قصّة حَبَل أبله: دوجه التي صنعت من أحشائها دمية حيّة

17/06/2019
2367 words

وحين كبرت قليلا وبات واضحًا أنّها ولدت بجسد غير سويّ، ومصابة بعَتَهٍ طفيف، كما لم توهب بعضًا من الجمال المتوحّش الذي تحوزه شقيقاتها، أهملها الجميع. نشأت في السهو والإهمال كما لو أنّها شجرة عرعار يابسة لا أحد اقتدر على اقتلاعها.

كان يمكن أن تكون دوجه شجرة عرعار نبتت بشكل متوحّش ودون تدبير من أب أو إله في تلك البراري القاسية، ولكنّها ولدت بنتًا، لا أحد انتبه لها لأنّ البنات في العائلة الكبيرة كثيرات. وحين كبرت قليلا وبات واضحًا أنّها ولدت بجسد غير سويّ، ومصابة بعَتَهٍ طفيف، كما لم توهب بعضًا من الجمال المتوحّش الذي تحوزه شقيقاتها، أهملها الجميع. نشأت في السهو والإهمال كما لو أنّها شجرة عرعار يابسة لا أحد اقتدر على اقتلاعها.

تطرُق دوجه الباب بعصاها. عصاها أطول قامة منها وعيونها دائمة الزيغان. وحين تفتح لها النساء في البساتين الأبواب، تظلّ واقفة برقبتها المائلة وشعرها الأشعث الذي يُشبه مكنسة ساحرة، مثلما وصفه سمير شقيقها الأصغر ابن الزوجة الثالثة لأبيها. تتحسّس صدرها بحثًا عن أشياء ثمينة تخفيها عادة هناك قد تكون سقطت منها: قلادة رخيصة، قطع حلوى، مشط أو قطعة كاغط عليها اسمها وصورتها بشعر مفروق متموّج دهنته أمّها بالزيت قبل أن تأخذها إلى دكّان المصور. كاد المصور العجوز أن يفقد أعصابه وهو يدعوها للنظر باتجاه عدسة الكاميرا دون أن تحرّك رموشها. بعد جهد جهيد نجح في التقاط صورة لها وهي تنظر بعيون فارغة إلى أمّها التي كانت تقف خلفه. تدبّر لها خالها الحاجب بالمعتمدية1 "بطاقة إعاقة" كانت تخوّل لها الركوب في حافلات الدولة والاستشفاء مجانًا. بطاقة من الكاغط الخشن، أثمن منها، كانت تلوّح بها مبروكة الأم الطليقة أمام القاضي في عراكها من أجل النفقة. وأحيانا تستعملها أخواتها ذوات الجمال المتوحش الساذج كي يبتن مجانًا في المستشفيات. وحين يحاججهنّ المُمرض بأنّ البطاقة تخصّ دوجه، كنّ يُخرجن له ألسنتهنّ أو أثداءهنّ مردّدات كلمات غليظة تزجر المُمرض مهما كانت قسوته أو عفافه. على الأقلّ يجب أن ينفع وجود دوجه في شيء، عدا العَتَه الذي يلج أحيانًا إلى وعيها كسحابة صيف عابرة، وعدا التيه في البساتين، والدقّ على الأبواب كي تخبر الجارات ذوات الوشم البربريّ بأخبار جليلة:

