في أن نكون استراتيجيات

وفي الإجابةِ على هذا السؤالِ نُفكّرُ بمن نحن وكيف يؤثّرُ عملنا على بعضنا البعض وعلى نساءٍ أُخريات، ونفكرُ أيضًا بأنَّ هذه الاختلافات ستؤدي إلى أن تمشي الكثيراتُ في الطرق نفسها وأن نفترق في نهاية المطاف.

تنويهٌ

كتبت هذا المقال بناءً على مداخلةٍ قُدِّمت في حفل نهاية مشروع "روتس لاب"، وهو مشروعٌ يهدفُ إلى دعم نسوياتٍ أو مُهتمات بالشأن النسوي في لبنان لتحويل أفكارهن المتعلقة بالتغيير إلى مبادراتٍ نسويةٍ قادرةٍ على أن تأخذَ حيزًا وشكلاً وتستهدف نساءً أخرياتٍ في مجتمعهن، وذلك من خلال فترة تدريب على أدوات العمل المجتمعي والنسوي وإدارة الموارد. وشمِلَ ذلك دعم عشر مبادراتٍ نسويةٍ لشاباتٍ نسوياتٍ من مختلف المناطق والخلفيات والجنسيات في لبنان. وقد انخرطتُ في المشروع من خلال مؤسسة ورشة المعارف التي لعبت دور الموَجِّهِ في التدريب ومُنتجِ محتواه. أشارك في هذه المقالة وأزور بعضًا من العناوين التي تساعد في أن نكون استراتيجيات كمنظّمات نسويات في حراك أو حركة نسوية.

مقدمة (لا بدَّ منها)

حين طلبت مني رانيا إغناطيوس، مديرة مشروع "روتس لاب"، أن أُقدّم مداخلةً عن تاريخ الحركة النسوية الشابة في لبنان وضرورة الاستمرار في الاستثمار في جعل "حركتنا" عابرةً للأجيال والجنسيات، افترضتُ الكثير من الأمور؛ مثل كيف نتكلمُ عن "حركة" تأتي من اختباراتٍ شخصيةٍ وسياسية وتُرى بناءً على مواقع مختلفة نجدُ أنفسنا فيها طوعًا أو قسرًا، ونقيسُ أنفسنا ونُقاسُ فيها بناءً على فاعليةٍ أو نفوذٍ أو خمول.

تساءلتُ كثيرًا، إن كان الكلامُ عن الحركةِ ككتلةٍ مجديًا للحركة نفسها، أو إذا كان الفعلُ أو اللا فعلُ فيها أكثر جدوى؛ أي هل نكونُ في الحركةِ لأننا نكونُ فقط أو لأننا نفعلُ ونصبحُ جزءًا من السيرورة. الكثيراتُ مِمَن خرجن من الحركة النسوية وقررن التقاعد المبكر يفترضن أنَّ في خروجهن تضمحلُّ أيُّ مسؤوليةٍ لهنَّ حيال الحركة، ولكنني أعلمُ أنَّ الأثر الذي تركنَه فيها، سواء هدامًا كان أو بنّاءً، ما يزالُ مؤثرًا. وبالتالي تتخطى فكرةُ الحركةِ وماهيتُها بالنسبة إليّ كونها الحاضر، بل تشملُ الماضي، وإن لم يقدِّم الماضي أجوبةً شافية، تبقى الأسئلةُ التي نتخبطُ فيها تتحكمُ في طرقِ التنظيم والرؤية.

في قراري تحويل المداخلة إلى مقال، رغبةٌ في نقلِ الأحاديث التي أقومُ بها إلى محتوى قد يساعدُ في عملية التبصُّر والاستبصار التي ترافقُ النسويات وهُنَّ يبحثن عن التوازن في كيفية النظر إلى العالم الخارجي، وفي الوقتِ نفسه النظر إلى داخل الحركة ذاتِها، وذلك لمعرفة كيف نستمرُ نحنُ وكيف هي تستمرُ.

