مَن الذي يُبقي الكويريّين/ات خارج تحالفات الشارع التونسي؟

منذ إعلان مشاركته في أسطول الصمود المغاربي، وجد الناشط التونسي الكويري في جمعية دمج، سيف عيادي، نفسه في قلب عاصفةٍ من التحريض والتنمّر بعد أن تحوّل حضوره في المبادرة العالمية المُنطلقة منذ أيلول/سبتمبر 2025 من ميناء بنزرت في تونس إلى قضية خلافيّة قبل إبحار السفن، رغم كونه واحدًا من مئات النشطاء والناشطات المغاربيات/ين الذين اجتمعوا للتعبير عن تضامنهم/ت مع غزّة المُعرَّضة لحرب إبادة على يد الجيش الإسرائيلي.

ما كان يُفترض أن يكون مساحةً للتآزر الإنساني والالتفاف حول قيم العدالة سرعان ما تحوّل إلى ساحة انقسام حادّ بعد انسحاب عددٍ من المشاركين/ات التونسيين/ات احتجاجًا على وجود عيادي، فيما اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي موجةٌ من التحريض ورهاب المثلية جعلتْ من فعل التضامن نفسه اختبارًا عسيرًا لتقاطعيّة النضالات في تونس.

لم تكن هذه الحادثة مجرّد صدام شخصي، بل شكّلت مفصلًا كشف واقعًا أعمق يفضح ضعفَ تقاطع النضالات في البلاد، فبينما يُعرف الشارع التونسي بحيويّته وقدرته على التعبير عن التضامن مع القضايا الإنسانية، تبرز فجوةٌ واضحةٌ بين المبادرات الحقوقية الداخلية والناشطين/ت من مجتمع الميم-عين الذين غالبًا ما يواجهون ضغوطًا مزدوجةً داخل الحراك المدني وخارجه. وتنعكس هذه الفجوات بوضوح في كيفية التعامل مع قضاياهم/ن حيث تتشابك عراقيل عدّة تُقيّد مشاركتهم/ن الكاملة في النضال الحقوقي العام.

من المعلوم أن المجتمع الكويري في تونس لم يكن  حاضرًا فقط بل نشطًا في مختلف التظاهرات والحراك الاجتماعي والسياسي الأوسع، وليس فقط ضمن التحرّكات المتعلقة بالحقوق الجندرية والمثلية الجنسية؛ فقد شارك الناشطون/ت الكويريون/ت في احتجاجات دعم فلسطين وكذلك في التحرّكات المناهضة لتلوّث البيئة في قابس، فضلًا عن الاحتجاجات المُطالِبة بحرية التعبير والإفراج عن سجناء وسجينات الرأي.

لكن تلك المشاركات القيّمة لم تقِ أفراد الميم-عين شرَّ الإقصاء، إذ غالبًا ما تقابل مشاركتهم/ن في مجمل أي تحرّك أو مبادرة بالرفض أو التجاهل سواء من المواطنين/ت بشكل عام أو من بعض الفاعلين/ات المدنيين/ات والسياسيين/ات.

هشاشة بُنيوية تحول دون مواجهة الوصم والتجريم

في هذا السياق يُعلّق المدير التنفيذي لجمعية "موجودين" المعنية بالدفاع عن حقوق مجتمع الميم-عين في تونس، علي بوسالمي أن: "ما حدث مع سيف ليس حادثة فردية بل يعكس التحدّيات العميقة التي يواجهها مجتمعنا داخل الحركات النضالية، إذ تتواتر حملات التحريض التي تعكس عقلية رهاب المثلية الراسخة في اللاوعي المجتمعي وحتى داخل الحراك الحقوقي نفسه".

إلى ذلك، يُقّر بوسالمي بوجود انفصالات واضحة بين النضالات مشيرًا إلى أنه "وعلى رغم مما يبدو من تضامن ظاهري، فإن الانفصال قائم بوضوح نظرًا إلى أن بعض الجمعيات تختار العمل بمعزل عن الأخرى، حيث تبرز اختلافات جوهرية في الرؤية والأساليب تجعل التعاون على المستوى المحلي محدودًا". 

لا يكتفي المدير التنفيذي لـ''موجودين'' بتوصيف ظاهرة التشتّت بل يذهب إلى أبعد من ذلك ليضع إصبعه على الجرح البنيوي في قلب العمل الجمعياتي ذاته قائلًا: "إنّ الأمر لا يتعلّق فقط بالخلافات الفردية إنما بعقلية مترسّخة تقوم على الانفراد والشخصنة حيث تطفو المعارك الداخلية والمنافسة على السطح فتأتي أحيانًا على حساب روح التضامن؛ وهذه الذهنية تُضعف إمكانيات بناء تقاطعية حقيقية بين الجمعيات".