الدجاجة الحمراء الشارفُ، دجاجة عائشة تبيض في الحرْش الواقع أمام شجرة الفستق الوحيدة التي يبول عندها دائمًا كلب شذليه. بلغ عدد البيضات ستّ "حيار"2. ذرّية الشيطان، هذه، تثقب بعينيها الصغيرتين سياج الهندي وترى ما لا نرى. هنالك ثعبان ذو لحية ابتلع حجلة برّية يرقد مطمئنّا تحت شجرة العرعار الواقعة على الجرف المُطلّ على سانية البارون. يا ابنة الشيطان الحجل البريّ يطير بيُسر وليس بمقدور ثعبان كسول أن يقتنصه. ما أدراني، الثعبان تحت العرعارة، اذهبوا وانظروا هناك. الضفادع تقفز في البئر، دون داع. أيّ بئر يا دوجه. البئر الشرقية، تقول. أيتها المخبولة ثمّة ضفادع تولد من تلقاء نفسها وتكبر في مياه البئر أمّا ضفادع البرّ فلا شيء يدعوها كي تذهب إلى البئر. رأيتها تقفز في البئر عندما أفقت من قيلولتي تحت أشجار الرمّان. كنت قريبة جدًا من فوهة البئر. لا تلقي بنفسك في البئر، سيشنقك الله من أشفار عينيك. لماذا يفعل الله ذلك بمعاقة مثلي. الله لا يسكن في السماء. الله مثل بورقيبة يسبح في البحر مُحاطًا بالملائكة. صرتِ كافرة حقيرة من إدمان النظر إلى التلفاز الذي عوض أن يبثّ المسلسلات جعل حياتنا علقمًا بصور وتوجيهات الرئيس العجوز. بورقيبة طلّق زوجته وسيلة سليلة الأعيان وصارت تلازمه ابنة أخته المتآمرة. المجاهد الأكبر، لم يعد فالحًا إلاّ في السباحة في بحر طفولته. حصان عمّي حسن يهرشه القراد، ذيله منتصب مثل عرف الديك. يا لدوجه أليس لك شؤون أخرى تهتمّين بها.

يُولد الأطفال ويكبرون ويذهبون إلى المدرسة، إلاّ دوجه. تملك جمجمة "فكرون" وعلومه كما يقول عنها أبوها، المولدي بائع المواشي الغاضب دائمًا لأنّ نساءه يكبرن بسرعة وتتدلّى أثداءهنّ، أمّا هو فينتمي إلى سلالةٍ شبابُها أبديّ بشعر أسود كثيف ناعم ولامع مثل شعر الماعز الجبليّ. طلّق أبوها أمّها. اختبأ وزوجته الجديدة في بساتين أهلها، لأنّ أخوالها الساخطون أخفوا بنادقهم تحت ثيابهم وتربّصوا بهما في الحوش. لا تفهم دوجه لما هم غاضبون ولما شحُب وجه أمّها وغارت عينيها الطيبتين حتّى أنّها لم تعد تراها. غادر الأخوال الحانقون إلى البادية البعيدة حين وافق الأب على دفع نفقة شهرية والتخلّي على جزء من قطيع الأغنام الذي ترعاه طليقته وبناتها. عاد الأب مع محرزيه الجميلة ذات الجسد المليء إلى السكنى في الفيلا الجديدة التي بناها على رُسله. وظلّت دوجه مع أمّها وأخواتها الثلاث المدمنات على حلّ ضفائرهنّ ثمّ عقدها من جديد، في نفس الحوش. لم يحدث شيء. أصبحت محرزيه صديقة لأمّها وتبيت عندهم حين يشبعها أبوها ضربًا مبرحًا. أصبح لها أشقاء آخرون، يكبرون ويذهبون إلى المدرسة، أمّا هي فلا تذهب إلى القرية إلاّ لماما لأنّ الأطفال كانوا يحدفونها بالحجارة، بلا أسف. ثمّ طلّق المولدي محرزيه وتزوّج بامرأة ثالثة تعمل في مقرّ المعتمدية مع الخال الودود. رقصت أخواتها البنات في عرس الأب، ربّ العائلة الغاضب دائما وذكَرها المتفاخر بامتلاكه لخصيتي كبش كما تعيّره الأمّ أحيانًا، أمّا أخوها غير الشقيق عماد الذي كبر قليلا وصار يجوب الأسواق مع أبيه فقد كان يحمل كانونًا يعجّ بالبخور ويدور به وبأدخنته حول العروسين السعيدين درءًا للعين. ذهبت أختها الكبرى الزُهرة كي تشتغل خادمة في سوسة رغم أنّ أباها إقطاعيّ كبير وله قطيع هائل من المواشي. أمّا دوجه فلا تغادر البساتين للقرية إلاّ يوم السوق الأسبوعية، كي لا يقرصها الغرباء بضراوة وشراهة من أثدائها الصلبة. هي أيضا أنثى، يقطر الدم من تحتها فتحشو تبّانها بقطع من بُرنس صوفيّ قديم. الدّم حار والصّوف خشن يمصّ الدفق الطارئ فلا يتحدّر على فخذيها. تعلّمت ذلك لوحدها.