جزءٌ من اهتمامي بتطوير محتوى والعمل مع المبادرات النسوية التي احتضنَتْها "روتس لاب" جاءَ من عطشٍ دائمٍ لرؤية أوضاع النساء في القرى والمحافظات البعيدة عن بيروت ومركزيتِها لمعرفتها وفهمِها؛ كما فهم اختبارات وتجارب التنظيم من قِبَلِ اللواتي يعشْنَ في مجتمعاتٍ أكثر محافظةً من المدينة وهنَّ يمارسن نسويتهنَّ، ليس من منطلق المواطنة، بل من منطلق الهجرة أو اللجوء؛ وهذا المكانُ الأقربُ إلى قلبي وقد انطلقتُ منه في تنظيمي ورؤيتي، وطبعًا في التعرُّفِ على المبادرات التي تقومُ في المدينة واستكشاف المُمارسات والمعرفة النسوية من أماكن جديدةٍ مثل الارتكاز على الأدوات البصرية لإنتاج المعرفة وما شابَه.

وهذا الاهتمامُ مبنيٌ على قاعدةِ أننا نكونُ كما تكونُ مجملُ حركاتِنا، فإن كانت قادرةً على أن تنجو، نكونُ نحنُ أيضًا قادراتٍ على ذلك. طبعًا، أتت الفرصةُ بالتوازي مع لحظةٍ من التساؤلات الداخلية التي أعيشُها كفلسطينيةٍ في حراكٍ نسويٍ لبناني، وقد كانت فرصةً لي كي أتعلمَ من اللواتي شاركن في المشروع؛ بل كذلك أتركَ العنان لجزءٍ مني لا يخرجُ عادةً إلى الحيّز العام، وذلك لعدة أسبابٍ تتوضّح تباعًا في المقال أدناه.

إذن، كيف يمكنُ لأيٍ منّا أن تقرأ التاريخ الخاص أو العام الذي تأتي منه، من دونِ أن تكون هذه القراءةُ شديدة الخصوصية، وفي الوقت نفسه تستطيع أن تجد آذانًا صاغيةً لها؛ وكيف نقومُ بذلك من دونِ أن نجعلَ للماضي سلطةً يبدو لنا أن لا قدرةَ لدينا على مواجهتِها والتعامل معها، وبالتالي عبورها إلى حاضرٍ آخر؛ وكيف يمكنُ في الأوان عينهِ أن نُصالحَ السرد الخاص بالماضي مع السرد الجماعي المتجانس أو المحافظة عليه إذا كان مُتنافرًا. وكيف يمكنُ أن ننظرَ إلى الحاضرِ بصفتِه قابلاً للتحول، وليس فقط كونه مُعاشاً أو نتيجةً لِما هو سالِفٌ.

في هذه اللحظات الحرجة من التحولات السياسية في العالم، هناك حاجةٌ ماسةٌ لأن نكونَ استراتيجيات/ين

ما يُمكنُ أن نتعلّمه ونحنُ شديداتُ الانهماك في التصدي لموجةٍ عالميةٍ بأوجهٍ وسياساتٍ تعملُ على زيادة العراقيل أمام النساء، وأن تقفَ ضدَّ تحوّلٍ نوعيٍ في وعي النساء والأفراد العابرين/ات والذي ضاقَ ذرعًا بالأبوية ومحاولاتها المستميتة لإخضاعِ النساء واستغلالهن. في هذه اللحظات الحرجة من التحولات السياسية في العالم، هناك حاجةٌ ماسةٌ لأن نكونَ استراتيجيات/ين. وبذلك أعني أنَّ تنظيمنا النسوي، ومعه الانخراط في حراك نسويّ محلي أو إقليمي أو عالمي، عليه أن يتمحورَ ليكونَ " قصدياً"1؛ أي التنظيم بوعي وتخطيط وفهم لمواقعنا وأدواتنا. وها أنا أزورُ بعضًا من العناوين والأفكار التي أعتقدُ أنها مناسبةٌ للخوض في هكذا نقاشات.