يلفت بوسالمي أيضًا إلى محاولات كسر هذه الحواجز بقوله: "في "موجودين" نحاول اتخاذ القرارات بطريقة تشاركية وأفقية ومن الأسفل إلى الأعلى، كما نسعى إلى إشراك جميع الأعضاء والعضوات خاصة أن المشاريع غالبًا ما تأتي من المبادرات الفردية للأعضاء. لكن بعض الجمعيات الصغيرة لا تمتلك أدوات العمل بهذه الطريقة وهو الأمر الذي يُصعّب من تحقيق التعاون الحقيقي".

بحسب بوسالمي فإن البدايات لم تكن سهلة بالنسبة إلى "موجودين": "فباستثناء بعض الجمعيات النسوية التي أبدت منذ البداية دعمًا حقيقيًا لقضايا مجتمع الميم-عين، كانت غالبية الجمعيات الحقوقية الكبرى تتجنّب خوض هذا الملف إمّا بدافع الحذر أو بسبب رهاب المثلية لدى بعض أفرادها ممّن كانوا يفضّلون عدم الإفصاح عن مواقفهم حفاظًا على صورتهم العامة".

نظرًا إلى الزخم الذي كانت تشهده الساحة الحقوقية والمدنية في تونس، برزت حاجة ملحّة للعمل ضمن ائتلافات حقوقية تسهم في خلق مواجهة قويّة للتحدّيات الجمّة التي كشفت ضعفَ حماية حقوق مجتمع الميم-عين؛ ومن أبرز هذه التحدّيات ما عُرف إعلاميًا بـ"قضية القيروان"، حيث أُجبر ستة شُبّان جامعيّين عام 2015 على إجراء فحوص شرجية قسرية بتهمة "اللّواط" استنادًا إلى الفصل 230 من المجلة الجزائية التونسية الذي يُجرّم العلاقات الجنسية المثلية بين البالغين/ات بالتراضي ويعاقب مرتكبيها بالسجن لمدّة تصل إلى ثلاث سنوات. وقد رأت منظّمات حقوقية مثل "هيومن رايتس ووتش" و"منظمة العفو الدولية" في هذا الإجراء انتهاكًا للكرامة الإنسانية وشكلًا من أشكال التعذيب، فضلًا عن افتقاره لأي أساس علمي. 

في معرض استحضار هذه الحادثة التي هزّت المجتمع المدني التونسي يعلّق علي بوسالمي: "كان لنا نصيب حينها في مسار النضالات واتّخاذ القرار وسعَيْنا إلى كسر العزلة المحيطة بقضايا المجتمع الكويري بهدف تقليص المحدودية في الرؤية". وهو ما يؤكّد أن واقعة الأسطول لم تكن حدثًا معزولًا في تاريخ النضال الكويري في تونس بل امتدادًا لمسار طويل من الانتهاكات بحق مجتمع الميم-عين.

بالتوازي مع هذه الفجوات الداخلية، يبقى المجتمع الكويري مُحاصَرًا بتحدّيات أعمق على مستوى البنية الاجتماعية والسياسية للبلاد، فالنظام القانوني التونسي يُقصي الأشخاص الكوير مرّتين، أوّلًا بإنكار حقهم/ن في الوجود، وثانيًا بتجريمهم/ن، إذ تقوم النصوص القانونية على أسسٍ تُكرّس السلطة الأبوية والهيمنة الذكورية وتستبعد أي نقاش حول الهوية الجندرية أو الميول الجنسية، ما يجعلها تمارس وصاية على الأجساد وتُعيد إنتاج الإقصاء عبر اعتبار ما يخرج عن العرف المجتمعي مخالفًا للقانون. وعلى الرغم من أن الدستور يُقرّ بمبدأ المساواة، فإن الدولة تظلّ رهينة تصوّرٍ ثنائي جامد للهوية الجندرية قائم حصرًا على رؤية أحادية للبيولوجيا، ما يبرز حدود واضحة لخطاب المساواة الرسمي الذي يُستخدم لتبرير الإقصاء بدلًا من تجاوزه.

على الصعيد المجتمعي، يفرض رهاب المثلية في تونس قيودًا غير رسمية تدفع بعض الأفراد إلى إخفاء هويتهم الجندرية أو ميولهم الجنسية، ما يقلّل من قدرتهم على المشاركة الكاملة في الحراك الحقوقي، حتى في ظل استعداد بعض الجمعيات النسوية أو الحقوقية للتعاون. وتتفاقم هذه الصعوبات بسبب الضغوط الاجتماعية والعائلية والخوف من الوصم والتنمّر، ما يدفع ببعض الناشطين/ات إلى الانسحاب أو العمل بصمت، ويُضعف بالتالي إمكانية بناء شبكة تضامن قوية وفاعلة. 

عقبات أمام بناء حركة تقاطعية في تونس

تكشف التجربة الميدانية في تونس حدودَ التقاطعية والقيود التي تحول دون تطبيقها، كما يوضح علي بوسالمي الذي يُميّز بين شكلين من الإقصاء: "أولهما هو المُعلن الذي يتجلّى بوضوح في مواقف كتلك التي سُجّلت خلال حملة الأسطول؛ أما الثاني فهو غير المعلن الذي يظهر في صورٍ أكثر خفاءً، مثل تعطيل التعاون داخل الائتلافات أو تجاهل أنشطة المنظّمات الكويرية وتهميش حضورها".

