بيت الشعر المفقود

كمسلمين/ات تحت وطأة التوجهات المحافظة والمعادية للتنوع داخل وخارج مجتمعاتنا، هل يمكننا استلهام وعي تحرري من تاريخ الأدب العربي؟

”وبعض من يُظهر النسك والتقشُّف إذا ذُكر الحِرّ والأير والنَّيك تقزَّز وانقبض. وأكثر من تجده كذلك فإنما هو رجلٌ ليس معه من المعرفة والكرم، والنُّبل والوقار، إلاَّ بقدر هذا التصنُّع.” - الجاحظ، ”مفاخرة الجواري والغلمان“

تقول الأسطورة إن الجنس في الإسلام هو نشاط ترفيهي خال من أي تفاعل ندي. وتضيف إنه دائما ما يكون بين رجل وامرأة في سياق الزواج. أما ما عدا ذلك من مثلية أو كويرية بل وحرية حب فهو عيب وحرام ولا يجوز بحال. هذا، على الرغم من أن ألوان الطيف الجنسية موجودة بالفعل (وإن تباينت أشكال كبتها والتعبير عنها من سياق إلى آخر)، ليس في ”العالم المتقدم“ وحده ولكن أيضا داخل المجتمعات العربية وذات الأغلبية المسلمة. والواقع أن حرية الاختيار وتباين التوجهات هي صفات إيجابية ليس فقط من وجهة نظر أخلاقية ولكن أيضا لأنها تفيد المجتمع نفسيا واجتماعيا بتشجيع التفاهم والتعايش ودعم القدرة الجماعية على الإبداع والإنتاج. لقد اقترنت هذه الأسطورة بمنع النشاط الجنسي ومعاقبته والتضييق عليه في العالم العربي، ليس من جانب السلطات فحسب ولكن على يد المجتمع نفسه أيضا. فالمفترض هو أن يكون الجنس بين ذكر مسيطر وأنثى أو إناث خاضعات، بل وهو يحدث بموجب عقد بيع وشراء بين ذكرين ينفرد الشاري من بعد توقيعه وسداد ما عليه بحق الأمر والنهي فيما يخص المرأة التي اشتراها.

تلك الصورة النمطية عادة ما يفترض أنها مستمدة من التاريخ الإسلامي - حيث كلمة السر هي ”حريم“ ونقد السلطة الذكورية واجب - لكنها في الحقيقة أقرب إلى العصر الحديث منها إلى أي زمن آخر. فالتوجه المحافظ كما نراه اليوم والذي يجعل فحولة الرجل في مقابل حشمة المرأة هي الفكرة الطاغية هو أحد الآثار الجانبية للصدام مع المستعمر الأوروبي ونظرته (المسيحية الطهرانية) إلى المحرمات والجسد. ذلك أن التراث المكتوب يؤكد أن هذه النظرة إلى المرأة والجسد ما هي إلا بدعة منافية للهوية العربية الإسلامية في عمقها التاريخي. فكما أن هناك في الإسلام تراثا عقلانيا رائدا في العلوم الطبيعية والإنسانية هناك أيضا تراث إيروتيكي يولي الأمور الشخصية والجسدية اهتماما فريدا. وعلى الرغم من أن هذه المادة مكتوبة في مجملها وفقا لشروط زمنها من وجهة نظر الذكر ولخدمته بوصفه الطرف الفاعل والمسيطر، إلا أنها تنطوي على قدر ملفت من الاحترام لجسد ورغبات المرأة بل والاحتفال بهما فضلا عن التسامح مع قوس قزح الشهوات لدى الرجل والمرأة على حد سواء، الأمر الذي يجعل منها تراثا تحرريا قابلا للاستلهام بالفعل.

إن هذا التراث موجود في الشعر العربي منذ وقت مبكر وفي عدد من الكتب الكلاسيكية المتخصصة الصادرة على مر العصور - ”نواضر الأيك“ للسيوطي و“الروض العاطر“ للنفزاوي مثالان من القرن الخامس عشر الميلادي - لكن ما يؤكد أنه حالة ثقافية عامة وليس فقط موضوعا أدبيا طارئا هو التعامل الصريح، غير المتكلف مع الأمور الجنسية واحترام الجسد والشهوة في مؤلفات ذات ثقل جوهري كـ“العقد الفريد“ و“الأغاني“ للأصفهاني و“ألف ليلة وليلة“. أما “طوق الحمامة“ لابن حزم الأندلسي (994-1064 م)، وهو دراسة وافية ودقيقة عن العشق كظاهرة إنسانية كتبت سنة 1022 في مدينة شاطبة Xàtiva شرق إسبانيا ففيه يتحدث المؤلف كنماذج لقصص الحب التي يوردها عن علاقات بين رجلين كما يتحدث عن علاقات بين رجل وامرأة بلا أي حرج، ذلك على الرغم من كونه عالما بل وفقيها دينيا له مكانته ووقاره. يؤكد ابن حزم منذ البداية، ضمن العبارات الشهيرة التي استلهمها سنة 1991 المخرج التونسي ناصر خمير في فيلمه ”طوق الحمامة المفقود“، إن الحب ”ليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد االله عز وجل“…