العلاقات العابرة للأجيال

يشكِّلُ التاريخ النسويّ صلةَ وصل مهمةٍ لكُلّ من تعملُ على مبادرةٍ وتحاولُ أن تُنظِّم ضمن نطاق مدينتها أو قريتها. ولا شك أنَّ النظرَ إلى التاريخ وكيف نعيدُ قراءَتَهُ يطرح لحظات توترٍ من الممتع الوقوفُ عندها والتأملُ فيها. الحركات النسوية تشملُ فئاتٍ عمريةٍ متعددةٍ تظهرُ على أساس موجاتٍ تتوالى وتحملُ في أغلب الأحيان توتراتٍ بين الفئات العُمرية المتنوعة، بالرغم من أنَّ التوترَ في أصله ليس عمرياً، بل سياسيٌ أو استراتيجي. ولا أنفي بهذا هنا أنَّ للزمنِ سلطةً على كيف تواجهُ النسوياتُ ويعاركنَ الأبوية وكيف نكسبُ مساحاتٍ إضافية، لكني أركّزُ على كيف نصبحُ، على أساسِ تلك التوتراتِ، أجيالاً للماضي، وللحاضر، وللمستقبل، ويكونُ عملُنا النسويُ بذلك عرضةً لتاريخِ صلاحية. وفي معالجة تاريخ الصلاحية هذا بصفتِه أداةً أبويةً تعاني منها النساءُ عامةً باعتبارها عُرضةً للاستعمال/الاستغلال، يمكنُ لنا أن نخرج بعلاقاتٍ عابرةٍ للأجيال والأعمار والتجارب، وبالتالي إلى حركةٍ يمكنُ أن تتعاطى مع الزمن بحريةٍ أكبر وقدرةٍ أكبر لتطويعه لصالحها.

يمكنُ مثلاً التأملُ في مفهوم "الوراثة" في فهم حاضرنا أكثر، ومن خلالِ اعتبارِ أنَّ ما فعلته النسوياتُ من قبل يُعطى لنا ونأخذه أو نرفضُه كأنه "تَرِكة" من التاريخِ تخصُّنا وحدنا. غير أننا غالبًا ما نرثُ مواقع سياسية أو شعاراتٍ لا تمثّلُ الحاضر، أو لا نجدُ قيمةً لِما ورثنا، هذا إن لم نرِثْ نزاعاتٍ وتوتراتٍ وعقوباتٍ من النُظُم التي تطورُ أيضًا أدواتٍ لمحاربة النسويات. وتشكِّلُ التركةُ هذه عبئًا وعائقًا أمام تنظيم أنفسنا. وبسبب ما نرثُه من توترات، نُهمِلُ أننا نرثُ كذلك مخزونًا كاملاً من المعرفة عن كيف يخرجُ الوعيُ النسوي وكيف تتمُّ مواجهتُه أيضًا.

لا ريب أنَّ قصص النجاح والنجاة وصلت إلينا وخلفها الكثيرُ من الآلام والتضحيات. إنَّ الوعي النسوي القادر على الشعور بتلك "الصلة" في ما كان وما سوف يكون، ويخلقُ فضاءً قائمًا على افتراض أننا كلنا مترابطاتٌ متصلات، والحركةُ ملكيةٌ عامةٌ لكافة من ينخرطن فيها ومن أي باب يفتحنه، وكذلك للواتي حملنَ بعضًا من ثقلها وقررن الخروج منها. غيرَ أنَّ العمل الذي يريدُ أن يرتكزَ على عبور الأجيال لا يمكنُه أن يُعالجَ الخاناتِ العمرية وتواجدها في الفضاء نفسه فحسب، بل يعملَ على تشكيل وعيٍ نسويٍ قادر على فهم التوترات وتضمينها في العمل نفسه، وذلك عبر تطوير أدواتٍ ضروريةٍ تسمحُ لنا بفهم أوضاعنا وصراعنا.