وهبتها الزُهرة التي صارت ودودة مثل الأجانب الذين تشتغل عندهم، تبّانًا من الدنتيلا وعلّمتها، بنزق ضاحك، كيف تستعمل الحفّاظات. أحسّت بالنعومة التي صارت تحوط عجيزتها وكلّما وضع الحفاظات كانت تحلم بالطيران ليلا. تخرج من جسدها المائل والمحدودب، وتصغر جمجمتها التي تليق بسلحفاة. ينبت من شفتيها المزمومتين منقار جميل ينفتح باحثا عن منقارٍ ذكرٍ. تتحوّل دوجه التي لا تثبت قامتها في الريح إلى حمامة بقلب ينبض بقوّة، حتّى أنّها تكاد تنفجر في هيأتها الجديدة فتستيقظ من نومها، لتعود كما كانت: دوجة بائسة لا ذَكَرَ يهتمّ بها، لا أنفاس تلفح وجهها. الذكر حيوان بعيد وغريب لا تطمع أن تعرفه. الذكور فقط هم أبطال المسلسلات المصرية الذين يملؤون شاشة التلفاز. الذكور كائنات تسكن في بيت من زجاج هشّ. أمّا الرجال في البساتين فأشباحٌ أليفةٌ.

تزوّجت الزُهرة في سوسة من شرطي إنجليزي متقاعد مُقيم بين تونس وإنجلترا. ذهبت معه إلى بلدٍ لا يبرحها الضباب ومن هناك كانت ترسل المال إلى أمّها وأبيها الذي أصبح أكثر ثراء واشترى مزيدًا من المواشي التي كانت ترعاها دوجه مع شقيقتيها. حدث ذلك ثمّ حدث أمرٌ جلل آخر. لقد مات المريض الإنجليزي وبقي كلبه العظيم. وأصبح للأخت الكبيرة التي كانت تحرص على زيارتهم في البساتين معاشين: معاش زوجها ومعاش كلبه المتقاعد هو أيضًا من الخدمة. تلوّح الأخت الشرسة ببطاقة تعريف الكلب متفاخرة. الكلب استحق راتبه. الله يحبني لأنّني جميلة وطيبة. أنا ثريّة ولا أحتاج تيْسًا يُلبْلِبُ بلسانه على عانتي. لن أحلّ فخذي كي يلجهما عربيّ نتن، أبدًا. تراجعت بطاقة الإعاقة التي كان الجميع يلوّح بها، أمام البطاقات الإنجليزية الأكثر وجاهةً.

في الأثناء كبرت دُوجه وصارت امرأة. لم تتخلّ عن عصاها الطويلة التي تصنعها لها أمّها من أغصان الزيتون. صارت ترتدي حمّالات صدر وفساتين داخلية باهظة الثمن، فضلات أختها الإنجليزية التي لا تمرض ولا تحزن أبدًا. لم يعد الأطفال يحدفونها بالحجارة. كبرت القرية وصارت مدينة صغيرة بأطفال أكثر تهذيبًا. لم تغادر البلاهة وجهها. صارت تخبئ شعرها الأشعث في فولارة3 لتُخفي رأسها. وترتخي أمام الأيادي النزقة التي تداعب بتوتّر وبطيش أثداءها الكبيرة. لا تعرف دوجه شيئًا عن الحبّ، عكس شقيقتيها العانستين المدمنتان على المسلسلات المصرية والمكسيكية المدبلجة.