هناك مثالا أقوى على انفتاح الأدب العربي على التنوع الجندري هو بيت شعر لأبي نواس

غير أن هناك مثالا أقوى على انفتاح الأدب العربي على التنوع الجندري هو بيت شعر لأبي نواس (756-814 م) أورده الجاحظ (776-868 م) في ”مفاخرة الجواري والغلمان“ وهي رسالة - أي مقالة طويلة مكتوبة في موضوع معين - كُتبت قبل أكثر من ألف ومئة وخمسين سنة. لقد كُتبت هذه الرسالة في لحظة تاريخية أقل ما يقال عنها إن المسلمين كانوا فيها أفضل حالا وسط شعوب العالم مما هم عليه الآن. ليس ما تتضمنه إذن إسفافا أو انحلالا ثقافيا بل هو معالجة أدبية لموضوع مطروح تقصد إلى الترفيه وتبادل الآراء فضلا عن المعرفة، وتكشف عن روح رحبة ونضوج في الوعي الجماعي وتسامح مع الغير، وكلها من صفات العصر الذهبي للخلافة العباسية (785-847 م). دعك من أن الجاحظ نفسه - كونه يتمتع بالصيت والسلطة رغم أنه ينتمي إلى سلالة عبيد أفريقية - نموذج لانفتاح المجتمع الإسلامي على ”أقلياته“. ودعك من أن صيغة الرسالة تشبه صيغة حوارات أفلاطون التي شهد العصر الذهبي ذاته ترجمة أعماله إلى العربية (قبل أن تترجم إلى اللاتينية بمئات السنين)، الأمر الذي يكشف عن تعدد الثقافات المحيط بعملية التأليف والداعم للتجديد والإبداع والتنوع. بل ودعك من موضوع الرسالة نفسه، والذي يمكن إعادة صياغته بلغة العصر على النحو التالي: أيهما تفضل، النوم مع البنات أم الأولاد؟

صحيح أن الخلفية الثقافية للبيت ذكورية وتتضمن قبولا لاستعباد البشر، وصحيح أن التصور السائد للمثلية هو التصور الإغريقي الذي يجمع بين رجل ناضج وشاب صغير (”أمرد“) وليس بين ندين. لكن أي عقل هذا الذي يرى المسألة كلها في سياق الذوق أو التفضيل الشخصي بلا حكم أخلاقي؟ الأكثر إدهاشا والأعمق أثرا - وهو ما يدعو إلى البحث في التراث العربي عن مداخل معاصرة إلى التحرر الجنسي بالفعل - هو أن البيت الوارد عرضا في سياق مديح الجواري والذي لا يتحدث في الحقيقة إلا عن متعة شرب الخمر يكشف عن استعداد لرؤية الذكر في الأنثى والأنثى في الذكر على نحو ”يفاخر“ خطابات التحرر الجنسي المعاصرة إذا ما وضعنا سياقه التاريخي في الاعتبار. يقول أبو نواس (والبيت الأول هنا مشهور):

دع عنك لومي فإن اللوم إغـــــــراء وداوني بالـــــــــتي كانت هي الداء

صفراء لا تنزل الأحزان ساحـــــتها لو مسها حجر مسته ســــــــــــــــــــرّاء

من كَف ذات حِر في زي ذي ذكر لها محـــــــبان لوطــــــي وزنــــــــــــــاء

قامت بإبريقها واللـــيل معتــــــــــــكر فلاح من وجهها في البيت لألاء

الحر بكسر الحاء هو فرج المرأة والذكر هنا طبعا بمعنى العضو الذكري. أما ما يصفه البيت فهو فتاة تصب الخمر وقد ارتدت ملابس صبي فأثارت (في الشارب نفسه، كما يبدو) شهوتين متزامنتين إلى الرجل والمرأة، وهما موقفان مقبولان وواردان يصف الشاعر بإيجاز مذهل توحدهما. يكتب أبو نواس في القرن العاشر كما لو كان يرى المستقبل، يكتب باحترام ضمني لتباين الشهوات وبوعي ثاقب بالسياسة الجنسية. ويكتب - ربما هذا الأهم - بإيمان كامل بالجنس كهوية فردية واخيار جمالي قد يتعارض مع الفضيلة في صورتها المجردة إلا أنه مكون أصيل لبهجة بل ولمعنى الحياة. هل نستمع لأبي نواس الآن؟