إنَّ العمل العابر للأجيال يرتبطُ بقدرتنا على أن نكونَ قَصْدياتٍ في ما نفعله، ولكن الأهمَّ من ذلك، يرتبطُ بقدرتنا على أن نكونَ استراتيجيات. تقول أودري لورد "كلّما اقتربنا من إيجاد مجتمعٍ حيث نستطيعُ أن نزدهر، يكونُ التمييزُ على أساس العمر تشويشًا علائقيًا آخر يتدخلُ في عملنا من دون أية رؤى. وفي تجاهلنا للماضي، يتم تشجيعُنا إذًا على إعادة أخطاء الماضي. إنَّ الفجوة بين الأجيال أداةٌ مهمةٌ في أي مجتمعٍ قامعٍ، وإن كانت الأفرادُ الأصغر سنًا في المجتمع تزدرينَ الأكبرَ سنًا أو تشتبهن بوجودهن كإسراف، فلن تستطعنَ أن تمسكن بأيدي بعضهنَّ وأن تُعدْنَ عيش ذكريات المجتمع، أو حتى طرح السؤال الأهم "لماذا؟"23، ما يضعُهن في حالة فقدان الذاكرة التاريخي الذي يجبرُنا على إعادة اختراع العجلة في كلِّ مرةٍ نوّدُ أن نذهب إلى المتجر لشراء الخبز".

يمكنُ أن نتحرر من شرط اختراع الكثير من الأمور، من قبيلِ كيف نتنظّمُ، إذا تعاملنا مع الذاكرة الجماعية الموجودة في حركاتنا. والتحررُ يعني أن نقبل أننا نستطيعُ الاستمرار في العمل من دون اختراع بعضٍ من أدواته، وهذا شأنٌ في ذات الأهمية. يتيح لنا عبورُ الأجيال أن نأخذ قصصًا من التاريخ ونُعيد روايتَها بصفتها مقدمةً أساسيةً لقصصنا الخاصة والحاضرة. وها هي درّية شفيق مثالٌ واضحٌ عن كيف تصبحُ الرائداتُ وحيواتُهن تاريخَنا الخاص أيضًا. إنَّ التهميش والقمع اللذين تعرّضت لهما في الماضي يلهماننا جميعًا ولكنهما يؤكد ان على أنَّ عداء الدولة الأبوية للنسويات ليس مستجدًا أو طارئًا على نوعِ حُكمٍ سياسي محددٍ. والتفاوضُ الذي يجري على حقٍ هنا أو هناك، قد يُصبحُ منعًا للسفر وإقامةً جبريةً حين تُعاوِدُ النسوياتُ طرح الأسئلة التي اعتقدت الدولةُ الأبويةُ أنها ماتت مع موت درّية شفيق كمثالٍ من مصر.

في استعمال المشاعر لا الارتكاز عليها

ما الذي يعنيه أن نكون استراتيجيات؟ سؤالٌ يرتبطُ حصرًا بكيف نعملُ، وكيف ننظِّمُ، ولماذا نقومُ بكلّ هذا. تقول أودري لورد: "كلّ امرأةٍ لديها مخزونٌ من الغضب يشكّلُ ترسانةً يمكن استخدامها ضدَّ الاضطهاد سواء كان شخصيًا أو مُمَأسسًا. وما سمحَ لهذا الغضب أن يكون، يُمكنُ أن يُصبح مخزنًا من الطاقة يخدمُ التقدم والتغيير، إذا تمَّ تركيزُه بدقة. وحين أتكلمُ عن التغيير، لا أعني تبديلاً بسيطًا في المواقف أو في تبديدٍ آنيّ للتوتر، أو في القدرة على الابتسام، وأن نشعر بأنَّ كلّ شيءٍ على ما يرام؛ بل أتكلمُ عن التحويل الجذري والمبدئي لكلِّ هذه الافتراضات التي تقود حياتنا"، تقول ذلك في كلمة ألقتها عن استعمال الغضب الكامن في النساء كأحد السُبل لمواجهة العنصرية4.