 

***

انتبهت عارم وليلى إلى وجود قيءٍ متخثّر على بطانية دوجه. أنكرت أنّها من فعلت ذلك. قالت لهنّ أنّ الأمر يتعلّق بفضلات الفئران المتوحشّة التي هي بحجم قطّ صغير. وأنّها نظيفة مثل أختها الإنجليزية ولا تبول في فراشها في ليالي الشتاء. المرحاض يقع في طرف الحوش، إلاّ أنها تكابد الذهاب إليه أو تمسك بحاجتها في حوضها حتّى الصباح. صدّقت الأختان رواية دوجه، فالفئران كانت تقرض الأغطية وأكياس المؤونة. ولكنّ أمّها أحست بأنّ أمرًا ما سيقع. لم تعد دوجه تأكل كما في السابق. أصبحت قنوعة ولم تعد تسرح في البراري وتدقّ على الأبواب. صارت صامتة ومخطوفة البصر. تحدّق فيها دون أن تتكلّم. سألتها مرّة: "ما بك يا رأس الفكرون؟". أجابتها دوجه ببساطة: "أصبحت نظيفة مثل الإنجليز ولم يعد الدم يتحدّر على فخذيّ". فجعت الأمّ وهي تفحص بطنها المنتفخ وعرفت أنّ أحدهم قد زنى ببنتها. غضبت عارم وليلى غضبًا شديدًا. لن يقربهنّ عريس بسبب هذا الحبل الأبله الذي لا يقع حتّى في المسلسلات. خرجت مبروكه دون أن تنتعل حذاءها ودخلت بقوة على المولدي في الفيلا الثانية التي ابتناها للسكن مع زوجته الثالثة. خرج إليها مزمجرًا. سحبته بعيدا تحت شجرة اللوز التي بدأت براعمها تزهر مؤذنة بقدوم الربيع. يا طحّان يا زاني لقد زنوا بابنتك المعاقة، يا ليعتك يا شومك يا مبروكه. في البدء لم يستوعب الأب الأمر. وسط الهول العظيم وإيقاع الكلمات الناحبة التي كانت تصدر من طليقته الأولى، ذهب في ظنّه أنّ إحدى بنتيه الساقطتين عارم أو ليلى هي من لطّخ شرفه. دخل إلى البيت وخرج يحمل فأسًا.

قصد غاضبًا الحوش القديم، تعلقّ الكلب العجوز بسرواله فلطمه بالفأس. عوى الكلب وانصرف. دخل الأب مزمجرًا إلى غرفة بنتيه. وسط الولولة والصياح احتاج الأب الهائج إلى بعض الوقت كي يفرز ما يحدث. نساء العائلة جميعًا: زوجته الثانية، شقيقاته، زوجات أخيه، بناته جميعا كنّ مُجتمعات حول دوجه الجالسة فوق السرير الكبير، أعلى منهنّ جميعًا، وهي زائغة بنظراتها تبحث عن عصاها البعيدة كي تحفظ توازنها الهشّ. تحتها وحواليها في نصف حلقة قبيلة من النساء يستنطقنها عمّن فعل فعلته فيها. سقطت الفأس من يد الأب ثمّ خرّ مغشيًا عليه. التفتت النسوة المتميّزات غيظًا حين أشارت باتجاهه دوجه، قائلة بهدوء بالغ: المولدي مات.

لا تعرف دوجه حقّا من هو أب الجنين الذي كان يتكوّر في بطنها. أصاب الإحباط الشرطي وهو يستجوبها. كان يسألها مع من تسرحين من الرعاة؟ تنظر إليه زائغة النظرات وتقول له إنّ الثعالب قد تركت جراءها وسط حقل الفول. يشمّر الشرطيّ عن ساعديه في حركة مهدّدة لا يتقنها سوى البوليس في تلك البراري ويسألها بحذاقة المتضلّع العليم بكلّ ما يحدث: من عرّاك يا ابنة الناس؟ تُمسك دوجه بعصاها الشنيعة وتردّ عليه ساهمة حالمة: رأيت نساءً غريبات يسرقن البرتقال من السواني ويتبوّلن على عرشات المعدنوس. يفرط الشرطي في حذاقته ويسألها: من فتح سرواله عليك أيتها الزانية الصغيرة. تسكت دوجه تمامًا. يدلي الشرطيّ بقميصه على ساعده. ينسحب بهدوء إلى مكتب رئيس المركز الفارغ. يمرّ في الرواق بالأمّ الواجمة وجوم ميّت عريق مع بنتيها اللواتي كنّ يقلّبن عيونهنّ بحدّة في الفراغ ويطمعن بكلّ سذاجة أنّ ما حدث لم يحدث. يغلق الباب ويستغرق في الكرسيّ الوثير مفكّرًا في بلاهة الشرّ وفي صاحب الفعلة الممكن، من بين كلّ الذكور في البساتين والذين يعرفهم جميعًا. يتيه في غابة من الأسماء ومن السيناريوهات.

