سياسات لمس العاري: الطبيب المنحرف، والعسكري الوطني والفنان المتعالي

15/03/2019
2447 كلمة

يُهدّد الجسد العاري "الأمن" في المنطقة العربية. فكلّما "ظهر" عريّ أو إيحاء بالعريّ، ضجّ الفضاء العام بالغضب واللوم والدعاوى القضائية، حيث أنّ "الطبيعي" هو التستّر والاختفاء والاحتجاب. وبالرغم من المحاولات المستمرة لكسر الأعراف والقوانين، تُوجّه أصابع اللوم دومًا للعاري، لأنه وضع نفسه على وعي في سياق علني ولا بدّ أن يحاسب، على اعتبار أن العري العلني إما سذاجة أو خرقًا للعرف والقانون الذي يضبط الحق بكشف اللحم ويرسم حدود لمسه. كما أن احتكاك اللحم باللحم ليس فعلاً عفويًا بل نقطة تلاقٍ للعلامات التي ترسم سياساتها مؤسسات وخطابات قوّة تبيح وتمنع، وتصنّف وترتب. وبحدوث اللمس، يُولد فضاء في المكان والزمان، يتحرك اللحم ضمنه وفق شروط مسبقة بحسب من تتاح له شرعيّة اللمس.

يزدادُ الأمر تعقيدًا حين "يُلمس" المؤنث العاري من قبل المُذكر في سياق علنيّ يَجعله عرضة للتبادل والاستنساخ والتلقي الجماهيري، ما يدخله في الفضاء الثقافيّ الذي تتجلى فيه الأدوار الجندرية. فاللمس وأشكاله مضبوطة وفق القانون ومنظومات الأخلاق كما في حالات الاغتصاب والتحرش والزواج من جهة، والجمالي والمشين من جهة أخرى كالبورنوغرافيا والإيروتيكا. كذلك هناك اللمس الطبيّ، حيث يتحول اللحم إلى مساحة معرفية، يَضبطُ أسلوب لمسها التشخيص والتاريخ الطبي.

نتناول هنا العري بوصفه نتاج اللمس، ذو الجدوى، الذي تحركه الأفاتارات الثقافية باعتبارها معادلات رمزية عن ثلاث مؤسسات، توظف اللمس كأداة تساهم في إنتاج اللحم وتعريفه وصياغة حدوده، ليصبح موضوعة خاضعة لتحديقة من يقوم باللمس. فالطبيب المنحرف والجندي الوطنيّ والفنان المتعالي، أفاتارات تتحرك ضمن منظومة تحميهم وتُرسخ سلطة اللمس الذي يمارسونه.

لمسة الطبيب وحدود الإباحيّة

تسرب للمواقع الإباحيّة مؤخرًا تسجيل قصير لطبيب نسائي سوري يُحدّث مريضة ويفحصها. الشريط يثير الحنق لأن التصوير لم يكن برضا المريضة، وحوّل الطبيب فيه (من خلال تحديقة الكاميرا) لحمها من موضوعة طبيّة بحاجة إلى علاج إلى لحم شبقيّ.

السؤال الأساسي حول هذا الفيديو يتعلق بالطبيب، فهو يمثل السلطة الطبية، ومن المفترض أن يتعامل مع الجسد العاري لتشخيصه ورسم الحدود الفارقة بين اللحم المعافى واللحم المعطوب. وهنا يعتبر اللمس الطبي أمرًا أخلاقيًا وسريًا، هدفه علاجيّ بحت. فكل "لمسة" ترتبط بمعرفة طبية كجسّ النبض أو الكشف عن الكتل السرطانيّة. هذه اللمسات مضبوطة بأخلاقيات المهنة والمعرفة الطبيّة، فهما تحددان أسلوب اللمس ومدته وشكله والمساحات التي يجب لمسها. لكن وجود الكاميرا في ذلك الموقف حوّل الطبيب من معالج إلى مُنحرف يؤدي فعلا بورنوغرافيًا لمُشاهد متخيّل ودون رضا أو معرفة الممثلة.