إذًا استخدام الغضبِ قد يكونُ في تحويلهِ، أي استعمالهِ. ومن الضروري إذًا أن نُلقي الضوء على عملية التحول التي ترمزُ إليها لورد، والتي تحوِّلُ المادة الخام إلى مادةٍ ذات منفعةٍ، وإلى ضرورة الارتكاز على "استعمال المشاعر" وليس على المشاعر نفسها. عمليةُ التحوّل تتطلبُ أن نعرف الكثيرَ عن أنفسنا، ولكن أيضًا أن نعرف ما يمكنُ أن يتحوّل فينا من حالةٍ إلى حالةٍ أخرى، من التشرذُم إلى التنظيم، من القطيعة إلى الوصال؛ من استمرار تعاملنا مع التوترات ضمن الحركة كَرَمْلٍ متحرّكٍ إلى تعاملنا معها كوقودٍ يمكن استعماله لخدمة رؤانا وأهدافنا.

التنظيم السياسي هو الشكل الأساسي، غير الكتابة، في استعمال مشاعري

أفترضُ أنَّ استعمال المشاعر يتطلبُ أن نحوِّلَها إلى مادةٍ أو أداةٍ أو أيّ شكلٍ يُسهِّلُ لنا التعبير. وشخصيًا أعتبرُ أنَّ التنظيم السياسي هو الشكل الأساسي، غير الكتابة، في استعمال مشاعري. فحين أفحصُ طُرق التنظيم التي اختبرتُها في السنوات العشر الأخيرة، أفهمُ أنني استعملتُ مشاعر الغربة وما معها من تغريبٍ يومي، والتي ترتبطُ بفلسطينيتي، في المساهمة في إيجاد حركاتٍ يمكنُ أن تُشكّلَ لي بيتًا مؤقتًا وحلاً مؤقتًا للمنفى الذي أعيشُ فيه. لكنَّ التنظيم وسط حركةٍ تشغلُها نسوياتٌ لا يشغلُهنَّ هذا السؤالُ ساهم في اغترابٍ أكبر عندي ضمن الحركة نفسها؛ مع هذا، فقد فتح لي هذا الاحتكاكُ فرصةً كي أفهم وأتعلم عن الحدودِ التي تتواجدُ بيننا كنسوياتٍ وكنساءٍ، وكيف نعبُرها أو نصطدمُ بها. أفكرُ كثيرًا في مصطلحات حكمَت شكل الكثير من التنظيم، وعلينا أن نتساءل لماذا نستهلُكها ولا نعبرُها.

بناءُ الجسور كشرط أساسي لوجود حركة

إنَّ استخدام الجسر، كممارسةٍ سياسيةٍ – رمزيةٍ، هو أحدُ أساسيات العمل الاستراتيجي. وبناءُ الجسر واستعماله عمليتان أساسيتان في بناء الحركة. كما أن بناءه ضروريٌ على مستوى الخطاب الذي يتحوّلُ تدريجيًا من خطاب يقوم على موقفٍ أحاديٍ للإشكاليات الأبوية، وتحويله إلى خطابٍ (جسر) قادرٍ على أن ينظُرَ إلى الإشكاليات الأبوية وكيف تؤثرُ علينا في مختلف مواقعنا المتفرّدة والتسليم بأنَّ تلك المواقع أحيانًا متفرّدةٌ، أي لا يمكنُ أن نتشاركها مع أخريات، وليس بالضرورة أن تجرّبها أيٌ منّا لتعلمَ تأثيرها على الأخرى، وفي محاولةِ تجربتِها إشكاليةٌ كبيرة. في هذا السياق مثلاً، ليس بالضرورة على اللبنانيات أن تتشاركن نفس المنظور للإشكاليّات الأبوية المُعاشَةِ في لبنان مع المهاجراتِ أو الفلسطينياتِ والسوريات، بل يمكنُ لهنّ التشاركُ في الاستراتيجيات المشتركة في التعامل مع الإشكالية الأبوية من المواقع المختلفة، والعمل على فتح فضاءاتٍ مشتركةٍ يصبحُ فيها الجسرُ ممارسةً فعلية. وأيُّ خللٍ يطرأُ على الفضاءات المشتركة يبقى بعيدًا عن الفضاءات المتفردة الخاصة، ويصبحُ ممكنًا أن نفهم دون حرجٍ ضرورة تركِ مسافةٍ بين المتفرّد والمشترك، وذلك تلافيًا لإحداث العطب. كما يرافقُ الجسر وعبوره عمليةُ تعلّمٍ ولا-تعلّمٍ تصبُّ في مصلحتنا كأفرادٍ نعبُرُ من وإلى فضاءاتٍ متعددة الأبعاد والديناميكيّات، ونستفيدُ منها أكثر حين نكونُ قصديّات/ين في استعمال الجسر كطريقةٍ للتنظيم والتعاون، لا كمكانٍ للإقامة، وهذا ما يقتلُنا ويقتلُ تنظيمنا؛ حين نستوطنُ الجسور ونمنعُ اللواتي يودّينَ أن يرجعنَ إلى مواقعهنّ الأساسية من القيام بذلك بسلاسة.

