاجتماعية أو السياسية

في ليبيا التي نشأتُ فيها، كما في تونس، والجزائر، ومصر وهي بلدان أنتمي لثقافاتها إلى حدٍّ كبير، يُعتبر تعاطي المخدّرات تابو مخيفًا، دعك من الإدمان الذي يُشيطَن اجتماعيًا ويُعاقَب صاحبه بمعزلٍ عن مسبِّباته الاجتماعية أو السياسية. أما أنا وأصدقائي الآتين من هذه البلدان والقاطنين في برلين وأوروبا عمومًا، فنواجه تحدّياتِ خوض تجربة الـ "كيم سِكس" بشيءٍ من الوعي، بالإضافة إلى مقاومة التابو الذي يستهجن المخدّرات حتى في شكلها الطبّي العلاجي، مثل استعمال مخدّر الإكستاسي (MDMA) كعلاجٍ فعّالٍ لاضطراب ما بعد الصدمة.4 لكن حتى في برلين التي يُعدّ فيها تناول المخدّرات أمرًا شائعًا، ظهر أسلوب الاحتفال الصاحي (sober partying) المُنادي بتجنّب استخدام المخدّرات في النوادي الليلية والحفلات الجنسية، في إطار رحلةٍ للتعافي من الإدمان عبر العلاجات الفردية أو بدعم مجموعاتٍ من المتعافين/ات.

بيد أنّ الحمولة الثقافية السّلبية التي جئتُ بها من منطقة شمال إفريقيا تجاه المخدّرات، معطوفةً على الإغراءات التي تعرضها برلين في كلّ شارعٍ وزنقة، أحالَتني للتساؤل في شأن الدوافع الشخصية لاختبار المخدّرات... هل هي أعراضٌ لمشكلاتٍ مدفونةٍ منذ طفولتي أم هي مضاعفات الغربة؟ في خلال السنوات الماضية، شهدتُ عددًا من التجارب السّلبية لأشخاصٍ كادوا أن يفقدوا حياتهم/ن بفعل جرعةٍ مُفرطةٍ في نادٍ صاخب، ومواقفَ تفاقمَت فيها غيرةُ أحدهم/ن إلى حدّ الغضب الشّديد واشتعال حوادث عنفٍ خارجةٍ عن السيطرة، عدا عن العدد الهائل من القصص التي سمعتُها أو جرَت أمامي عن أشخاصٍ فقدوا عائلاتهم/ن وأعمالهم/ن نتيجة إدمانهم/ن نمط حياة المخدّرات والجنس، كما مررتُ أنا نفسي في حالاتٍ من فقدان التوازن أو المغالاة في مدة الاحتفال. كانت هذه المواقف جميعها إشاراتٍ حقيقيةً كفيلةً بتنبيهي إلى ضرورة مراجعة علاقتي بهذه الموادّ وما يتّصل بها. لهذا، تروّيتُ للتفكير جدّيًا في الأمر وإعادة تقييم وضعي الشخصيّ، محاولًا تجنّب الحكم المُسبق ولوم الذات. ثمّ باشرتُ بالاطّلاع أكثر على مختلف جوانب المسألة عبر المشاركة في النقاشات القائمة بين أوساط الناشطين/ات والمهتمّين والباحثات عن طبيعة ممارسة الجنس نفسها وتأثير المخدّرات فيها، وطُرق دعم المتعافين/ات من الإدمان، وفتح مجالٍ لاختبار الـ "كيم سِكس" بأمانٍ صحّي أكبر،5 والاستفادة من جميع هذه التجارب باعتبارها رصيدًا للنموّ الشخصي.

 

  • 1. Raffaele Giorgetti, Adriano Tagliabracci, Fabrizio Schifano, Simona Zaami, Enrico Marinelli, and Francesco Paolo Busardòc, "When “Chems” Meet Sex: A Rising Phenomenon Called “ChemSex”, Curr Neuropharmacol, 2017, 15(5), 762-770. doi: 10.2174/1570159X15666161117151148.
  • 2. Social Problems, Continuity and Change, Saylor Foundation, 2016, p. 267.
  • 3. Gabor Maté, In the Realm of Hungry Ghosts: Close Encounters with Addiction, ‎Vermilion, 1st edition, 2018, p. 151.
  • 4. Kimberly W Smith, Dakota J Sicignano, Adrian V Hernandez, and C Michael White, "MDMA-Assisted Psychotherapy for Treatment of Posttraumatic Stress Disorder: A Systematic Review With Meta-Analysis", J Clin Pharmacol. April 2022, 62(4), 463-471. doi: 10.1002/jcph.1995.
  • 5. لمعلومات عن كيفية تخفيض مخاطر الـ "الكيم سِكس"، يمكن الاطلاع  على ثلاثة بوستات تتناول الخطوات التي يمكن اتباعها قبل الجلسة، وفي خلال الجلسة وبعد الجلسة على صفحة تفكيك على إنستغرام.