جعلت هذه الممارسات من المجتمع الكويري الطرف الأكثر تضحية، وهو ما يعبّر عنه بوسالمي بقوله: "غالبًا ما نجد أنفسنا الطرف الذي يتحمّل العبء الأكبر من العمل، ما يدفعنا أحيانًا إلى الانسحاب موقّتًا حفاظًا على مواردنا. مع ذلك نواصل في "موجودين" تنظيم تدريبات موجّهة للحلفاء والحليفات في محاولة مستمرّة منا لكسر العزلة وبناء فهم أعمق لاحتياجات مجتمعنا". 

وفي إطار الحديث عن أشكال الإقصاء التي تعيق بناء تقاطعية حقيقية بين المجموعات المناضلة، يلفت بوسالمي النظر إلى مسألة أخرى لا تقل خطورة، والتي تتمثّل في الاستحواذ على المساحات الخاصة في المجتمع الكويري من قِبل أفراد أو منظمات غير كويرية، موضحًا أن: " بعض الجهات المعروفة بكونها مغايِرة الجنس تلجأ إلى التحدّث باسم هذا المجتمع أو تمثيله في المحافل الحقوقية بل وإلى الحصول على تمويلات ومشاريع تُنفّذ باسمه من دون التشاور مع المعنيين/ات الفعليين/ات أو الاستناد إلى احتياجاتهم الواقعية".

يرى بوسالمي أن "هذه الممارسات تمثّل شكلًا من أشكال الإقصاء المُمنهَج لأنها تُفرغ النضال الكويري من معناه وتُبقي أصحاب القضية في موقع التهميش والضعف الدائم". 

ويردف بوسالمي: "سوء المعاملة داخل بعض الجمعيات يعمّق هذه الفجوات؛ ففي بعض الأحيان لا يُصغَى إلى رأيك خصوصًا من قبل الرجال، ويتم تبسيطها أو استبعادك من اتّخاذ القرار، ما يعكس نظرة مسبقة مجتمعية ضدك. لذلك نركّز على تعزيز الشفافية والمشاركة وتجاوز الشخصنة والانقسامات، لضمان حد أدنى من التوافق بين الجمعيات".

على ضوء هذه التحديات البنيوية التي تُثبت عمق أزمة التمثيل الكويري داخل الميدان الحقوقي، يتّضح أن معالجة هذه الفجوات لا تتوقف عند مستوى الجمعيات وحسب، بل تتقاطع مع التحوّلات السياسية والاجتماعية الأشمل التي تؤثّر في ديناميات العمل المدني حيث يبقى الظرف السياسي الراهن في تونس عاملًا مساعدًا في تهدئة بعض الخلافات وتوحيد الجهود داخل الحقل الجمعياتي، فقد بدأ بعض الفاعلين/ات يدركون أن استمرار تكرار الأسماء والوجوه نفسها وتسلّمها بشكل شبه دائم لمهام القيادة يُضعف المكتسبات، لذا تتزايد الدعوات اليوم إلى تجديد القيادات وتوسيع دوائر المشاركة بحيث يحصل الشباب على مساحة حقيقية للقيادة ويصبح التعاون شراكة فعليّة وتقاطُعيّة، وهو أمر يؤكّد بوسالمي ضرورة ترجمته إلى الواقع. 

علاوة على ما سبق، يؤكد بوسالمي إن "التمويل لا يزال يشكّل تحديًا صعبًا للغاية، لا سيما أن المنظمات الكبرى تسيطر على الحصص الأكبر من التمويل، ما يضطرّ الجمعيات الصغيرة -بما فيها الكويرية- إلى الانخراط ضمن شروط قد لا تتوافق دائمًا مع أولويّاتها. للأسف يعزّز هذا الواقع المنافسة بين أركان المجتمع الحقوقي ويحدّ من التضامن الفعلي بينها، ليبقى المجتمع الكويري في موقع هشاشة مستمرّة وبحاجة دائمة إلى دعم حقيقي وسند من الحركات الحقوقية والاجتماعية الأخرى".

تتظافر هذه العقبات إذًا لتخلق سياقًا مُركّبًا يجعل نضالات المجتمع الكويري متجاورة للنضالات الاجتماعية والسياسية الأخرى لكنها لا تتقاطع معها بالضرورة، ما يُصعّب اندماج هذا المجتمع الفعلي والآمن في التحالفات الحقوقية والسياسية فتبقى مشاركته محدودة وسط استمرار الرفض الاجتماعي والسياسي والقانوني لأفراد الميم-عين وتفضيل الكثير من المجموعات إخفاء أي ارتباط لها بهم/ن. 

    ياسمين عُمر

    صحافية تونسية مهتمّة بتغطية قضايا حقوق الإنسان.

    إضافة تعليق جديد

    محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

    نص عادي

    • لا يسمح بوسوم HTML.
    • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
    • سيتم تحويل عناوين المواقع الإلكترونية وعناوين البريد الإلكتروني إلى روابط تلقائياً.