بناءَ الجسور، وشرط عبورها، لا يحرّرُنا فقط، بل يجعلُ حركاتنا أكثر عدالةً وهو المطلوب

وأعلمُ أنني مللتُ الإقامة على الجسر عندما وصلَتْهُ نسوياتٌ فلسطينياتٌ مثلي ومعهُن ظهرت كل تلك المشاعر نتيجة الغربة التي ما زلتُ أشعرُ بها، وأصبحَ لها صدى يُعيدُ تلك الأسئلة التي كنتُ أطرحُها على نفسي والتي لم يكُنْ لها مكانٌ على الجسر لأنَّ عملية بنائه لم تسمحْ بوجود أسئلةٍ لا تتمحورُ حول لُبنانيتِه. لكنني اليوم أشعرُ أنَّ الجسور التي بُنِيَتْ تسمحُ لي بعبور الجسر إلى أسئلتي الخاصة والسياسية التي تتعلقُ بالعيش في الشَتات والمنفى والتعامل مع العنف الذي اشتبِكُ معه بشكلٍ يومي دون الأُخريات اللبنانيات، وهو يخصُّني كنسويةٍ فلسطينيةٍ تعيشُ في بلدٍ يمارسُ قمعًا وعنفًا مُمنهجًا ضدَّ كل الفلسطينيين. هذه الأسئلة قادتني إلى اكتشاف أننا نقيمُ على الجسر، وأنا أريدُ أن أعبرَهُ من خلال التمسك بالأسئلة التي تعنيني على المستوى الفلسطيني والنسوي، وأن أحافظَ على تمسكي بالسؤالين مع بعضهما البعض؛ وأن أخسرَ عمدًا الكثيرَ من المساحاتِ التي أتواجدُ فيها والتي عليها أن تفكّر وتستنتج لماذا ترحلُ عنها غيرُ اللبنانيات وكيف تُعيدُ اكتشاف ذاتها من دون الآخر، وأن أكسب مساحاتٍ جديدة مع فلسطينياتٍ يعشنَ غربةً أفهمُها وأعرفُها ثم نبني جسورًا بين بعضنا البعض ومع كل الفضاءات التي بُنيتْ ونجَتْ إلى اليوم.

إنَّ بناءَ الجسور، وشرط عبورها، لا يحرّرُنا فقط، بل يجعلُ حركاتنا أكثر عدالةً وهو المطلوب. كم أريدُ أن أرى الشغف والتضحية والاستعداد الذي تبذلُه غيرُ اللبنانيات في دعم الأسئلة النسوية اللبنانية، موجودًا لدى اللبنانيات مع أسئلةٍ وحراكاتٍ غير لبنانية من دون أن يصبح ذلك نزاعًا إضافيًا في حيواتنا.

