ديكتاتورية التجميل في الكويت

02/03/2020
1765 words

حين تحط أقدامكن وأقدامكم على أرض مطار الكويت، فإن الترحيب الأول سيأتي من اللوحات الإعلانية الضخمة عن عيادات التجميل، ولن يطول الأمر قبل ملاحظة  أن أغلب من حولكم من النساء الكويتيات قد قمن بإجراء "تجميلي" ما. على أية حال، لنستكمل رحلتنا خارج المطار. ستلاحظون وتلاحظن استمرار سيل اللوحات الإعلانية الضخمة والتي تقترح مختلف الإجراءات من حقن الشفاه إلى حقن المؤخرة لتجميل "القوام"، ومن تجميل الأنف إلى شد الوجه والبطن، كلها معروضة على الملأ بطريقة اختزالية تُشيّئ الجسد عن طريق تفكيك أجزائه دومًا  وحصر جماله المتنوع في صورة ضيقة واحدة لا يمكن الحصول عليها سوى من خلال المشرط الجراحي، فتجعل بذلك جسد المرأة مادة طبية منقوصة تحتاج إلى علاج وتعديلات مستمرة كي يصبح أكثر جمالاً –أو بالأحرى أكثر إثارة جنسية حسب معايير معينة!

أتناول في هذا المقال ظاهرة العمليات التجميلية وشيوعها في الكويت في محاولة لفهم هذه الظاهرة وكيف تتقاطع مع التصورات المجتمعية عن الجمال ومع صورة المرأة في الإعلام وكذلك مع الرأسمالية متمثلة بالصناعة الطبية وعيادات التجميل. 

 

تطبيع العمليات التجميلية

يبدو لي أن الهدف من الإعلانات العديدة التي لا يمكن تجاهلها في مطار الكويت وشوارعها هو تطبيع التدخل الجراحي الاختياري على أنه إجراء اعتيادي بلا أية عواقب، سواءً نفسية أو اجتماعية أو صحية حتى. فلا أحد يود أن يذكر الكم الهائل من المضاعفات والأخطاء الطبية والذي تعرضه الجرائد أحيانًا ونشهده على أشخاص نعرفهم شخصيًا في الكثير من الأحيان، فذلك لن يصبّ في مصلحة الصناعة الطبية. 

فعلى سبيل المثال هنالك العديد من الدراسات التي تؤكد أن حقن البوتوكس يقلل من القدرة على التواصل العاطفي، حيث أن القدرة على الشعور بمختلف المشاعر وقراءة مشاعر الآخرين المرتسمة على وجوههم مرتبطة دماغيًا بالقدرة على التعبير العاطفي بملامح الوجه1، ناهيك عن عدم قدرة الآخرين على التواصل العميق وقراءة مشاعر من خضعن لعملية الحقن بدرجة فعالة كما في الوجوه الطبيعية. كذلك، فإن مادة البوتوكس ذات سمّية عالية وقد تؤدي إلى الشلل أو الموت عند استخدامها بجرعات كبيرة2. أما عن الحشوات التجميلية كحشوات الثدي، فهنالك العديد من الدراسات التي تثبت ارتباطها بأمراض الجهاز المناعي الخطرة، حيث يهاجمها الجسد باعتبارها جسمًا غريبًا3. بينما تُنكر الدراسات الصادرة من إدارة الغذاء والدواء الأميركية (FDA) احتمالية ورود ذلك، وهو الأمر غير المستغرب إطلاقَا، فهي الداعم الأكبر للتجارة الطبية4

أما المعايير الصحية والقانونية لعمل تلك العيادات فهي محل شك، في الكويت على أقل تقدير. فسهولة الإجراءات الورقية المطلوبة لفتح عيادة تجميل في الكويت أمرٌ مذهل بالفعل، هذا ما قالته لي إحدى السيدات اللاتي قمن بافتتاح عياداتهن الخاصة. والأكثر إذهالاً هو عدم امتلاك هذه السيدة أيّة مؤهلات في المجال الطبي، بل أن دراستها كانت في مجال مختلف تمامًا، لكن ذلك لم يمنعها من العمل على وجوه وأجساد الزبونات باستخدام مختلف الأجهزة الطبية. 