ضمن هذه المتغيرات، "طبيب يلمس" و"كاميرا تحدق" تحول اللمس الطبيّ من معرفيّ إلى مشين لأن الطبيب المنحرف يستعرض أمام الكاميرا. فهو لا يلمس بمهنية كي يشخّص، وإنما يلمس لكي نُشاهد ونتلصص، ويتضح هذا من أسلوب تعريته للمريضة، وتجاوزه للأعضاء والنقاط التي من المفترض أنها تحتوي على المرض.

يفعّل الطبيب المنحرف هنا التعريفات البورنوغرافيّة للحم، مُقتبساً من تصنيفات "الهاوي" و"الفضائحي" و"المعيب" لنزع اللحم الطبيّ من سياقه وجعله مؤغلمًا، ذو خصائص شبقيّة، وصالحًا لاستمناء المشاهد المُتخيّل. نرى هنا أنفسنا أمام لحم "فيتيشيّ" مغرٍ مهما كانت "عيوبه". فتحديقة الكاميرا ولمسة الطبيب اجتمعتا لتنفيا تساؤلات "الصحة" على حساب "العريّ"، وكأن أي لحم مؤنث مكشوف تحت الكاميرا يدخل فورًا في تكوين الجسد المؤنث الرمزي المتخيّل، ذاك الذي أنتجته الذكورة المفرطة التي ترى في أي "لحم" مساحة شبقيّة شهوانيّة، سواء كانت حلمة، أو قدمًا، أو خاصرة.

المثير للاهتمام - والحنق - في هذا الشريط ليس تسريبه إلى منصة بورنوغرافية فحسب، بل أيضاً سلوك الطبيب الذي لا يبدو مكترثًا لحقيقة أن الشريط نفسه دليل قانوني على أنه متحرش. فالطبيب المنحرف يستفيد هنا من ثقافة الصمت التي تحاول نفي "الفضيحة" وإخفاءها إلى أقصى حد، ضامناً نوعًا ما نجاته من أي محاسبة أو ملاحقة قانونيّة.

لفهم ثقافة الصمت المحيطة بالتحرش، حتى إن كان واضحًا ومُثبتًا، يكفي الاطلاع على صفحات الحوادث في الصحف، باعتبارها إشارات علنية على النتائج الجنائية والاجتماعية للتحرش الطبي. فكثيرًا ما نقرأ كيف يرفض ضحايا التحرش اللجوء إلى القانون خوفًا من الفضيحة، ولتجنب الدخول في نصوص الاتهامات التي تُصاغ هي الأخرى بطابع بورنوغرافي، إذ يقول أحد أقرباء النساء اللواتي تعرضن للتحرش، بحسب النص المنشور في الجريدة، أنه لن يحرر محضرًا "خوفًا على عرضه وشرفه".

لا يستفيد الطبيب المنحرف من ثقافة الخوف لينفي التهمة عن نفسه فحسب، بل هو مستفيدٌ أيضًا من غياب الوعي لدى المرضى بالفرق بين اللمس الطبي المهني واللمس الشهواني. فالصمت عن التحرش أو الحديث عنه متساويان في الكثير من الأحيان بالنسبة للطبيب، الذي يتمكن من تجاوز التهمة بسبب "أدائيّة"1 هذا اللمس، أي أن الكثير من قواعده غير مكتوبة، ويختلف من مريضة لأخرى بحسب طبيعة تعاملها مع الطبيب. هذه الميوعة في الفروقات تُميّع الحدود بين الجرم القانوني "التحرش" وبين الممارسة الطبيّة "التشخيص".

العري وسياسات الاستثناء السياسي

تُهدد قوانين الاستثناء وحالات الطوارئ تماسك اللحم، ويصبح المواطن عرضة لعنف السلطة المباشر على جسده بحجة الحفاظ على النظام العام. وتقع أشد أشكال هذا العنف على أجساد "المُخربين" و"الأعداء المحتملين"، كما حدث مع المتظاهرات والمتظاهرين في الساحات العامة أثناء انتفاضات الربيع العربي، إذ تحوّل لحم الفرد نفسه إلى ساحة معركة تستدعي عنفًا استثنائيًا لإعادة التجانس بين المكونات المختلفة. هنا يتحول اللمس إلى قوة سياسية يمارسها جهاز السلطة البشري (الشرطة-الجيش) لـ"تنظيف"الفضاء العام"، فيصبح اللحم العاري حينها دليلا على وحشية السلطة التي تنتهك الكرامة الإنسانية، وتعري "أجساد" المحتجّين والمحتجّات، وتغير من تعريفها الثقافي والقانوني، جاعلة منها لحمًا مُذنبًا لا بدّ من تأديبه، أو التخلص منها بوصفه "abject"2، أو شكلًا من أشكال الفضلات التي لا بدّ من نفيها كونها تلوّث الجسد الوطني المتجانس.