في نفس الغابة سرح المولدي، مشوّش الخاطر. لم يقدر أن يخمّن من زنى بابنته. ثمّ برأ سريعًا من التفكير. وقرّر أن يستعمل الواقعة حجّة على إهمال طليقته الأولى كي تسقط عنه النفقة. الدولة ترهق الذكور النبلاء النادرين مثله ولا تستطيع العثور على الذكر الخسيس الذي نفخ في بطن طفلته المعاقة. يا للعار.

لا أحد يعرف أيٌّ من الأختين حبكت القصّة التي اتّفقتا على تقديمها للشرطة. تفتّق خيالهما المليء بالأشواق الخائبة والمكر الساذج عن فلم عجيب. ماذا لو أنّ عريسًا إنجليزيًا ثريًّا، أبيض البشرة ورقيقًا هو الصهر الممكن والأب الوسيم للطفل القادم. حدث ذلك مع الزُهرة ولكنّ عوض أن يهبها طفلا ترك لها كلبًا. ومن الممكن أن يعاود الحدوث معهما. ولكن ما العمل مع حظّهما المنكوس؟ ثمّة أخطاء كثيرة حدثت وعليهما تصحيحها. إحداهما ستحلّ، فى خيالهما الذي انفلت من فرط الحنق، بدل أختهما المخبولة. انتحلتا من قبل اسم دوجه وهما تبيتان في المستشفى أو تركبان الحافلة إلى القيروان. إحداهما كان يجدر بها أن تعيش غواية الذكر عوضًا عن دوجه. وطالما أنّه لا يوجد إنجليز في البساتين التي لا تحتوي سوى على أشباح رجال، يجب انتخاب رجل من القرية كي تُحلَّ المعضلة.

قالت عارم وليلى إنّ من زنى بأختهما هو خالد، الشاب الوسيم الذي يملك حانوت عطرية ومحطّة لبيع البنزين في القرية. نعم هو، خالد ذو البشرة البيضاء الرقيقة الذي كان يبتسم في وجوههنّ ويغمز خفية حين يسلّمهما ما تطلبانه من سلع. لقد زنى بأختهما في خلوة الحانوت، عصرًا في يوم جمعة، بعد أن أغلق الحانوت موهمًا بأنّه بصدد الصلاة. كان خالد الذي لا يحفظ من القرآن غير الفاتحة، حلمًا سريًّا وبعيدًا للأختين. خرج اسمه وصار يلحّ بحضوره في خيالهما المتآمر. من حقّهما أن تتدبّرا عريسًا خارقًا كما فعلت أختهما الكبرى مع مريضها الإنجليزي ومن حقّهما أن تحلما بذكر أبيض. وكانتا تأملان بحرقة لو زنى بهما معًا. ولأنّه لم يطرق على بابهما، فهو يستحقّ أن يُسجن وأن تنالا من ماله ما يقيم أود أختهما وطفلها. وعلى هذا النحو فكّكتا الوقائع وأعادتا تركيبها وبدّلتا الأدوار والأسماء واستقام فيلم لا يحبكه إلاّ خيال مُدمِّر.

كانت الأختان تجلسان فوق السرير وتردّدان غاضبات على مسامع أختهما اسم خالد كي ترمي به في وجه الشرطي. "خالد، خالد، خالد"، تردّد دوجه المستلقية على ظهرها، بينما تتواتر في ذهنها المشتّت صور من خبرات غامضة:

حمام يئنّ في أعشاشه في ظلمة البئر. حمار يلطم بطنه بأيره المتوتر تحت شجرة الصنوبر الذي انتخبتها الأمّ له مقيلا. صخب الناس والسيّارات يوم السوق الأسبوعية. أطفال يلعبون بثعبان ميّت وسط البساتين. راعٍ مراهق يُخرج قضيبه ويُمسك بيدها كي تلاعبه. امرأة غريبة قدمت من الأحراش البعيدة تسحب بقرتها بحثًا عن فحل بين ثيران البساتين. المرأة يزين وجهها وشم كثير. فكّت الغريبة عقدة في منديلها وأعطتها قطعة لُبان كي تدلّها على من يملك ثورًا من السلالة الهولندية. ثعابين تلتفّ على ثعابين تحت أشجار العرعار والإكليل. حلازين لزجة تلعق عانتها التي لم تحلق أبدًا. ضحك شقيقتيها وهما تستحمّان عاريتين في جابية البئر.