إذًا نحن أمام ترويج قوي لهذه العيادات والعمليات وتسهيلات كبيرة مقدمة من قبل الحكومة. السؤال هو: كيف وصلنا إلى هنا، ومن أين أتت فكرتنا عن الجمال؟

 

مقاييس جمال متغيرة

تقول وجهة النظر التطورية بوجود أصل بيولوجي (حيوي) للجمال، وذلك لحفظ النوع واستمرارية الحياة. فبشكل تقليدي بحت، نحن نرى المرأة ذات قوام الساعة الرملية جميلة، حيث تدل سعة الحوض وبروز الثديين على الخصوبة والقدرة على الإنجاب، بينما نجد الرجل الطويل عريض المنكبين ذو القوام العضلي وسيمًا لأنه يمتلك صفات الخصوبة والقدرة على الصيد والحماية من الأخطار.

وعلى الرغم من قوة الدافع البيولوجي المزعومة في التأثير على نظرتنا للجمال، إلا أن الإعلام يلعب دورًا فتّاكًا في تشكيلها، فقد تذبذبت صورة الجمال الأنثوي على مر الزمن، وجاءتنا تقليعات مختلفة متأثرة بشكل رئيسي بالثقافة الاستهلاكية. فعلى سبيل المثال، ظهرت العارضات النحيفات للغاية في أميركا الستينيات كأمثال "تويغي" و "غولدي هون" بمجرد اختراع حبوب التخسيس والتصديق عليها من إدارة الغذاء والدواء الأميركية (FDA) سنة 51959. وقد يكون هوس النحافة ردة فعل عنيفة بعد ارتفاع معدلات السمنة الناتجة عن ظهور مطاعم الوجبات السريعة في أميركا في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، ثم تصدير هذه المطاعم عالميًا. 

من الجدير بالذكر أن حشوات السيليكون للثدي بصورتها الحالية طُوّرت سنة 1961 أيضًا، حيث كانت النساء العاملات في مجال الأفلام الإباحية الأكثر استخدامًا لها6، وكذلك بعض نجمات هوليوود، مما أدى إلى تطبيعها لدى النساء العاديات تحت ضغط مجتمعي أن يكونوا مثلهن بالتزامن مع انتشار التلفاز في المنازل. 

استمرت موجة ترويج التخسيس والجمال الأوروبي النحيف ذو الأنف الدقيق حتى التسعينيات مع عارضات كـ"كلوديا شيفر" و"سيندي كروفورد". أتذكر كيف كان الإعلام الأميركي يصور الأرداف المكتنزة والشفاه الغليظة على أنها قبيحة وترمز إلى فئة اجتماعية وعرقية متدنية، في نفحات عنصرية تشير إلى عدم احترام الجمال الأفريقي أو أي جمال من عرق آخر وتدل على إيمان تلك الثقافات البيضاء بتفوقها العرقي على باقي الشعوب حتى في مسألة الجمال.

استمر تذبذب معايير الجمال الطاغية وتغيرت في وقت قريب بشكل جعل الإعلام الأميركي يخلق جمالاً "عالميًا" نجماته أمثال "كيم كارديشيان" ذات الأصول الأرمنية و"نيكي ميناج" ذات الأصول الأفريقية والهندية. قد نرى هذا الجمال على أنه نتاج عملية "قص ولصق" لأفضل سمات شكلية لكل عرق، يجمعها مشرط الجراح في جسد واحد على غرار بطل رواية "فرانكنشتاين". كذلك، أخذت الصناعة الطبية تروّج لفكرة أن "الجمال بمتناول الجميع" حيث أصبح الجمال -بصورته المعيارية- شيئًا ماديًا يمكن شراؤه، فيحوّل أكثر الفتيات عاديةً إلى نساء مثيرات حسب النمط السائد. كذلك بدأت الصناعة التجميلية لترويج هذه الإجراءات كنوع من التمكين والاستقلالية والتعبير عن الذات، مستخدمة القيم النيوليبرالية لصالحها7، حيث كانت "كايلي جينر" هي الوجه الإعلامي لهذه الفلسفة.

 

ثورة الفاشنستات في الخليج

 

فلنعد إلى الكويت قليلاً…

إن توافر فائض من الأموال والوقت جعل اهتمامات الكثير من الكويتيين والكويتيات تصب في الترفيه والكماليات، وذلك بمباركة من كبار التجار هنا. أتتنا ثورة الهاتف الذكي ووسائل التواصل الاجتماعي قبل ما يقارب العشر سنوات، حيث أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي تلك منصة كبرى للأعمال الخاصة والمشاريع الصغيرة، وكانت نافذة للكويت على العالم الخارجي بلا قيود اجتماعية أو دينية، حيث ضعف التيار الديني المحافظ في هذه الفترة مقارنة في فترة منتصف الثمانينيات إلى بداية الألفية الثانية. بشكل عام، تتمتع الكويت بتحرر أكبر نسبيًا من الدول الخليجية الأخرى، خصوصاً فيما يخص المرأة، حيث للنساء هنا حريات أكبر بكثير من قريناتهن في الخليج في عدة مجالات كالتعليم واختيار وظائفهن وحرية التنقل وعدم الإجبار على ارتداء الحجاب أو العباءة سوى في العوائل المحافظة. يرجع ذلك بشكل رئيسي إلى تطبيق التعليم النظامي منذ سنة 1911 وتعليم الفتيات في 1939، مقابل تطبيقه في السبعينيات في الإمارات على سبيل المثال. 