يتجلى الصراع السابق بين اللحم الخارج عن السياسات الحيويّة3 وبين الجهاز البشري للسلطة في جسد المرأة التيّ عرّاها الجيش المصريّ بشكل شبه كامل في ميدان التحرير في ديسمبر كانون الثاني 2011. لفهم هذا العنف الاستثنائي الذي خضع له جسد المرأة، لا بدّ من النظر إلى جسد المتظاهرة أو المتظاهر بوصفه مساحة سياسية ترى فيها السلطة جهازًا لغويًّا معطوبًا لابد من "إصلاحه" أو "إخفائه" كونه يحتج ويهتف ضد السلطة نفسها. وهنا لا يكون العنف الممارس ضده والعري الناتج عنه إلا جزءًا من سياسات الاستثناء4 التي تُخرِس "الصوت المختلف" كونه يهدد التجانس الرمزي للجسد الوطني ويشكّل خطرًاعلى الحكاية الوطنية الرسمية.

الانتهاكات الجسدية التي وقعت في ميدان التحرير أفقدت الفرد سيادته على لحمه، وجاءت تجسيدًا لهيمنة السلطة ورغبتها في فرض هوية أيديولوجية على الميدان كمساحة مستقرة ومتماسكة ترضى عنها السيادة، ما يبرر تعريض المواطن للموت إن لم ينصع لقواعدها. فالسلطة هنا مستعدة لتحطيم أعرافها بحجة سياسات مكافحة الإرهاب التي تمنح الجندي الوطني حق ممارسة العنف ضد الأعداء وتحت حماية القانون الذي يمنع محاكمته، وبالتالي لا يُعتبر تصرفه جريمة، ما يتيح له ارتكاب العنف على هواه.

في ظل الشروط السابقة، القانونية والسياسية، يتحول اللمس الذي يمارسه الجندي الوطني إلى وسيلة لتفعيل مساحة الاستثناء، تلك التي يُباح ضمنها العنف الشديد. ويتحول المُحتج الذي يخالف أشكال الطاعة العلنية إلى مولّد "أدائي" لمساحة للاستثناء عبر مجموعة من الحركات والأصوات التي يمارسها ضمن المساحة العامة بأسلوب محدد ومكرر "الهتاف، والتظاهر، واحتلال المكان .."، ما يعني تجاوزًا لتعريفات مساحة الاستثناء5 التقليدية، التي تتفعل قواعدها عادة ضمن مساحة جغرافية محددة كما في المخيمات ومعسكرات الاعتقال.

يمارس الجندي الوطني في هذا السياق عنفًا باسم السيادة، يمكن وصفه بأنه عنف تأسيسي6 خارج القانون، يفعّل بمجرد لُمس "العدو"، لضبط الكتلة البشرية الخاضعة للسيادة وتقنين أدائها. هذا العنف يتجاوز تعريفات الجندر والاختلافات الطبيعية، بل يرى البشر كتلة لحميّة لابد من "تقويمها"، وهذا ما يتضح في ما عُرف بملف "صور قيصر" التي سرّبها عسكري منشق من الجيش السوري، والتي نرى فيها آلاف الجثث العارية للمعتقلين الذين قضوا تحت التعذيب، وكأنهم أدلة مؤقتة على إجراءات بيروقراطية للموت7 يتجلى العريّ إثرها كدليل على العنف الممارس لتطهير الجسد الوطني، وإعادته إلى تجانسه وأدواره السابقة.

