صمتٌ دامي: الحياة بعينَي رجلٍ عربي تعرّض للاعتداء الجنسي

12/07/2021
1596 words

مرّت سنواتٌ يحاول عبدالرحمن فيها ممارسة أبسط حقوقه في حكي ما حدث له من اعتداءات جنسية، فيكون التهرّب رد الفعل الموحّد. لكن جرحه ما زال ينزف، والتجربة التي مرّ بها قلبَت حياته رأسًا على عقب. فكيف لا يحكي؟!

   * ملاحظة: محتوى المقال قد يكون مؤلمًا أو حسّاسًا لبعض القارئات والقرّاء.

"حاول تنسى الكلام اللي حكيته ده وتعيش حياتك، وما تتكلمش فيه مع حد تاني". كان ذلك ردّ طبيب الباطنة الذي زرته من أجل علاجي من اضطراب الجهاز الهضمي. وللمزيد من التوضيح، شرحتُ له أبعاد المشكلة المرتبطة بتعرّضي للاعتداء الجنسي في الطفولة، فكان ردّه صادمًا، وأوصل لي مثل غيره أنّ المشكلة تتعلق بي أنا، وأنّ العلاج لن يكون إلا بشيءٍ واحد، هو أن تتعامل معها كأنك لا تراها.

ربما لم يدرك أنّي أصطدم بتفاصيل ما حدث يوميًا، سواءً كنتُ نائمًا في الكوابيس التي تلاحقني، أو مستيقظًا في الآلام النفسية والجسدية التي خلّفها الاعتداء الجنسي. ما يأمرونني بفعله يذكّرني بنظرية كنس الغرف على عجلٍ ووضع الغبار تحت السجادة حتى لا يراه الضيوف، بينما لن يغيّر ذلك من حقيقة الأمر شيئًا.

مرّت سنواتٌ أحاول فيها ممارسة أبسط حقوقي في حكي ما حدث لي، فيكون التهرّب رد الفعل الموحّد. في المرة الأخيرة التي وجهتُ فيها رسالةً إلى والدي الذي يعيش بعيدًا عني، عاتبتُه فيها على تعامله بشكلٍ خاطئٍ مع أزمتي، صدَمني ببلوك مفاجئ ولم يعُد يرد على مكالماتي. لكن جرحي ما زال ينزف، والتجربة التي مررتُ بها قلبَت حياتي رأسًا على عقب. فكيف لا أحكي؟!

20×2=40: عملية حسابية مؤلمة!

أحاول حتى اليوم قدر الإمكان استيعاب ما حدث، لا لجهة قابليته للحدوث، بل لكيفية تكرّره بهذه الكثافة. كيف تشابكَت الظروف والأحوال الزمانية والمكانية لتجعلني ضحيةً لحوالي 40 حادث اعتداءٍ جنسي؟

قبل النوم أحيانًا، أعود في الزمن لأمسك بالخيط من طرفه: عندما كان عمري ثماني سنوات، كنتُ أعيش في إحدى دول الخليج حيث كان والدي يعمل. وفي يومٍ من الأيام، ذهبنا لزيارة إحدى الأُسَر الصديقة، وفي نهاية الزيارة، عرض صديقُ والدي أن أبيت بصحبة أولاده الذين يكبرونني سنًا، لكن والدي لم يوافق. وعندما نزلنا لركوب السيارة، طلبتُ منه السماح لي بالمبيت لديهم كي "أغيّر جوّ"، فوافق على مضض. في تلك اللحظة، اشتعل عود الكبريت الذي أحرق حياتي.

أحاول حتى اليوم قدر الإمكان استيعاب ما حدث، لا لجهة قابليته للحدوث، بل لكيفية تكرّره بهذه الكثافة

يومها، خلدتُ للنوم بجوار أحد الأبناء، وما إن حلّ منتصفُ الليل حتى شرعَ يضع يدي في سرواله الداخلي من الأمام، مادًّا يده إلى سروالي الداخلي من الخلف. ارتبكتُ في البداية، لكن لعلّ الفضول للاستكشاف الجنسي حملَني حينها على مطاوعته، فتكرّرَت تلك الممارسة مراتٍ عديدة كلّما كنت أذهبُ للمبيت معهم.

بعد أسابيع عدّة، علِم أخوه الأصغر بما يحدث، فأخبرني برغبته بالاعتداء الجنسي عليّ وإلا "فضح أمري". للأسف، لم يقف الأمر حينها عند التلامس بل تفاقم ليبلغ حدّ الاغتصاب، ثم اتسَعت الدائرة مع الوقت لتشمل أصدقاء المعتدين. ومع كل معتدٍ جديد، يكون السلاح جاهزًا: "افعل وإلا أخبَرنا والدَك".

بمرور الوقت، صار الأمر مستساغًا، ولعلّي أستطيع القول إنّني شُوّهت جنسيًا. فعندما رافقتُ والدتي إلى المستوصف مرةً وانتظرتُها في الخارج لدى دكان البقالة حيث استدرجني صاحبُها إلى مداعبة أعضائه مغريًا إيّاي ببعض الحلوى، لم تُصِبني الصدمة المتوقعة، بل طاوعتُه. 

ومن صاحب البقالة إلى خطيب أختي السّابق، مرورًا بذلك الرجل الذي كان يصلّي في المسجد، كثرَت الاعتداءات عليّ. لكن بالرغم من كثرتها، ما زلتُ أحفظ وجوه المعتدين جميعًا وأستطيع تعدادهم، كما بإمكاني استرجاع الأماكن التي حدثَت فيها الاعتداءات وتفاصيلها، مثل ملابسي ورائحة المعتدي. حتى عندما يداهمني التفكير في الانتحار، أجدني مندمجًا في تعدادهم واحدًا تلو الآخر حتى أبلغ من العدّ 20 معتديًا، لكني لا أذكر بالضبط عدد المرات التي تكرّرت فيها الاعتداءات، فأعمدُ إلى ضرب عدد المُعتدين بمتوسط مرّتين، فتأتي النتيجة 40 حادث اعتداءٍ جنسي يُثقل حياتي.

مكالمةٌ من مجهولٍ كشفت الأمر

بالرغم من مرور حوالي 18 عامًا على تلك الليلة، إلا أنّي أستطيع تذكرها بالحذافير. كنتُ جالسًا ألعب أمام شاشة الكومبيوتر حين رنّ جرس الهاتف وأجاب والدي، ثم تغيّرت ملامحه سريعًا وطلب إلى المتصل أن يمهله بعض الوقت ليأتي بورقةٍ يدوّن عليها بعض البيانات، ثم أغلق السماعة وانهال عليّ ضربًا بتهمة أنّي أعرض نفسي على الرجال ليفعلوا بي "الفحشاء" حسب وصفه. للأسف، ما زالت تلك الصورة راسخةً في ذهن والدي حتى اليوم، وما زال مقتنعًا بأنّي ساهمتُ بإرادتي في ما حدث لي.

بعد تلك الليلة، استدعاني المرشد الطلابي في إحدى الحصص - وكنتُ في الصف الأول إعدادي حينها - وطلبَ إليّ أن أحكي له القصة الكاملة وأن أسمّي المُعتدين. ظلّ يضيق الخناق عليّ حتى "اعترفتُ" وسمّيتُ 23 طالبًا لم يكن معظمهم قد اعتدى عليّ بالفعل. وعندما انتهى من التحقيق معي سألَني:  برأيك، ما هو العقاب العادل لما فعَلْت؟ ثم أجاب سريعًا أن وفقًا للشريعة الإسلامية، سيكون جزائي القتل. في تلك اللحظة، تملّكني الرعب، وبكيتُ بشدّةٍ وانهرتُ نفسيًا.

بعد أيامٍ على المكالمة التي ما زلتُ حتى اليوم أجهل مصدرها، نقلني والدي إلى مدرسةٍ أخرى واصطحبني معه إلى العمرة كي "أكفّر" عن سيئاتي، ما رسّخ في ذهني اعتقادًا بأنّي مذنب، فتطوّر الأمر إلى وساوس قهريةٍ تتعلّق بالنظافة، والوضوء، وأداء الشعائر الدينية والانهماك في الدعاء لساعاتٍ ليغفر الله لي ما ارتكبت.

جسدٌ عليلٌ ونفسٌ مضطربة

أخذَت الآثار الجسدية للاعتداء الجنسي تظهر عليّ من دون أن أتمكّن من الإفصاح عنها، ومنها تهتّك فتحة الشرج نتيجة الاغتصاب المتكرّر، وهو أمرٌ ما زلتُ أعاني آثاره اليوم وأنا أبلغ من العمر 31 عامًا. بالإضافة إلى ذلك، أعاني اضطرابًا في الجهاز الهضمي يجعل من الصعب عليّ الاستمرار في وظائف بدوامٍ كاملٍ لمُددٍ طويلة، لكون وضعي الصحي يتطلّب فتراتٍ من الراحة في خلال اليوم. وأحيانًا، لا أستطيع أن أبدأ يومي على نحوٍ سريع، إذ أحتاج إلى ساعةٍ أو اثنتَين حتى أستقرّ صحيًا، وقد أعجز عن ذلك في بعض الأوقات فأضطرّ إلى طلب إجازة، وعندما تكثر الإجازات أغدو مهددًا بالطرد من العمل، فأضطر إلى تقديم استقالتي.

أخذَت الآثار الجسدية للاعتداء الجنسي تظهر عليّ من دون أن أتمكّن من الإفصاح عنها

أما الجانب الآخر من آثار الاعتداء، فيتمثل في اضطرابي النفسي الذي يتجسّد في كوابيس تلاحقني وأرى فيها المُعتدين يعتدون عليّ مراتٍ عديدة، فأهبّ فزعًا في منتصف الليل. كذلك عندما أرى شخصًا تشبه ملامحُه ملامحَ أحد المعتدين، تصيبني نوبة هلعٍ مفاجئة. وصل بي الأمر إلى التفكير في الانتحار مراتٍ عدّة، لكني تراجعتُ خوفًا من فشل المحاولة.

وبما أن المرة الأولى التي شاهدتُ فيها فيلمًا إباحيًا كانت في الصف الرابع الابتدائي، تحديدًا عندما شغّل أحد المُعتدين جهاز الفيديو ليعرض مشاهد كانت حينها خارج ذاكرتي البصرية تمامًا، جعلَني ذلك ألجأ في السنوات اللاحقة - حتى بعد توقف الاعتداءات - إلى مشاهدة الأفلام الإباحية كمنفذٍ لتفريغ الضغوط. ولا أنسى سنوات الجامعة، حين كنتُ أنغمس في مشاهدة الإباحيات والاستمناء حتى الصباح على نحوٍ هستيري. لكن لحُسن الحظ، تحسّن الوضع تدريجيًا في السنوات الأخيرة، ويمكن وصف ما اختبرتُه بأنه رحلاتٌ متكررةٌ من الوصول إلى قاع الإدمان بالتوازي مع تراجع صحّتي النفسية، ومن ثم محاولة النهوض مرةً أخرى. مررتُ بعشراتٍ من تجارب السقوط والنهوض حتى صرتُ أكثر تماسكًا نفسيًا، وتراكم لديّ الوعي بمداخل إدمان الإباحية وتشابكها مع تجربتي.

لكن تخطي مشكلة تمكُّن الإباحية من حياتي لم يجعلني أتجاوز إشكاليةً أخرى، هي تشوّه صورة الجنس لديّ. فعندما يُذكر الأمر، يستدعي عقلي لاإراديًا أمورًا سيئة، مثل: اعتداء، تهديد، ضرب، إساءة، كوابيس وتشوّهاتٌ جسدية ونفسية، ما ينعكس في اعتباري الجنسَ أمرًا مخيفًا ومثيرًا للقلق.

بالطبع، لا أغفر لوالدي ووالدتي عدم تفهّمهما ما حدث. فوالدي استغلّ تعرضي للاعتداء الجنسي على نحوٍ بالغ السوء. مثلًا، عندما فزتُ بجائزةٍ ماليةٍ في إحدى مسابقات الكتابة وأنا في سنّ السادسة عشرة، أي بعد ثلاث سنواتٍ من توقف الاعتداءات، أخذ مني المبلغ. وعندما طالبتُه بإعادته لي، امتنع بدايةً، ثم أجابني بعد أن أصررتُ عليه قائلًا: "لا مانع لديّ، لكنّي سأجمع أعمامك وأخوالك لأخبرهم بما كان يحدث لك وأنت صغير". يومها، طُعنتُ في الظّهر ولم أعد قادرًا على تصليبه مرة أخرى.

تخطي مشكلة تمكُّن الإباحية من حياتي لم يجعلني أتجاوز إشكاليةً أخرى، هي تشوّه صورة الجنس لديّ

أما والدتي، فترى أن الحلّ الأمثل هو تجاوز ما حدث وعدم الالتفات إليه حتى أستطيع العيش، وهي عمومًا تبسّط الأمر. مرةً، في إحدى نوبات اكتئابي،أخبرتُها عن رغبتي في كشف أمرِ أحد المُعتدين والانتقام منه، فأجابَتني بأن "لا داعي لذلك، دَعه يعيش حياته وعِش أنت حياتك". لكن ليت الأمر كان بتلك البساطة!

"دعكَ ممّا فات": لا أحد يفهمني

القاسم المشترك بين معظم من أخبرتُهم بتعرّضي للاعتداء الجنسي، أنهم يولون وجوههم الناحية الأخرى أو يطرحون حلولًا غير فعالة، إذ ما مِن وعيٍ على الإطلاق بماهية المشكلة أو انعكاساتها على حياتي. حتى الطبيبة النفسية التي كنتُ أقصدها قبل سنوات، "أفادتني" بأنّ الحل من وجهة نظرها يكمن في الزواج وإنجاب أطفالٍ يملؤون حياتي سعادةً وبهجة. كان حريٌّ بي يومها سؤالها عن مدرسة العلاج النفسي التي تتبعها حتى تطرح حلًا كهذا! ألا تدرك أن صورةَ الجنس بحدّ ذاته مشوّهةٌ لديّ، وأني أخاف ممارسته لارتباطه بذكرياتٍ شديدة السوء؟

لم تنجح تجاربي مع العلاج النفسي لأن الأطباء الذين قصدتهم غالبًا ما كانوا يحاولون التركيز على مسائل أخرى غير المشكلة الأساسية،

حاولتُ مراتٍ عدة الارتباط بمَن تشاركني حياتي، فكان هناك مَساران يتكرّران، الأول: أن ترتضي الفتاةُ الارتباط بي عندما أكشفُ لها عمّا حدث في طفولتي، لكنها لا تستطيع تقديم الدعم والاستيعاب اللازمَين للتعامل مع الانعكاسات النفسية التي أمرّ بها، فلا يخرج نطاقُ تفاعلها عن القول المعتاد بأن ما حدث صعبٌ لكن "لتنظرَ إلى مستقبلك ودعك مّما فات". حينها، أشعر بأنّ الارتباط يبعث الإحباط في نفسي، لأني أنتظرُ من شريكتي أن تخفّف عني، فأضطر إلى إنهاء العلاقة. أما المسار الثاني، فهو افتقار شريكتي المحتملة إلى أيّ وعيٍ بأبعاد المشكلة، بل حتى قد تكون لديها نظرةٌ سلبيةٌ لمَن تعرّض للاعتداء الجنسي. وفي هذه الحالة، تبادر هي إلى الانسحاب من العلاقة بشكلٍ غير متوقعٍ فور مصارحتي لها بما حدث. لذلك، عشتُ عازبًا معظم فترات حياتي حتى اليوم.

من جهةٍ أخرى، لم تنجح تجاربي مع العلاج النفسي لأن الأطباء الذين قصدتهم غالبًا ما كانوا يحاولون التركيز على مسائل أخرى غير المشكلة الأساسية، أو يتعاملون معها كمشكلةٍ يجب أن "أرميها وراء ظهري" لأنظر إلى المستقبل المشرق الذي يلوح في الأفق، ويعجبون عندما لا أراه! في الواقع، لم يختلف أولئك الأطباء عن أقاربي الذين تجاهلوا الأمر وتجنّبوا الحديث عنه، مثل خالي الذي يرى أنّي أُعرقل حياتي بنفسي وأرفض أن "أرضى بما حدث وأعيش حياتي".

نقطة ضوءٍ في آخر النفق

منذ حوالي أربع سنوات، عثرتُ في مدينتي على مؤسسةٍ تعمل في مجال توعية الأطفال لوقايتهم من التعرض للتحرش الجنسي. يومها، تحمستُ للغاية للانضمام إليها، إذ شعرتُ للمرة الأولى بأنّي أقوم بردّ فعلٍ إيجابي ومُقنعٍ تجاه ما ألمّ بي.

ومن الجلسة الأولى لتدريب المتطوّعين، كنتُ قادرًا على التفاعل مع المُدربة ووَصفِ انعكاسات الاعتداء الجنسي على الأطفال بدقّة. بعدها، انطلقتُ أحضر ورشات العمل التي تنظّمها المؤسّسة مهما كلّفني الأمر من وقتٍ ومال، فكنتُ أسافر أحيانًا بصحبة فريق المؤسّسة، وكانت كل ورشةٍ بمثابة ضمادةٍ أضعها على جرحي الذي لم يندمل بعد.