بَحَثَ، يَبْحَثُ، بَحْثْ

ياسمين عدن

نصحني صديقي بالخروج من سكن جامعتي المتكدس بالطلاب والقدوم إلى شقته في جنوب كاليفورنيا عندما أخبرته عن إيميل وصلني من إدارة جامعتي عن إلغاء جميع محاضراتي الحالية حتى نهاية شهر مارس لانتشار فيروس كورونا (COVID-19) في شمال كاليفورنيا حيث أدرس. ترددت قليلًا قبل أن أعطيه ردًا نهائيًا لأنني أردت العودة إلى السعودية حتى عودة المحاضرات إلى نحوها الطبيعي بداية إبريل. اشتقت لأمي، والريحان أمام منزلنا، ودفء الجو. لكن العودة أثناء هذه الظروف كان صعبًا. كانت هناك شائعات تحوم حول منع السفر دوليًا من وإلى الولايات المتحدة، مما وضع عودتي للدراسة بداية إبريل لإنهاء الترم الدراسي في وضع خطر. لذلك، بعد وضع كل هذه العوامل في عين الاعتبار، لم أتردد كثيرً بالرد على صديقي؛ فحجزت تذكرة طيران في أقرب موعد، وحضرت حقيبة سفري بأشياء تكفيني لمدة أسبوعين ونصف، و استعددت لهذه الرحلة. لم أعلم وقتها أن المحاضرات سيتم إلغائها لنهاية الترم، وسيتم منع السفر إلى السعودية لمدة أسبوعين، وستعلن ولاية كاليفورنيا حالة طوارئ وتطلب جميع سكانها بعدم مغادرة سكنهم/ن إلا للضرورة.
لم تكن الزيارة المثالية لجنوب كاليفورنيا التي أتوقعها؛ فأبعد مكان زرناه كان السوبر ماركت، والذي أصبح المكان الوحيد الذي نمضي فيه وقتنا خارج شقته. كانت الأيام تمر على نحو غريب، محفوف بمحادثات حول الفيروس ومدى انتشاره مع صديقنا الثالث، لكن بالطبع كنا نقاطعها بمحادثات عن أجسادنا، وهوياتها، وميولها. أغلب هذه المحادثات كانت إلهامها البرامج والمسلسلات والأفلام التي نشاهدها؛ فمشاهدة التلفاز أصبح نشاطًا رئيسًا في أيام الحجر ومحركًا لأغلب نقاشاتنا. من Moonlight إلى Love Is Blind، كنا نسأل بعضنا البعض، وأنفسنا بنفس الوقت، ما إذا كنا نريد أن نتزوج، أن نحب، أن يكون لدينا أطفالًا، أن يكون لدينا شريكًا، أن نتحدث مع عائلاتنا عما نمر به. لكن إجاباتنا عن هذه الأسئلة كانت، سواءً شئنا أم أبينا، كانت مستوحاةً من العلاقات والأجساد المغايرة التي نشأنا حولها طوال حياتنا، سواءً في منازلنا أو شاشات تلفازنا . لم تأتِ أجسادنا مع دليل استخدام. لم تأتِ مثليتنا مع خريطة لإرشادها. كل ما نمتلكه من معرفة تتناسب مع أجسادنا وقصصها كان من مقالة أو فيلم يصدر مرة كل ثلاث سنوات، أو بلغة تخالف لغتنا الأم، أو مواقع جغرافية كنا نراها فقط على التلفاز. لم تكن هناك قصة تتحدث إلي مباشرة، لكن لم أمانع قط استهلاك قصص أخرى تشبه قصص جسدي ورغباته. لذلك عندما كنت أبحث عن مسلسلٍ آخر كي أشاهده بعد إنهاء محاضراتنا على الإنترنت أو الذهاب إلى السوبر ماركت لشراء شيء نفد من ثلاجتنا، كنت أتابع بلا تردد تلك التي تحكي عن أجسادٍ وقصص تشبهني، حتى إن لم تكن تتحدث مباشرة إلي، أو حتى تتحدث بلغتي. كان Looking إحدى هذه المسلسلات. كانت الساعة الثانية صباحً عندما قرأت مقالةً عنه، وكنت مستعدًا للنوم، لكن قررت مشاهدة حلقة واحدة، وإكماله عندما أستيقظ. لم أعرف أن الحلقة الأولى تبعتها ٧ حلقات أخرى حتى أنهيت الموسم الأول.
تتمحور قصة Looking عن ثلاثة أصدقاء مثليين في سان فرانسيسكو لا تشبه أي شيء عني. لكن بعد انتقالي للدراسة هنا، وبُعد مدينتي بـ٤٠ دقيقة دون الزحام الخانق عن سان فرانسيسكو، كانت بعض الأماكن والمطاعم والقصص في مشاهد المسلسل مألوفة لي، ليس بصريًا فقط. مشيت في نفس الشوارع وأكلت الفطور في نفس المطعم التي تختم فيه قصة هؤلاء الأصدقاء. أكلت مع رجلٍ لا أعرف وصف علاقتي معه ولا مشاعري تجاهه. كل ما أعرفه بالتأكيد هو أنني أود التحدث إليه لساعات، حتى إن أفرط بأسئلته عن اللغة العربية التي يتعلمها الآن. لكن كل ما شاهدته في الثمانية عشر حلقة والفيلم لـLooking رأيت فيه حيرتي في وصف مشاعري، وتعبي من مصارعة مشاعري، وإفراطي في تشكيل مشاعري. أنا شخص يفرط في مشاعره. أفرط في مشاعري بشكلٍ يؤذيني أحيانًا. لأنني، وطوال حياتي، كنت أكبح هذه المشاعر وأرفضها، لذلك الآن عندما أمر بها، أمر بها بشكل مضاعف. إن كان هناك شكل مرئي لما أمر به مع هذا الشخص، أو الطريقة التي أتعامل وأتعلم بها عن جسدي؛ فإن Looking بكل شخصياته التي تمثل رحلات وتعريفات مختلفة للمثلية هو أفضل شكل أستطيع التفكير به حاليًا. لا أحتاج تعريفًا واحدًا يقود به جسدي والطريقة التي أحب بها. أحتاج أن أطلع وأرى وأسمع كل القصص التي سوف ترشد قصتي. ورغم أنه بعالمٍ مثالي لا يجدر بي أن أحتاج إلى قصص لترشدني. لكن، وعلى لسان أحد أبطال المسلسل: اعتقادك بعدم حاجتك لشيء فقط لأنه لا يجدر بك أن تحتاجه لا يعني أنك لا تحتاجه فعلًا.
وحتى أتمكن بشكل تام بجمع كل القصص التي أحتاجها لتكوين قصتي، سوف أستمر بمشاهدة المشهد الختامي بـLooking الذي تم تصويره عن بعد مترين من المكان الذي أكلت به شطيرة للإفطار ذلك الصباح.