بالنسبة إلى دوجه لم يحدث شيء. لا تفهم لماذا صار الجميع يضربها.

بالنسبة إلى دوجه لم يحدث شيء. لا تفهم لماذا صار الجميع يضربها. كانت تجرّ عصاها قرب البئر بعد الغروب باتجاه الحوش. قرب شجرة التين الهرمة التصقت بها قامة غريبة. وبسطوة استسلمت لها دون تدبير، طبطبت يدٌ على ظهرها بينما نزعت اليد الأخرى سراويلها بيسر. وولجها الغريب بقوة من الخلف وزرع في جسدها مخاطه الحارّ بينما كان يعلو من الظلمة أنين الريح. لم يدم الأمر طويلا. غادر المغتصبُ الشبحُ، أمّا هي فلم يزعجها سوى زغب أوراق التين التي لامست وجهها. نهضت سريعًا وابتعدت. ما حدث لم يكن جديدًا. أسقطتها قبل ذلك أرضًا رياح أكثر عُتُوَّا وأحجار طائشة كان يقذفها باتجاهها الرعاة الصغار.

لم يكن حبلها أيضًا حدثًا خارقًا. هو لا يعدو إلاّ أن يكون حالا طارئًا، تعيشه ثمّ يذهب من حيث أتى، تماما مثل مرض يصيب النساء دائمًا. خبرتها مع الذكر، أقلّ شأنًا من الخبرة التي تحتاجها للعيش في البساتين. تشعر بقرابة أكبر مع الحيوان والنبات والأشجار ومع الهواء والنار ورائحة التراب. الغراب أخٌ منحوس مثلها والريح أختٌ متآمرةٌ. الحمار يُضرب مثلها. الثعابين رعشات تسري في الأرض. الكلب حلم غامض بالبرْء. وعدتها أختها الكبرى بأنّها ستحملها معها إلى براري الإنجليز كي تُعالج هناك، في المرّة القادمة التي ستأخذ فيها كلبها من أجل اللقاح. سيعطونك بطاقة إعاقة إنجليزية وستصبحين ثرية.

بات خالد في غرفة الحجز يومًا وحيدًا ثمّ خرج بريئًا ضاحكًا. اختفت دوجه التي أثقلها الحمل. قال الناس في البساتين إنّ العائلة وهبت الطفل إلى قرية "أطفال بورقيبة"4.

عادت دوجه إلى البساتين بعد ثلاث سنوات. صارت هرمة تمامًا وتتنقّل في كرسيّ متحرّك. كانت تجربة الولادة بغصراتها وآلامها قد زلزلتها تمامًا.

لم تحتمل المدينة التي كانت بها وهواءها وخلوّها من الثعابين والسلاحف والطيور. استعادت هيئتها القديمة وعصاها. صارت أمًّا مثل خلق ربّي وحين عادت تدقّ على الأبواب من جديد، كانت تهمس بخطورة وبفخر طفلة هرمة صنعت لوحدها من أحشائها دمية حيّة، للنساء اللواتي كنّ يضربن على أكفهنّ من العجب: لي طفل أبيض البشرة يعيش في إنجلترا!

  • 1. المعتمدية هي الإدارة المحلية التي تسهر على شؤون البلْدات حسب التقسيم الترابي بتونس
  • 2. حيار، جمع حارة: أربع بيضات
  • 3. أصل الكلمة فرنسيّ Foulard وتعني الوشاح الذي يُوضع على الرقبة أو الرأس
  • 4. قرية مُخصصة للأيتام والأطفال المهملين تحمل اسم الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة