"ديلر" برتبة صيدلي: رحلةُ بحثٍ سرّية عن حبوبِ الإجهاضِ في مصر

11/11/2021
1593 كلمة

حظر الإجهاض قانونيًا في مصر يعرّض النساء للابتزاز على أيدي أطباءٍ وصيادلةٍ وغيرهم.

دائمًا ما كنتُ أفكر: إلى مَن ينتمي جسدي؟ إلى الله؟ أم الدولة؟ أم الأهل؟ أم حارس العمارة؟ أم كلّ هؤلاء؟ أن نمتلك أجسادنا يعني أن نُقرّر ما إذا كنّا نُريد أن نكون إنجابيّاتٍ أم لا، وأن نُقرّر متى نُمارس الجنس ومع مَن بكامل إرادتنا، وأن نتنقّل في الفضاء العام من دون خوفٍ أو قيود. سيأتي يومٌ نتحرّر فيه من رقابة المُجتمع وثقافة الانضباط، لكنّ واقعنا الحاليّ في مصر تحديدًا مُعقّدٌ وصعب. فأن تكوني نشِطةً جنسيًا في هذا البلد هو أمرٌ محفوفٌ بالمخاطر، بدءًا بتعرّضك للوصم إذا ما اكتُشف أمرِك، أو للابتزاز والتشهير من قبل شريكك الذكوريّ، أو تسريب فيديوهاتٍ جنسيةٍ لكِ، مرورًا بوصاية الصيدلي الذي ستلاحقكِ نظراته السائلة والمتفحّصة إذا ما نويتِ شراء واقٍ ذكري أو وسائل منع الحمل الطارئة، وانتهاءً بتعرّضك للعنف وربما القتل على يد أهلك لمجرّد شكّهم في "سلوكك". أذكر أنّي عندما كنتُ أعمل في إحدى الصيدليات بعد تخرّجي، طلبَت مني إحدى النساء حقنةً لمنع الحمل، أحضرتُها لها، فنهرني المدير قائلًا: "لماذا تعطينَ حقنة منع الحمل لامرأةٍ لا نعرفها؟".

الجنس بمثابة عقابٍ للنساء في مُجتمعاتنا الأبويّة، فنحن مُطالباتٌ باستخدام موانع الحمل وحدنا لأنّ شريكنا العزيز لا يُحبّ الواقي الذكري، ولا يهتمّ بالآثار الجانبيّة للحبوب على أجسادنا من اكتئابٍ وزيادةٍ في الوزن وجلطاتٍ دماغيّة. شريكنا العزيز يرفض استخدام الواقي الذكري، وسيتّهمنا حتمًا بالجنون في حال طرحنا إمكانيّة أن يستعمل وسائل منع الحمل الرجاليّة مثل ربط القناة الدافقة، فنحمل ونخوض وحدنا في غالب الأحيان رحلةَ الإجهاض المريرة.

قوانين صارمة تجرّم الإجهاض

تُعتبر مصر بحسب بيانٍٍ سابقٍ للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية من أشدّ دول العالم تقييدًا للحقّ بالإجهاض، إذ لا يبيح القانون المصري الإجهاضَ ﻷيّ سببٍ كان، ولا يسمح للناجيات من الاغتصاب ومن سِفاح القربى بممارسة حقهنّ في التخلّص من الحمل غير المرغوب فيه. كما يعاقب القانون النساء اللاتي يلجأن إلى الإجهاض القصديّ بالحبس. وترى المبادرة المصرية وتحالف "ريسرج" النسوي لدعم الحقوق والصحة الجنسية والإنجابية، أن الوقت قد حان لمراجعة مواد قانون العقوبات الخاصة بالإجهاض، فالنساء في مصر يعانين من استمرار قانونٍ بائدٍ أُقرّ في ثلاثينات القرن الماضي في محاولةٍ لمحاكاة القانون الفرنسي وقتها. وفي حين تغيّرت هذه القوانين المقيّدة للإجهاض في غالب بلدان العالم، ظلّ القانون في مصر من دون أيّ تعديلاتٍ ومراجعات.

لا يبيح القانون المصري الإجهاضَ ﻷيّ سببٍ كان، ولا يسمح للناجيات من الاغتصاب ومن سِفاح القربى بممارسة حقهنّ في التخلّص من الحمل غير المرغوب فيه

ويجرّم القانون المصري الإجهاض في المواد 260، و261، و262، و263 من قانون العقوبات سواء بواسطة الأدوية أو عن طريق الجراحة، حتى في حالات الاعتداء الجنسي. وتتراوح عقوبة الحبس لمَن تلجأ إلى الإجهاض من ستة أشهرٍ إلى ثلاث سنوات. ويقع العقاب القانوني أيضًا على الطبيب/ة التي تجري عملية الإجهاض، أو الصيدلي/ة الذي يبيع أدوية الإجهاض من دون وصفةٍ طبية، فالاستثناءُ الوحيد هو حماية المرأة الحامل من خطر الموت.

تقول مي الرفاعي، طبيبةٌ نسائيةٌ وناشطةٌ في مجال الصحة الإنجابية، إنّ الطبيب يكون ملزمًا بالإجهاض في حالاتٍ محدّدةٍ تتضمّن عدم ظهور نبض الجنين أو توقّفه، وحالات الحمل العنقودي، وحالات الحمل بأطفال متلازمة داون (إذا ما رغبت الأم بالإجهاض)، وحالات الافتقار إلى عظام الجمجمة، ووجود تشوّهاتٍ كبرى في الهيكل العظمي أو الإصابة بعيوب القلب الأساسية. كما يُسمح بالإجهاض إذا كان الحمل يعرّض حياة الأم للخطر، مثل إصابتها بجلطاتٍ في المخّ أو الشرايين التاجية أو الشريان الرئوي، أو خضوعها سابقًا لعددٍ كبيرٍ من الولادات القيصرية، أو بسبب ضعف جرح القيصرية الذي قد يسبّب انفجارًا في الرحم ونزيفًا خطيرًا في حال حدوث حمل. وتضيف الرفاعي بأن هناك ظروفٌ اجتماعيةٌ تحتّم على الطبيبة إجراء عمليات الإجهاض، مثل حالات التأخر في القدرة العقلية عند الزوجة وحالات اغتصاب القاصرات، مضيفةً أن الأمر رهنُ ضمير الطبيب وحده، فهو من يستطيع أن يقرّر بين نعمٍ أو لا.

البحث عن حبوب الخلاص

تفكّر نهلة (اسم مستعار)، 28 عامًا، مذيعة، في  لحظة اكتشافها تمزّق الواقي الذكري أثناء ممارسة الجنس مع شريكها قبل سنوات، ثم بحثها عن حبوب منع الحمل الطارئة في كل مكانٍ وعدم عثورها عليها بسبب نقص الدواء في السوق، ثم ترقبها اليومي بدء دورتها الشهرية، إلى أن اكتشفَت أنّها حامل. كانت ترتجف خوفًا بينما كانت تقف على رصيف محطة رمسيس بالقاهرة في انتظار وصول "ديلر"1 الأدوية ليبيعها حبوبَ الإجهاض التي يتراوح ثمنها بين 500 و750 جنيهًا (32 و 48 دولارًا أميركيًا). جاء الديلر ورمقها بنظرةٍ فاحصةٍ ثم قال لها "اتفضّلي يا عسل". أخذت منه شريط الدواء الملفوف في كيسٍ أسود، ثم أعطته النقود وقفزَت في أول تاكسي إلى بيتها الذي تعيش فيه مع رفيقات السكن بعد استقلالها عن أسرتها. نصحتها صديقةٌ بأن تتأكد من أن الشريط "أصلي"، وساعدها موقع نساء على الشبكة في معرفة الطريقة الصحيحة لتناول الدواء. في حجرتها، تناولت نهلة الدواء وانتظرَت النتيجة، لكن لم يحدث أيّ شيء، فكان عليها تناول جرعةٍ ثانيةٍ من الحبوب. هذه المرة نزَفَت، وتعرّضت لتقلّصاتٍ شديدةٍ وأصابها الإرهاق والحمّى. ظلّت شريكتُها في السكن بجوارها طوال الليل. مرّ الأمر بسلامٍ وانتهى حمل نهلة، لكنّ إحساس الرعب لازمها لفترةٍ طويلة، وكذلك ثقل التجربة والتفكير في ما لو كان أصابها مكروهٌ وعلمَ أهلُها بما جرى.

النساء في مصر يعانين من استمرار قانونٍ بائدٍ أُقرّ في ثلاثينات القرن الماضي في محاولةٍ لمحاكاة القانون الفرنسي وقتها

أما أمنية (اسم مستعار)، 32 عامًا، فكانت تعمل بائعةً في محل ملابس وتقضي يوميًا عشر ساعاتٍ وقوفًا. حملَت عن طريق الخطأ لأنّ شريكها يكره استخدام الواقي الذكري، وقد أقنعها بأن القذف خارج المهبل إجراءٌ كافي. قرّرت أمنية ألا تُعلِم شريكها لأنهما اتفقا سويًا من البداية على أنّ الحمل غير واردٍ أبدًا، ولأنها لم تكن لتحتمل الضغط الذي كان سيمارسه عليها. كانت أمنية قد استأجرَت شقةً مع رفيقةٍ في السكن في إحدى ضواحي القاهرة كي تبتعد عن ضغوط أهلها الذين يلحّون عليها لتتزوّج. حاولَت أمنية الحصول على الحبوب بأيّ طريقة، وأخذَت تسابق الزمن بعد أن أخبرها الطبيب بوجوب الإجهاض قبل أن يظهر نبض الجنين لأنّ الإجهاض بعد ذلك سيكون "حرام".

سألَت أمنية عن تكلفة عمليات الإجهاض تحسّبًا في حال لم تنفع الحبوب، فاكتشفَت أن المبلغ يتراوح بين 7 و14 ألف جنيه (446 و892 دولارًا أميركيًا)، ما يفوق قدرتها المادية. تتم هذه العمليات بشكلٍ سرّي في بعض المستشفيات الصغيرة أو العيادات الخاصة، ويُطلق عليها بالعامّية المصرية وصف "عمليات تحت بير السلم"، ويجريها بعض الأطباء لأسبابٍ ماديةٍ بحتةٍ أو لأغراض الشهرة في مجالٍ تقلّ فيه المنافسة.

استمرّت أمنية في البحث عن شخصٍ يبيعها الدواء حتى عثرَت بعد عناءٍ على "ديلر" باعها الحبوب بسعر 300 جنيه (19 دولارًا أميركيًا)، لتكتشف بعدها أنّها مزيّفة. شعرَت أمنية بالتعب النفسي والخطر والوحدة. لم تكن تأكل أو تنام، ورغم ذلك، كانت مضطرةً للذهاب إلى العمل ومواصلة حياتها. استمرّت في إخفاء خبر الحمل عن شريكها، وحملَت العبء النفسي والجسدي وحدها. بعدها، عثرَت على صيدلي اشترَت منه خلسةً شريط حبوبٍ أصلي، لكن هذه المرة كان ثمنه 450 جنيهًا (28 دولارًا أميركيًا). تخلّصَت أمنية من حمْلها بصعوبةٍ بالغة، وأحسّت بأنّها كانت على وشك الموت لشدّة الأوجاع والآلام التي انتابتها بسبب الحبوب.

تجدر الإشارة إلى أنّ صنف الحبوب الذي تناولته أمنية مُخصصٌ أساسًا لعلاج قرحة المعدة، لكن أحد أعراضه الجانبية هو النزيف الشديد، لذا يُستخدم لتحفيز الإجهاض، ويجب تناوله قبل الأسبوع الثاني عشر من الحمل تبعًا لموقع نساء على الشبكة.

سماسرة الإجهاض

عثمان (اسم مستعار) رجلٌ أربعيني يعمل في العلَن مساعد صيدلي، وفي الخفاء "ديلر" أدويةٍ يحصل عليها من أمين مخازن إحدى شركات الأدوية أو من الصيدلية التي يعمل فيها، وأحيانًا من قريبٍ له يعمل بدوره ممرّضًا في عيادة طبيبٍ نسائي شهير. يبيع عثمان الأدوية المحفّزة للإجهاض خدمةً لمعارفه، وكان بدأ أعماله عندما طلب منه صديقه أن يؤمّن له شريط حبوبٍ للإجهاض لأنّ زوجته حملت عن طريق الخطأ بطفلٍ رابع، ولم يكن وضعهما المادّي يسمح لها بالخضوع لعملية إجهاض. في البداية، كان عثمان يشترط على زبائنه أن يكونوا متزوّجاتٍ ومتزوّجين، لكنه اكتشف أن تجارته مربحة، فلَم يعُد يصرّ كثيرًا على ذلك الشرط. وعادةً ما تطلب منه الفتياتُ الدواءَ عن طريق وسيط، لخوفهنّ من الوصم أو قذفهنّ بلفظ "شمال" ("عاهرة").

ووفقًا لتقريرٍ أصدره مركز البيت العربي للبحوث والدراسات عام 2018، تؤكد شهادات بعض الصيادلة أن معظم الصيدليات لا تقدّم عقاقير الإجهاض للنساء، ما يعرّضهنّ للابتزاز المالي ويضطرّهنّ لشراء تلك الأدوية من السوق السوداء بزيادةٍ تبلغ 400% من الثمن الأصلي! من جهةٍ أخرى، يطلب بعض العاملين في مجال الصيدلة مبالغ باهظةً من النساء لقاء منحهنّ حبوب الإجهاض، أو يعرضون عليهنّ علاقةً جنسية، أو يتحرشون بهنّ لفظيًا.

معظم الصيدليات لا تقدّم عقاقير الإجهاض للنساء، ما يعرّضهنّ للابتزاز المالي ويضطرّهنّ لشراء تلك الأدوية من السوق السوداء بزيادةٍ تبلغ 400% من الثمن الأصلي

تجريم الإجهاض وعدم إتاحة الحبوب المحفّزة له جعل الحصول على الأدوية المطلوبة مغامرةً خطيرة، لاسيما بالنسبة إلى النساء غير المتزوّجات. حتى إنّ جلب الحبوب يُعد خطرًا في حدّ ذاته، فيهرّب البعض تلك الحبوب من الخارج، بينما يحاول آخرون بيعها على فيسبوك، ما جعل النائبة إيناس عبد الحليم تقدّم طلب إحاطة (لفت نظر) عبر البرلمان المصري بشأن بيع أدوية الإجهاض عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

كل عام، تموت 68 ألف امرأة حول العالم بسبب مضاعفات الإجهاض غير الآمن بحسب منظّمة الصحّة العالمية، وهو رقمٌ مُفزع. أما في مصر، فلا توجد دراساتٌ وإحصاءاتٌ دقيقةٌ عن عدد السيدات اللواتي يُجهضن. لكن في عام 1998، ذكرَت دراسةٌ عن صحة النساء المصريات أنّ معدل الإجهاض يبلغ حوالي 14.8 لكل 100 حالة حمل. وفي الأرياف تحديدًا، أجرَت 14% من النساء عمليات إجهاضٍ مرةً واحدةً على الأقل، لكن المسحَ لم يشمل النساء اللواتي يُجهضن خارج المستشفيات.

بحسب مقالٍ للطبيب النفسي نبيل القطّ عن دراسةٍ نُشرت في موقع المكتب المرجعيّ للسكان، أقرّ ثُلثا عيّنةٍ من نساء محافظة القاهرة أنهنّ حاولن الإجهاض، وقد شملَت العيّنة نساءً متزوّجاتٍ وغير متزوّجات. وفي عيّنةٍ أخرى من نساء صعيد مصر، حاول 40% منهنّ الإجهاض على الأقلّ مرةً واحدةً في حياتهنّ.

أذكر في صغَري الحكاياتِ التي تردّدَت عن امرأةٍ في قريتنا نسبَت طفلها إلى والدها لأنها حملَت من دون زواج. لا يمكن للنساء في مجتمعاتنا أن يكنّ أمّهات عازبات لأنّهن بذلك "يخدشن الحياء" ويدُسن التقاليد. لكن أن يُعرّضن أنفسهنّ للخطر بحثًا عن "ديلر" أدويةٍ ويخُضن الإجهاض غير الآمن، فهو أمرٌ لا يستدعي التوقّف عنده ولا يخدش "حياء" أحد. لماذا لا نتحكّم بأجسادنا ونتمتّع بحقّنا في إنهاء حملِنا في ظروفٍ آمنة؟ لماذا علينا تجرّع القلق والرعب؟

إن حظر الإجهاض قانونيًا يعرّضنا للابتزاز على أيدي أطباءٍ وصيادلةٍ وغيرهم، ويترك آلاف الأطفال في دور الأيتام لأن أمهاتهم أُجبرنَ على إنجابهم. ما نطلبه ليس بالكثير، بل مجرّد حقّنا في التصرّف بأجسادنا.

 

 

  • 1. شخصٌ يبيع على نحوٍ غير قانوني الأدويةَ المخدّرة والأدوية المحفّزة للإجهاض التي ينبغي أن تُباع بوصفةٍ طبيةٍ حصرًا.