غرست صنوبرة في جسدي: تجربتي مع الوشم

17/08/2020
1622 كلمة

يقول مارتن لوثر كينغ: "لا يستطيع أحدٌ أن يمتطي ظهرك إلا إذا انحنيت له". تلخّص هذه المقولة تجربتي مع الوشم. هذه التجربة، أو معاركي، أخوضها منذ سنوات مع نفسي ومع من حولي في سبيل انتزاع حرّيتي. حرّية الجسد والجنس. حرّية تقرير المصير. حرية اقتراف فعل نابع عن رغبتي ولا شيء سواها. فمنذ أن خطّت أناملي هذه الكلمات، وأنا في مخاضٍ عسير مع عقليةٍ مجتمعية تقليدية لأبعد الحدود. عقليةٌ منتصرة للموروث الديني، رافعةٌ راية العادات والتقاليد، معاديةٌ للتجديد، تنبذ كل أنواع التحرّر والانعتاق من سلطتها.

أول خطوة تصالح

تطلّب الأمر سنتين حتى أتصالح مع فكرة الوشم، كنت أنبهر خلالهما بكل من يقدم أو تقدم على هذه الفعلة مردّدةً في قرارة نفسي:" يا له/ا من شجاع/ة". كنت في بعض الأحيان أرسم بالقلم الأسود على يدي كلمة "مقاومة" تاركةً إيّاها مكشوفةً عمدًا حتى أختبر ردّة فعل محيطي تجاهها. في الحقيقة، أعترف بأنني لم أكن أحمل إدراكًا كاملًا لمعنى الوشم وكنت أريد فقط تقليد من احتككت بهم في أولى تجاربي المهنية. كان البعض من زملائي وزميلاتي يحمل وشومًا ذات رسائل ثورية مثل رمز المطرقة والمنجل دلالة على الشيوعية أو مثلاً بورتريه لغيفارا أو غيرها. أحببتها جدًا وكانت دومًا تستفز مخيلتي متى رأيتها. ففي لحظةٍ كنت أغوص في تفاصيلها المرمّزة باحثةً عن معنى لها بينما كنت أعيش في الحقيقة صراعًا داخليًا بين ما نشأت عليه من عادات وتقاليد وسط بيئة اجتماعية محافظة، وبين تفاعلي مع بيئةٍ اجتماعية تكسر المألوف تمكّنت بواسطتها من إيجاد الإرهاصات الأولى نحو الذات التي أريد أن أحققها. كانت والدتي ترفض بشدة كلّما صارحتها برغبتي في خوض تجربة الوشم. ولعلّ رفضها الدائم دفعني للتحيين والتأجيل، ما أراه الآن قرارًا صائبًا، لأنني أدرك الآن أن الفكرة لم تكن ناضجة في رأسي في تلك المرحلة، وأعلم أن احتمال الندم على الوشم في تلك اللحظة من حياتي كان واردًا جدًا. 

سنواتٌ مرّت، تعدّدت خلالها تجاربي الحياتية، وتنوّعت دروسها وعبرها، لكن الألم لم يتغيّر: ألمٌ في سبيل التغلب على أزماتٍ نفسيةٍ اقتطعت من جسدي الكثير الكثير. وألمٌ آخر في سبيل انتزاع جسدٍ لطالما سعت أيادٍ غريبةٌ عنه للمسه والتحرّش به. ليلة 8 سبتمبر 2019، اتّخذت قراري. سوف أقوم بالوشم حتى أثبت لنفسي بأنني قادرة على خوض معارك أقوى وأعنف وأشرس، أودّع فيها ذاتي القديمة. سأقوم بالوشم حتى تولد ذاتي الجديدة القادرة على تحمّل أطنان من الأوصام الاجتماعية و حتى أتمكن من طيّ صفحة الماضي والمضي قدمًا إلى الأمام.

لا تراجع

نهضت في الصباح وقلت في نفسي "الآن ابتدأت المعركة". كنت أفكر في الطريقة التي سأصارح بها والدتي بقراري. لا رغبةً في نيل موافقتها، وإنما احترامًا لما يربطني بها من علاقة صداقة قويّة مبنية على الصراحة. فهي خليلتي ومصدر قوّتي، أستمدّ من خلالها معاني الصبر والكفاح ولا أستطيع أن أخفي عنها أمرًا هامًا كهذا. لم أشأ أيضًا أن أخفي عن أمي قراري ووشمي لأنني لم أرد أن أضطر لتغطيته وتقييد نفسي فيما أرتدي، وبما أنني كنت قد عزمت على الوشم كمواجهةٍ للجميع، ورأيته لحظةً فارقةً في حياتي وفرصةً لأكون من أريد، لم أستسغ المواربة والإخفاء. كنت أتصبب عرقًا وكنت خائفةً جدًا على صحة والدتي ولم أشأ إغضابها. جمعت أطراف شجاعتي وبنبرةٍ مرتعشةٍ قلت لها:" أنا ديما نسمع كلامك، أما سامحني أمي، المرّة هذي باش نعمل اللي في بالي ومانيش متراجعة مهما صار". صعقت والدتي لما قلته، برز ريقها الأبيض على شفتيها صائحة:" باش تكسرلي كلمتي وتخليني فضيحة بين الناس؟ أش باش يقولوا علينا؟ بنتي باش توليلي قحبة!". كان المشهد أقرب إلى السريالية، فرغم شعوري بالألم والجرح تجاه والدتي وخوفي عليها، إلا أن رغبتي في الوشم كانت أقوى بكثير. كنت أصارع كل هذه المشاعر في نفس الوقت وأدركت أنني إن لم أمض قُدمًا بالوشم يومها فإن إرادتي ستضعف. كنت أرى في الوشم شفاءً لكل ما مررت به من خيبات، فدُست على جرحي ورتّبت الأمر سريعًا مع إيميليا (فنانة الوشم) وكان موعدنا مساء ذلك اليوم. 

حان وقت الوشم

احتاج وصولي إلى منزل إيميليا نصف ساعة، كان ذلك الوقت كافيًا لأن أراجع مسار حياتي منذ اللحظة التي بدأ فيها وعيي للأشياء يتشكّل حتى تلك الساعة. أغلقت كلّ النوافذ والشقوق التي يمكن أن يتسرّب الشعور بالذنب من خلالها إلى روحي فيطفئ وهجها، وأطلقت العنان لتلك الروح المتمرّدة التي تنبض بداخلي كي تأخذني معها نحو ما أريد، نحو التحليق في سماء الحرية.

استقبلتني إيميليا بابتسامة دافئة كما عهدتها. كنت قد تعرّفت عليها خلال دروس فن الدفاع عن النفس التي نظّمتها جمعية نسوية، ومن ثم علمت بأنها فنانة وشم. اخترت أن توشمني هي لأنني أردت لتجربتي الأولى أن تُولد في مكان آمن، وأردت لوشمي أن تدقه يد امرأةٍ نسويةٍ تشبهني في الأفكار والقيم وتفهم دوافعي. بوصولي إلى بيتها انتقلت من جوٍّ مشحونٍ بالألم والعتاب والجرح إلى جوٍّ لطيفٍ، آمنٍ، يحتضنني. كنّا وحيدتين، جهّزت إيميليا لي القهوة وسمحت لي بأن أضع الموسيقى التي أعشقها "Paolo Nutini - Better Man". أخذت أتأمّل المكان جيدًا، كان أقرب ما يكون للجنّة التي أحلم بها. مكانٌ هادئ ومريح، نسماتٌ صيفية تتخلل الستائر البيضاء. على الحائط علّقت إيميليا صورًا جميلة لبعض الأوشام التي أنجزتها. بمحاذاتها طاولةٌ مجهّزةٌ بمعدات الرسم. في غمرة تأملي، استقرّت عيني على المرآة. لمحت وجهي. فابتسمت لنفسي وقلت لها: "ما تخافش، نعرفك قوية وقدّها".

أردته رمزًا فريدًا من نوعه وغير مألوف. أحببت رمزًا يشبهني. يحاكي تلك الطاقة التي تسكنني، وذلك البركان الذي تنتظر حممه الانفجار. وبينما كنت أتصفحّ صور الأوشام بلهفة جذبت انتباهي صورة صنوبرة. حينها خفق قلبي تمامًا مثلما يخفق لرؤية الرجل الذي أحببته، فأدركت على الفور بأن الصنوبرة هي الرمز الذي كنت أبحث عنه ولعله بدوره كان يبحث عنّي. لم أتردد في الاختيار. الصنوبرة رمزٌ للحب: حب الحياة، الصبر، الكفاح والأمل. وهي رمز الصمود والمقاومة وعدم الاستسلام، تتساقط أوراقها تاركةً المجال لانبعاث أوراقٍ متجددة. أردتها أن تُبعث في جسدي، فأُبعث معها من جديد. 

قدِمت إيميليا بكوب القهوة، وجلسنا نتحدث مطولاً، ربما لساعةٍ أو أكثر، عن معنى هذا الوشم بالنسبة لي وعن نظرة المجتمع للنساء الموشومات. سألتني: "لم أنت متوترة"؟ فأجبتها: "هل سأتألّم كثيرًا"؟ ضحكت، ثمّ اقتربت مني واحتضنتني، وبنبرةٍ خافتةٍ قالت: "لا تخافي لن أؤلمك كثيرًا. الأمر يتوقف على مدى شجاعتك لتحّمل إبرتي". تحمّست لما قالته، وتذكّرت الوعد الذي قطعته على نفسي بتجاوز كلّ الآلام مهما كان حجمها. ثم ذكّرت نفسي أنني لست أنا من تتراجع عن قراراتها مهما كان ثمنها باهظًا. فأن أضع وشمًا على جسدي ليس فقط انتصارٌ على كلّ الألام التي مررّت بها وإنما أيضًا إعلانٌ بأنّ جسدي ملكيتي الخاصة، ولا يحقّ لشخصٍ آخر السيطرة عليه وضبط سلوكياته. 

لا أنكر بأن جزءًا كبيرًا من قلقي في تلك اللحظة كان متعلقًا بنظرة المجتمع لي كامرأةٍ موشومة. فمع أن الوشم الظاهر على الوجه واليد جزءٌ من تاريخنا وثقافتنا إلا أن معانيه قد تغيرت بتغير المجتمع الذي ينظر لجسد المرأة الموشومة اليوم على أنه رخيصٌ، مُتاح، ومشاع. جسدٌ بدون وشم يتعرّض كل يوم في الطريق العام إلى التحرّش الجنسي، والسبّ والشتم، فما بالك بجسدٍ موشّمٍ جاذبٍ لانتباه الجميع نساءً ورجالًا، يُنظر له بازدراءٍ شديد على أنه خارجٌ عن العادات؟

كانت إيميليا تصغي إليّ بانتباهٍ شديدٍ وقالت: "مهما كانت عقلية هذا المجتمع ضدنا، لا بدّ لنا من محاربتها. نحاربها ونحن قويات نفسيًا، نحاربها ونحن محبّاتٌ لأنفسنا وأجسادنا، ليس مهمّ نظرتهم لنا، ليس مهمّ شتائمهم لنا، المهم أننا واثقاتٌ من أنفسنا وقادراتٌ على الدفاع عنها". 

ساهم حوارنا في تجهيزي نفسيًا للحظة الوشم. جهّزت إيميليا أمامي كلّ شيء. ارتدت قفّازاتٍ جديدةٍ وشرعت في العمل. ألصقت في البداية ورقةً شفّافة تحمل صورة الوشم الذي اخترته. ثمّ شعرت فيما بعد بوابلٍ من وخزات الإبر تجتاح ظهري مهللةً بالنصر لافتتاح أرضٍ نشفت طينتها بانتظار سيلٍ من الأنهار يغمرها ويرويها. صرخت في البداية، وتأوّهت لهول الألم الذي انتابني، ثمّ امتلكتني نوبةٌ من الضحك. صرت أضحك وأبكي في آنٍ واحد. فمع كلّ وخزةٍ، كان قيدٌ مُكبلٌ لي ينكسر، وذكرى تحبسني تحترق. كنت أخطو نحو الحرية، تأخذني الإبرة نحوها.

حين انتهينا، أحسست بشعورٍ غريبٍ لم أختبره قطّ من قبل. مزيجٌ عجيب من اللذة، قمّة اللذة، والسعادة والانعتاق من قفصٍ لطالما كنت وما أزال أحقد على وجودي فيه. قفصٌ تردّد فيه الببغاوات:"لا تمارسي الجنس خارج إطار الزواج فهو حرام"، "لا تشربي النبيذ فهو حرام"، "لا تلمسي نفسك جنسيًا فهذا حرام"، ومائة ألف "لا" أخرى غيرها. كسرت القليل من هذه اللاءات بالوشم وما زلت أحمل معولي لتكسير بقيّتها. 

اتصالٌ هاتفي من والدتي قطع عليّ تلك النشوة لأعود من جديد إلى أرض الواقع. عدت إلى المنزل واستأنفنا الصراع. وجدت والدتي في حالةٍ هستيريةٍ ترفض التحدّث معي. انفطر قلبي إلى نصفين، فمن جهةٍ كنت أتألم لما تمرّ به، ومن جهةٍ أخرى كنت متمسكةً برغبتي القوية والملحّة في ممارسة ما أؤمن به من قناعاتٍ ومبادئ. كان وجهها محمرًّا جدّا نتيجة ارتفاع ضغط الدم. صراخها ملأ البيت وكانت تصرخ عليّ وعيناها زائغتان محمرتان نتيجة البكاء "انت كسّرت كلمتي وعملت اللي حبّيت عليه"، "خنت ثقتي فيك"، "هذي هي الحرية؟" "المرة الجايا تدخل عليا بصغير"، "من الآن أمّك ماتت وماعادش تكلّمني جملة". كان المشهد قاسيًا جدًا وغير محتمل. 

لم أتفوّه بكلمةٍ، تجمّدت في مكاني. عزلت نفسي في غرفتي لفترةٍ طويلة استمرّت عشرين يومًا. في الأيام الأولى كنت أحاول التكلّم معها دون فائدة. أقبّلها وأحاول ضمّها دون فائدة. خلت لوهلة أنني خسرت والدتي وكانت فترةً صعبةً وقاسيةً إلى أبعد الحدود. كان ثمن الوشم لا يطاق، لكنني كنت قد فعلتها وكان علي أن أدفع الثمن وأتحمّل عواقب قراري. 

ذات يومٍ وفي طريقي إلى المنزل بعد العمل استوقفتني سلسلةٌ مكتوبٌ عليها عبارة "أمي" في محلّ بيع العطور والأكسسوارات. اغرورقت عيناي بالدموع وقررت شراءها. طلبت من البائع لفّها ضمن ورق مزيّن وكتبت عليها "لا يهمني إن خسرت هذا العالم، المهم أن لا أخسر وجودك في حياتي، لأنك منبع وجودي، وبدونه لا أكون". ثم مررت على بائع الأزهار واشتريت وردةً حمراء، وعدت إلى البيت. وجدت والدتي نائمة. وضعت المشتريات بجانبها وتركت المنزل. عند عودتي وجدتها لم تفتح هديتي، بل وضعتها على مكتب غرفتي. في تلك اللحظة، اقتربت منها في المطبخ وحاولت ضمّها. فضحكت وانتابتنا موجةٌ من البكاء الحار وكأننا التقينا بعد سنواتٍ من الفراق. كان حضنها الدافئ بمثابة طوق نجاةٍ من غرقي المحقّق في براثن الأفكار السوداء التي كادت أن تقضي عليّ في تلك الفترة.

تذكير 

لكلّ منّا معركتها الخاصة في الحياة. لكلّ منّا الرسالة التي تريد تحقيقها. أمّا أنا، فقد أقسمت بأن تكون رسالتي مكرّسة في سبيل تحقيق التغيير. تغييرٌ يبدأ أولًا بذاتي. أمارسه بواسطة القلم، والمعارك التي أخوضها رفقة أصدقائي في الساحات العامة، ضدّ النظام المجتمعي والسياسي. تغييرٌ أمارسه عبر بناء علاقةٍ وطيدةٍ مع ذاتي، وعبر احترامها دون أن آبه بآراء الآخرين حولها. المختلف الآن هو أنني لم أعد وحيدةً، حيث أصبحت صنوبرتي خليلتي ورفيقة دربي، تقبع تحت جلدي وتذكرني بإرادتي لعيش الحياة على شروطي.