هذه الحرية النسبية أعطت الكثير من الفتيات مساحة لإنشاء حسابات مفتوحة على منصات التواصل الاجتماعي بصورهن وأسمائهن الحقيقية. ومع شيوع استخدام هذه المنصات وتركيزها على الفردانية وتقديم الذات بصورة منمّقة لدرجة عالية قد لا تتطابق مع الواقع في كثير من الأحيان كانت "الفاشنستات" من أوائل النساء المشهورات في الكويت اللاتي خضعن لإجراءات تجميلية جراحية وذكرها صراحةً. كان القطع هنا مع الماضي حاسمًا: في حين كانت النساء سابقًا تتحرّجن من إعلان هذه التدخلات الجراحية التجميلية، أصبح توثيقها وإعلانها حدثًا إعلاميًا تتمحور حوله قصصهن على مواقع التواصل الاجتماعي وفرصة لاجتذاب المزيد من المتابعات وتحقيق الشهرة. وتحوّل تطبيع التدخلات التجميلية إلى تجارة مربحة: فترويج الفاشنستا لهذه العيادات يعني ربحها المادي وحصولها على خدمات تجميلية مجانية مما ينتج عنه حلقة متكاملة من "الفائدة" المتبادلة للفاشنستا والعيادة معًا.

هي عملية متكاملة يعزز كل عنصر منها الآخر وتهدف بالنهاية لتحقيق الربح أو الشهرة أو كليهما

وبالطبع لا يقتصر الأمر على الدعاية لتلك الخدمات التجميلية، بل تقوم الفاشنستا بعرض العديد من المنتجات والخدمات الاستهلاكية كالمطاعم والملابس والحقائب وذلك بالاستعانة بصورتها "المجنسنة - hypersexualized" والتي تحققت عن طريق عمليات التجميل. هي عملية متكاملة يعزز كل عنصر منها الآخر وتهدف بالنهاية لتحقيق الربح أو الشهرة أو كليهما معًا، وتحقق ذلك بشكل كبير عبر العمليات التجميلية التي تصنع امرأة مطابقة للمعايير الجمالية السائدة. 

أما مُتابِعات هؤلاء الفاشناستات –وهن بالألوف- فيشعرن بقدرتهن أن يكن مشهورات وجميلات هن الأخريات، خصوصًا مع كون الكويت بلدًا صغيرًا وانتشار هذه الأبراج التجميلية العملاقة في كل مكان. كما صُدِّرت هذه الثقافة الاستهلاكية البحتة إلى دول الخليج الأخرى، والتي بدأنا نلاحظ ظهور أعداد أكبر من "الفاشنستات" فيها واللواتي يتبعن نفس الطريقة في إثبات أنفسهن كمؤثرات على مواقع التواصل الاجتماعي والاستفادة من صورتهن المجملة لتحقيق الربح والشهرة معًا.

 

ضغوط من النساء على النساء 

وبينما قد تكون النظرة الذكورية أحد العوامل الرئيسة وراء سعي النساء نحو تغيير وجوههن وأجسادهن، إلا أن خضوعهن لهذه المقاييس أدى إلى تطبيعها بشكل أكبر بين النساء أنفسهن، حيث أصبحت رؤية فتاة كويتية بلا تجميل من النوادر، مما سبب ضغطًا اجتماعيًا إضافيًا، فهي تُتّهم بأنها مُهملة و"لا تهتم بنفسها" من النساء أنفسهن. فالقيام بعملية تجميل ما أصبح مدعاة للفخر وتعبيرًا عن الأنوثة و"الاهتمام بالذات" والمستوى الاقتصادي العالي.

