فيلم شهيد: رغبة مثليّة مُضمرة

عندما شاهدت المقطع التشويقي لفيلم "شهيد" أوّل مرّة عند صدوره سنة 2017، أخذتني الحماسة لما يعطيه من انطباع بأنه فيلم حول علاقةٍ مثلية أو شخصٍ مثلي أو أيّ مما يدور في فلك ما يمكن تسميته بقصة كويرية. لم تُتَح لي مشاهدة الفيلم، وغاب عن ذهني بعد ذلك خاصةً وأنه لم يكن على قوائم صحفية أو مهرجانات أو نقاشات حول الأفلام العربية الكويريّة، كما أنه لم يثر جدلًا ولم يُمنع من العرض كما هو الحال مع أفلام عربية أخرى تناولت مواضيع كويريّة أو ظهرت بها شخصيات تعيش توجهات جنسية أو جندرية مختلفة، كما حدث مؤخرًا في لبنان مع فيلم بيت البحر للمخرج روي ديب مثلًا.

مؤخرًا في الحجر، أُتيحت لي فرصة مشاهدة الفيلم بعد أن عرضته مؤسسة بيروت دي سي مجانًا على موقعها الإلكتروني، وأدركت أنني لم أكن مصيبًا في انطباعي الأول عن الفيلم وبتوقّعي لموضوعه، إلا أنني لم أكن مخطئًا تمامًا أيضًا. وجاء إطلاق جيم ملفّ "مشاهدات كويرية للسينما العربية" فرصةً مثالية للتفاعل مع الموضوع والحديث عنه.

يأخذ الفيلم من "الشهادة" موضوعًا أساسيًا بتجديدٍ كبيرٍ إن لم نقل بثوريّة، باعتبارها قيمةً مجتمعيةً بعيدًا عن استهلاكها السياسي/الوطني أو المناظير الشرعيّة/الدينية لها؛ وذلك من خلال قصّة حسّان (حمزة مقداد)، الشاب العشريني الذي يسكن وأهله منطقة "الخندق الغميق" في بيروت، المدقعة في فقرها والمتنوّعة سياسيًا وطائفيًا.

كما هو حال الكثيرين من الشباب اللبناني من المناطق المهمّشة والفقيرة، يعاني حسّان من البطالة، ويكون البحر منفسه للحرية والهرب من ضغط الأهل والحارة. يتشارك مع حسّان متعة البحر وملاذه ثلاثةٌ من الأصدقاء من طوائف مختلفة تربط بينهم علاقة وثيقة، إلا أن علاقة حسّان بمحمد (مصطفى فحص) أكثر قوة، وتتمايز عن علاقته بسواه.

في اليوم الذي تدور جميع أحداث الفيلم فيه، يقرر حسّان أن يقفز في البحر من علوٍّ مرتفع ومسافة بعيدة تبدو فيها إمكانية الخطر بشكلٍ جليٍّ. تقتله القفزة، ليخرج من البحر جثّةً هامدة، وتتركز بقيّة أحداث الفيلم حول نقل الجثة للمنزل، توديعها وتغسيلها؛ لنستكشف عبر تلك كل الطقوس مشاعر الفقدان والحزن وعلاقات الأمومة والصداقة وغيرها.

أركّز في هذه المراجعة على العلاقة المثيرة والمميّزة بل ويمكن "المربكة" بين حسّان ومحمد، طارحًا أسئلة أوسع حول الصداقة بين الذكور والحميميّة والرجولة والإيروتيكيّة المثليّة، وذلك بشكلٍ أساسي من خلال ثلاثة مشاهد في الفيلم.

نفهم وجود توتّرٍ ما منذ اللقاء الأول بين حسّان ومحمد في الفيلم، ويتصاعد هذا التوتر تدريجيًا من خلال ثلاثة مشاهد: أولهما مشهد لقائهما في الحارة الذي يعرض للجمهور صداقتهما للمرة الأولى، حيث يشاكس محمد حسّان من خلال التلاعب بأزرار الدراجة النارية التي يقودها الأخير مع تركيز الكاميرا على حركة يديهما، ومن ثمّ ركوبه خلفه واضعًا يده على بطنه بتعبيراتٍ قد تبدو رجوليةً في الظاهر لكنها إيروتيكيّة في العمق.

على الرغم من بساطة المشهد وسلاسته، أقرأُ تلاعب محمد بأزرار الدراجة النارية وإزاحة حسّان لأصابعه كتعبيرٍ عن رغبةٍ أو انجذابٍ ما، يأخذ شكلًا مكمّلًا للأداء الجندري الرجولي نفسه، وهي طريقةٌ مألوفةٌ لاستكشاف رغبات الرجال حيث يتعذّر بسبب البنى الاجتماعيّة الجندرية الصارمة التعبير عنها بطرقٍ حميميةٍ أو بمقولاتٍ جنسيّةٍ واضحة فتأخذ شكل المشاكسة أو "المزاح" مثل المشهد المذكور في الفيلم أو كما هو الحال مع المقولة الأكثر شهرةً "ورجيني بورجيك" التي يتداولها الشباب، والأفعال التي قد تصلُ أحيانًا حدّ العنف -المعبّأ جنسيًا- مثل الإمساك بالقضبان أو الصفق على المؤخّرات أو تمثيل ومحاكاة مشاهد جنسيّة عنيفة من باب "اللعب".

أمّا المشهد الثاني فهو للصديقين وهما جالسان وحدهما على حافّة صخرةٍ في البحر يتحدّثان عن الحارة والشلة القديمة وأسئلة المستقبل، يتلاصق كتفاهما ويرمقان بعضهما البعض بنظراتٍ حميمةٍ حادّة بين الحين والآخر، مع توتّرٍ واضحٍ يظهر باهتزاز الأرجل وحركة أصابع محمد، يزيد من رومانسيّته أو على الأقل حميميّته صوت البحر وحركة الكاميرا التي تركّز على جسديهما. كما هو الحال مع المشهد السابق، يقدّم التقارب الجسدي بين البطلين على الصخرة صورة غير مألوفة للصداقات بين الذكور؛ خاصّةً كونه في سياق نقاشٍ جدّي أو حتّى وجودي وليس نوعًا من أنواع "اللعب" أو الدلع، كما أنه مباشرٌ بين الأجساد دون ملابس تُعيقه.

"شهيد"، يقابل بين فكرتي الشهادة والرجولة كقيمتين مقدّستين وعليَيْن

 

أخيراً، تصل ذروة العلاقة الإيروتيكيّة بين البطلين في المشهد الثالث؛ مشهدٌ أدائيٌ من مخيال محمّد، يتراقص فيه هو مع جسد حسّان بعد موته. مشهدٌ مليء بالحميمية المنبعثة من تلاصق جسديهما وتلاقي عيونهما وطريقة رقصهما.يخوض الفيلم مستوياتٍ مختلفةً من الأدائية، بمعناها الفنّي أولاً من خلال رقصاتٍ تتخلل المشاهد - مثل رقصة ندبٍ لأم حسّان وأخريات، ورقصة محمد مع جسد حسّان، أو بالأحرى رقصته مع الموت. ثم توازي هذه الأدائية الفنية أدائيةً جندرية ذكورية - بمفهوم جوديث بتلر1- مستمرّة للشخصيتين، فموت حسّان بمجمله قد يكون استعراضًا رجوليًا على مرأى متنزّهات ومتنزّهي كورنيش بيروت، خاصّةً أنه جاء بعد نقاش الأصدقاء حول خوف محمد من القفزة، ليصفه أحد أفراد الشلة بالـ"بيروتي"، ويشجّعه حسّان بعرض مرافقته ليردّ عليه بغضب "شو أنا صاحبتك؟!" والحقيقة أن توصيف "بيروتي" في السياق اللبناني يُحيل إلى ما هو ليس رجوليًا مقارنةً برجال المناطق الأخرى في لبنان، وذلك نتاج الفكرة السائدة تاريخيًا والتي تربط بين المدينيّة والنعومة أو انتقاص الرجولة. فكرةٌ لا تقتصر على لبنان وحدها، فنجدها مثلاً في شمال فلسطين أيضًا حيث تُشير صفة "حيفاوي" هناك عادةً إلى الشباب الناعمين أو الـ cool في أحسن الأحوال.

"شهيد"، يقابل بين فكرتي الشهادة والرجولة كقيمتين مقدّستين وعليَيْن، وكأن شهادة حسّان أصلًا جاءت بمجملها فداءً للرجولة وإبعادًا لأيّ نقيضٍ لها؛ فهو ليس بيروتيّ، ليس جبانًا، لا يتمسّك بالحياة. إلّا أنّ العلاقة بين حسّان ومحمد والتواصل الجسدي بينهما تأتي لتزعزع كلّ هذه القداسة وتعبث بها، وهذا الإرباك هو برأيي مقولةُ الفيلم الأساسيّة ومِعوَل نجاحه في تفكيك هذه البُنى.

تستمر إفرازات بنية الرجولة التي يعيش فيها البطلان بعد الموت أيضًا، وأثناء تغسيل الأصدقاء لجثّة حسّان يُصرّح محمد "مش قادر أبكي، بدي أبكي بس مش قادر" في استخدامٍ قد يكون مباشرًا بعض الشيء للجملة الكلاسيكيّة للتعبير عن الرجولة "خليك زلمة تبكيش" أو رسالة مغزاها أنه لم يستطع التعبير عن حبّه لحسّان قبل موته ولا حتى بعده.

نجح الفيلم بشكلٍ ممتاز في خلق علاقةٍ مركّبة بين حسّان ومحمد، حيث يضطرّنا للتفكير بطبيعتها وما تخفيه من رغباتٍ ومشاعر مضمرة. وأكثر ما في الموضوع إثارةً هو عدم التطرّق للمضمون الكويري للفيلم في أيٍّ من المراجعات العربيّة - على الأقلّ التي قرأتها - أو حتى في حديث المخرج مازن خالد عنه في مقابلاته المكتوبة أو المصوّرة.

أطرح هنا قراءةً للفيلم قد لا تتطابق مع المقاصد أو النوايا التي أُريدت له، إلا أنّ الأهم في رؤيتنا الكويريّة للسينما - كما يذكر إسكندر عبد الله نقلاً عن ألكسندر دوتي في مقدمة هذا الملفّ - لا تكمن في الصورة أو النصّ نفسيهما، بل في تلقينا لها واستثمار محتواها "ثقافيًا" و "شهوانيًا".

  • 1. جوديث باتلر، فيلسوفة أمريكية طرحت في تسعينيات القرن الماضي فكرة أن مبنى الجندر (النوع الاجتماعي) بمجمله هو أداءٌ اجتماعي ناتجٌ عن ترجمة الجنس البيولوجي (ذكر وأنثى) إلى مبنى الجندر (رجل وامرأة)، حيث تغدو أجسادنا وفقًا لهذا المبنى أدواتٍ لهذا العرض أو الأداء، والمجتمع جمهورٌ اجتماعيٌ مشاهدٌ ومراقبٌ له. للتعرّف أكثر على فكرة بتلر حول الأداء الجندري أنظري: Butler, Judith (2006) [1990]. Gender trouble: feminism and the subversion of identity. New York: Routledge