العري واللحم كموضوعة جمالية

ما يزال الفنان الفرنسي بول أرمان جيت (1927) يثير الجدل حتى الآن بسبب صوره المُشينة حسب وصف البعض، حيث ينتقد جيت السياسات والهالة المقدسة التي تحيط بالعارضة (أو الموديل)، والتي ترى فيها نموذجًا غير حي لا يجوز لمسه أو الاقتراب منه، وتعتبر أن عليها فقط أن تقف وتتموضع لترضي تحديقة الفنان، بوصف لحمها موضوعة جماليّة مقدسة، فتصبح داخل إطار العمل الفني بالمعنى الحرفيّ أشبه بكائن متخيّل فانتازميّ لا مرجعية واقعية له. تمرّد جيت على هذه الصورة التقليدية للموديل دفعه إلى تقديم مجموعة من الصور والشرائط المسجّلة التي يقوم فيها بلمس العارضة وتكوين لحمها أمام الكاميرا. فنرى أصابعه مثلا في الصورة وهي تلمس جسد العارضة، وبهذا فإنه لا يتركها أسيرة متخيَّل جماليّ مُسبق عنها، بل نراها حيّة تحتفظ بخصائص لحمها وجلدها السياسية والثقافية، ومتحررةً من المتخيلات الفنية عن الجسد العاري.

لمسة الفنان للجسد العاري جمالية، هدفها التذوق الذي لا يمكن تفسيره عقلانيًا. هي لمسة لا تسعى للمعرفة، بل لخلق لذّة فنية ما تتجلى في المنتج الأخير (صورة أو لوحة أو شريط مسجّل). ولكن حينما نشاهد هذه "اللمسة" تبرز إلى السطح من جديد الأعراف القديمة عمّا هو مشين ومعيب، والتي ترى في اللمس ضمن المنتج الفني تهديدًا للمتخيّل الذكوري عن قدسية العارضة، وترفعها عن اليومي وعيوبه ولا نهائيته. فاللمس يفضح تاريخ "تشييء" اللحم في الممارسة الفنية.

إن غياب تاريخ واضح للعري الفني في السياق العربي يجعل أعراف اللمس مائعة ومرتبطة بشخص الفنان نفسه. وهنا يبرز الفنان المتعالي بوصفه أسير تاريخ "المُعيب" والاحتراف المُفرط، الذي يقضي بأن على لحمه أن يتلاشى أو يبقى وراء الكاميرا فلا يكون على حساب لحم العارضة، وأن تكون هناك مسافة بينه وبين موضوعته التي يشكّلها جمالياً بالخفاء وبأصابع حذرة، لتتطابق كليًّا مع متخيلاته لنفي حيوية العارضة نفسها. فالفنان هنا هو المجهول المتعالي عن موضوعته و"الغريب" عنها ثقافيًا وجماليًا، فنرى أنفسنا عند محاولة البحث عن لمسته الخفية نتعامل مع أثر عن أثر، الأول يتجلّى لحظة اللمس أثناء صناعة الصورة، والأثر الثاني هو في الصورة نفسها بعد إنتاجها وتداولها.

لفهم علاقة اللمس بين الفنان والعارضة التقيت مع "ي.ب"، 27 عامًا، التي عملت كعارضة عارية ضمن عدد من المشاريع الفنية في المنطقة العربية. لقاؤها كان مبنيًا على شرط السرية، أي عدم ذكر اسمها أو نشر صورتها، على العكس من الفنان الذي التقط صورها، والذي يظهر اسمه ووجهه حين عرض الصور وتلقيها سواء عبر الإنترنت أو في صالات العرض.

تعالي الفنان على موضوعته وعمله مع العاري الفني دون أن يتفاعل معه جسديًا (بلمسه مثلا) يجعل لحم العارضة العاري مُجرد طين خاضع لرغبة الفنان بإظهار العري دون أي سياقٍ شخصي مرتبط بتاريخ العارضة، لتبدو الصور أشبه بأثر مرئيّ على شرط سياسي وأخلاقي يتداخل فيه المعيب مع الجمالي، كأن اللحم العاري ضمن الإطار الفني يتخلى عن هويته السياسية والثقافية التي يحملها في جلده، لنشاهد لحمًا معلّقًا في اللامكان، لا مرجعية له، ولا يقتبس من أي سياق، ليبدو كدغدغة جمالية، ووسيلة لدفع المشاهد لطرح سؤالين، الأول: "لحم من هذا العاري في الصورة ؟" و "هل يشبه لحمًا سبق لي أن شاهدته؟"

تخبرنا "ي.ب"عن مراحل التعري مع الفنان المتعالي، والتي ترتبط بمساحة العمل والكلمات التي يستخدمها المصوّر/الفنان، والتي تُلخصها هي بالتالي: "بس تحسي حالك مرتاحة وجاهزة، فيكي تشلحي تيابك.. باردة الغرفة شي؟ أو تمام؟"، يقولها المصور في بداية الجلسة بنبرة لا تخلو من الخجل، مُتلافيًا التقاء العيون.

يتجنب الفنان التحديق مباشرة، ويتقنّع بالكاميرا التي تكسبه حرية المشاهدة، وكأنه -في تأويل فلسفي نوعًا ما- ينفي وظيفة العين المعرفية، ويفعّل تحديقة الكاميرا التي لا بدّ من "التموضع" أمامها من أجل خلق أثر وشكل لاحقين. وحين سألنا العارضة عن كيفية إتقانها للوضعية المراد منها اتخاذها تقول: "يصف المصور الحالة العامة المراد التقاطها، وتأتي الوضعيات كنتاج لهذا الوصف، ويحاول قدر المستطاع اتخاذ الزوايا التي تؤمّن له التقاط الوضعية المتخيلة في ذهنه مسبقًا. إلا أنه قد يضطر في بعض الأحيان إلى الوصف والشرح الدقيق لكيفية تشكيل جسمي، وأحيانًا اتخاذ الوضعية نفسها لإيصال الفكرة".

المثير للاهتمام أن هناك ما يشبه النص (أو السيناريو) لأداء الجسد العاري، وأسلوب يضبط الحركة وإيقاعها، فالإيقونية التي تخضع لها العارضة لا تظهر إلا في النهاية، لكن أثناء محاولة الوصول للوضعية المناسبة لا بدّ أحيانًا من اللمس، الذي تصفه "ي.ب" بأنه "أشبه بتحريك الدمى، وعادة يكون اللمس من المفاصل كالركب والسواعد والأكواع تمامًا كتحريك دمية الباربي"، وهذا ما يُحيلنا إلى قدسية العارضة، فجلدها ولحمها يخضعان لجهد جمالي من قبل الفنان الذي ينفي حيويتيهما كليًّا، وهي تمرّ بعمليات اللاتجسيد8، التي تنفي أي أثر واقعي لها في العالم، وكأن العري هنا لا سياسي بل رومانسي، وأي إشارة للوضع القائم قد تنفي "الجمال"عن هذا اللحم العاري. .

تظهر هذه المسافة أيضًا حين سألنا "ي.ب" عن المساحات الممنوعة من اللمس إذ تجيب :"عادة يكون هناك اتفاق ضمني غير معلن من الطرفين على عدم الاقتراب من المناطق الجنسية الحساسة كالأثداء والردفين والبظر، إذ لا تتعرض هذه المناطق للمس، ويتحاشى المصور النظر إليها عادة أثناء التصوير، إلا أن النقاش عما يظهر منها يجري بحرية أكثر أثناء مراجعة الصور بعد انتهاء الجلسة، وفي كثير من الأحيان يؤدي تجاهل هذه المناطق وتحاشي النظر إليها إلى أخطاء بسيطة نكتشفها بعد انتهاء الجلسة وأثناء عرض الصور".

يتضح من الجواب السابق أن اللحم لا يفقد احتمالات أغلمته ضمن الإطار الفنيّ، فمفاهيم "المعيب" و"الشبقي" تبقى حاضرة، والجهد الفني مهدد دومًا بأن يتحوّل من لعب في سبيل الشكل الجمالي إلى استباحة، ما يجعل الخطأ الذي يمكن تفاديه باللمس مقبولاً، وجزءًا من ثقافة العيب، وكأن الجنسي لا يمكن له أن يكون جماليًا مهما كان السياق.

حين سألنا "ي.ب" عن ارتدائها لثيابها لاحقًا، أي بعد الانتهاء من التصوير، تقول أن الأمر يعتمد على طبيعة العلاقة مع المصور، لكن لا بد من الإشارة إلى أن الوعي بعري الجسد يعود حالاً إلى الذهن بعد الانتهاء من جلسة التصوير وبالتالي الإسراع في ارتداء الثياب من جديد.

يمارس الفنان المتعالي اللمس بصورة طقسيّة، مُحاطًا بسلسلة من الضوابط لتكوين موضوعته الجماليّة التي لا يترك عليها أيّ "أثر" بعد عملية التصوير أو اللمس، إذ لا يتغير تكوينها الرمزي خارج الصورة كونها لحمًا مجهول الهوية وبلا ملامح، أو بتعبير أدق: لحم بلا تاريخ. وحكاية الفنان وتكوينه لهذا اللحم لمسًا وأداءً أيضًا خفيّة، لنرى أنفسنا أمام منتج مُعلق في الهواء، وموضوعة فنية تدّعي الجمالي المجرد المفاهيمي، وكأن اللحم لا يحوي تاريخه داخله، وكأنه "شيء" هش نحذر أثناء تكوينه، ليكون الانتهاء منه إنجازًا من نوع ما، ونجاة من المعيب والفضائحي، ونزع السياسة للأقصى من اللحم، وترسيخ فكرة أن العمل الفني مُجرد غرضٍ متحفيّ ممنوع من اللمس، لا حدثًا في العالم ذي امتدادٍ في القطاعات القانونية والسياسية والثقافية.

  • 1. لا نقصد هنا بالأدائيّة المعنى الذي نظّر له جون ل. أوستن، بل الاستخدام الذي طورته جوديث بتلر، التي ترى في الأدائيّة مجموعة من الأفعال والكلمات التي نتمرن عليها ونكررها لننتج ذواتنا وهوياتنا وعلاقاتنا مع الآخرين ضمن فضاء ما، وهذا يتجاوز مفاهيم الجندر نحو فضاءات أخرى، تنشأ فيها الأعراف على أساس التكرار ورضا الطرفين بها سواء عن قناعة أو عن خوف، كما في حالات الهوية الثقافيّة وبعض أشكال المواطنة في ظلّ الدول القمعيّة، وفي حالتنا هذه العلاقة مع الطبيب ضمن فضاء العيادة.
  • 2. لا يوجد مقابل عربي لهذه الكلمة، وهي مفهوم متداول يحيل إلى سياسات قمعية وتهميشيّة تتحرك بين الرمزيّ والماديّ، وتحيل إما إلى فئات جندريّة معينة أو أقليات عرقيّة أو المعنى الحرفي للفضلات.
  • 3. وتعني تسييس مفهوم الحياة أو أن "حياة وموت الموضوعات / الأفراد ليست حقوقًا بل تخضع لإرادة السيادة" ،حسب تعبير ميشيل فوكو في محاضرات الكوليج دوفرانس في 19/3/1976
  • 4. هي مجموعة القوانين والأجهزة التي توظفها السيادة السياسيّة لتعطيل الحقوق الدستوريّة، كما في حالة قوانين الطوارئ، وقوانين مكافحة الإرهاب، وقوانين الاحتلال، والتي تبيح العنف المباشر ضد أجساد المواطنين.
  • 5. كما في مخيمات الاعتقال النازيّة، أو أفرع الأمن التي يتعطل فيها القانون، وتباح ضمنها أشكال العنف والتعذيب التي قد تؤدي للموت، إلا أنها عادة محصورة ضمن مساحة جغرافيّة محددة إما داخل أراضي السيادة الرسميّة أو خارجها كما في سجن أبو غريب وسجن غوانتانامو.
  • 6. هو العنف الذي تمارسه السيادة ضد ما يهددها مباشرة كالأعداء والأوبئة، والذي يحصل خارج السياق الدستوري النظاميّ، أي لا تضبطه القوانين القضائيّة، وهو يُفعّل في حالات قوانين الطوارئ و محاربة الإرهاب ويُمارس بشدة ضمن المخيمات وأفرع الأمن.
  • 7. هي مجموعة الأجهزة والنصوص التي تضبط آليات التخلص من فئة بشريّة بهدف إفناء وجودها الماديّ، كما في المحارق النازيّة، أو المحرقة التي يمتلكها بشار الأسد أو كما في حالة صور قيصر، التي تخفي وراءها أرشيفًا ومجموعة من المعاملات البيروقراطيّة للتعامل مع "الجثث" خارج المسارات القانونيّة والقضائيّة الرسميّة .
  • 8. هي مجموعة العمليات الرمزيّة والماديّة لنفي أي وجود سابق للجسد في العالم في سبيل إعادة تكوينه لاحقا.