يبدو أن الاهتمام بالذات وتعريف الأنوثة في الكويت اليوم يعني تلك الصورة النمطية من ارتداء الملابس والحقائب باهظة الثمن وقيادة السيارات الفارهة والقيام بعمليات التجميل، فلم يعد تسريح الشعر فحسب كافيًا. وكل تلك المظاهر تحمل معها دلالات طبقية فهي تعكس الانتماء إلى طبقة مادية أكثر رخاءً قادرة على الاستثمار في مشاريع صقل المظهر وتقديمه بصورة معينة وبالتالي تمتلك دخلاً إضافيًا لصرفه على التدخلات التجميلية المختلفة وعلى الملابس والإكسسوارات الغالية، مما يولّد ضغطًا على النساء اللواتي يرغبن بالظهور بنفس المظهر والانتماء لهذه الطبقة، أو تزييف هذا الانتماء وإن كان ذلك عن طريق الاقتراض من البنوك وتكبّد مبالغ لا قدرة لهن عليها، وبالتالي عيش حياة زائفة في الكثير من مظاهرها.

الانعتاق من المعايير الضيقة للجمال المنتج طبيًا غاية في الصعوبة

يتمخض عن هذا السياق وضع محير حقًا: فحتى إن لم تكن المرأة بحاجة فعلية إلى أية عملية تجميل -بالمقاييس الحالية على الأقل- فإنها تقوم بها على أية حال وسط موجة المقارنة والانتقاد الحاد في المجتمعات النسائية، حيث باتت عمليات التجميل وجاهة اجتماعية بالضبط كحمل حقيبة باهظة الثمن، فأصبحت النساء يخضعن لعمليات التجميل خوفًا من كلام جاراتهن. ولم يواكب هذا الهوس بالتجميل الطبي اهتمام فعلي بالصحة أو بالجسد نفسه، فنلاحظ أن الاهتمام الفعلي بالجسد عن طريق مزاولة الرياضة والعادات الصحية السليمة مثلاً يأتي في ذيل قائمة الأولويات، فمن تحتاج إلى الرياضة إذا كان مشرط الجراح ينحت الجسد بصورة فورية؟

وتحت كل الضغوط الإعلامية والاجتماعية والتسهيلات الطبية تلك، يصبح الانعتاق من المعايير الضيقة للجمال المنتج طبيًا غاية في الصعوبة، ويصبح عدم الاكتراث بمقاييس الجمال تلك طعنًا صريحًا في أنوثة كل من ترفض الانصياع لها. فالمرأة الكويتية ستحتاج إلى قدر كبير من الشجاعة والثقة بالنفس لمواجهة المجتمع بلا تجميل، خصوصًا مع تقدمها في السن والضغوطات الإضافية التي تصاحب ذلك. لكن في خضم ذلك كله ما زالت تستطيع أن تخلق مفهومها الخاص عن الجمال واكتشاف جمالها المتفرد، وبإمكانها أن تتحرر من ضرورة تجميل الذات تمامًا إن كانت لديها قوة الصمود أمام التعليقات الجارحة والإعلانات المكثفة، ولن يكون ذلك بالأمر السهل. من يدري؟ قد تكون بذلك مثالاً يحرر الأخريات في بيئتها من ديكتاتورية التجميل نحو حياة أكثر راحة وعفوية، وفرصة لإعادة اكتشاف جمال طبيعي قد يغير من نظرة النساء لأنفسهن. 

 

  • 1. Ian Davis, Joshua, et. al. (2015). "Effects of Botox Injections on Cognitive-emotional Experience" in Intuition: The BYU Undergraduate Journal in Psychology: Vol. 10, Issue 1.
  • 2. Hexsel, D., et al. (2010). "Practical Applications of a New Botulinum Toxin" in Journal of Drugs in Dermatology. Vol. 9, No. 3. .
  • 3. Cirino, Erica. (n.d.). "Can Breast Implants Make you Sick?”, Healthline, available at https://www.healthline.com/health/breast-implant-illness#symptoms
  • 4. Light, Donald. (2013). "Risky Drugs: Why The FDA Cannot Be Trusted", Edmond J. Safra Centre for Ethics, University of Harvard, available at https://ethics.harvard.edu/blog/risky-drugs-why-fda-cannot-be-trusted
  • 5. Fan, Shelly Xuelai. (2014). "The Rainbow Diet Pills: There and Back Again", Neurofantastic, available at https://neurofantastic.com/brain/2017/1/13/the-rainbow-diet-pills-there-...
  • 6. Brunskell-Evans, Heather (ed.). (2016). The Sexualized Body and the Medical Authority of Pornography. Cambridge Scholars Publishers: Newcastle. P.91
  • 7. Hill, Beverley. (2016). "Consumer Transformation: Cosmetic Surgery as the Expression of Consumer Freedom or as a Marketing Imperative?" in M/C Journal, Vol.9, No.4.