التحرر من مركزية الحركة

من تجربة السنوات العشر الأخيرة في بيروت، كانت المدينةُ الفضاء الوحيد الذي يمكنُ أن يحصلَ فيه تنظيمٌ نسوي؛ وبذلك أعني نشوءَ جماعاتٍ تهدُف إلى تنظيم نفسها وإيجاد حيِّزٍ لها وممارسة العمل السياسي المباشر وإنتاج خطابٍ مختلفٍ عن المؤسسات غير الحكومية، يشتبِكُ مع المفاهيم والممارسات والخطابات الأبوية بشكلٍ مباشرٍ، ودون التعرّض للابتزاز الذي تتعرضُ له المؤسسات غير الحكومية من فرض هيكلة قانونية واحدة للعمل أو التعامل مع التمويل والموارد والعمل مع المجتمع أو المفاوضات التي تُجبر عليها تلك المؤسسات وكيف يؤثر ذلك على عملها.

وتسمح المدن المركزية بنشوء هذه الفضاءات وتطوّر الممارسات النسوية وأشكال اعتراضها بسهولة أكثر من القرى والمناطق التي لاتزالُ تُمارَس فيها أنواعٌ حادةٌ من الرقابة المجتمعية والعائلية، وبالتالي الذاتية أيضًا، نتيجةً للاحتكاك مع الرقابة وتضمنها في الذات النسوية. لذلك تضطرُ الواحدةُ منّا مرارًا للهرب إلى المدن وأحياء المدن حيث تغيبُ أو تخفُّ الرقابة، فنسكنُها ونستوطنُ فيها ونستحدث فقاعاتنا النسوية التي تساعدُنا على التمرّن على ممارستنا النسوية التي تحررنا مما تربينا عليه، فتصبحُ فقاعتُنا كثيفةَ الساكنات وكثيرةَ التوترات، لأنَّ الفضاءَ يضيقُ على ساكناتِه بكل قصصهنّ وحيواتهن وتجاربهن ومشاعرهن. إذًا تصبحُ المدينة شرطًا للممارسة النسوية، وتضطرّ الواحدةُ أن تنسلِخَ تمامًا عن بيئتها وتهجُر حياةً كاملةً بحثًا عن الحق في أن تتحرّر من وِزْرِ كلِّ هذا. ومع الزمن، ومن دون استراتيجية، نخسرُ كلّ أصوات الاعتراض في الفضاءات غير المركزية، والأهمُ أننا نخسرُ كلَّ الاحتمالات التي كان هذا الاعتراضُ سيولدُها. تُنْهِكُ المدينةُ النسويات والفقاعات النسوية بسرعة، لأنَّ العيش في المدينة لا يكون بالمجّان، فننهمكُ بسبُلِ العيشِ. لكنَّ الحرية في أن نمارسَ نسويتنا لا ثمنَ لها، فنرضى بحالةٍ من الذاتية غيرِ الصحية في فقاعاتنا النسوية لأنَّ لا جسورَ تمتدُ منها وإليها، فلا يدخلُ بعضٌ من الهواء المنعش.

الانخراطُ في تجربة "روتس لاب" ومرافقةُ مجموعاتٍ من "الهامش" في التفكير والعمل على إنشاء مبادرات وأنشطة نسوية قابلة للعيش والممارسة في مناطقهنّ وقُراهنّ يؤكدُ على ضرورة الاستثمار خارج المركزية، وإلغاءِ شرط الممارسة النسوية في الفضاءات والمساحات المركزية. التوقُ إلى الهامش والذهابُ إليه يعيدُ إلى التنظيم النسوي قدرته على الاستمرار والتبصُّر. العملُ خارج المركزية يسمحُ لنا بتجربةِ أدواتنا ومعارفنا وقدرتنا على مشاركة المعرفة، ومعها القدرة على إعادة التفكير والتوصّل إلى استنتاجاتٍ عن ذاتنا النسوية، ربما لم نكن لنعرفها من قبل. على سبيل المثال، فُتِحت منذُ عام 2007 فضاءاتٌ وممارساتٌ في بيروت استطاعت أن تؤسّسَ لتطورٍ في الحالة النسوية. وبرغمِ كلِّ العراقيل والتحديات، تمكنت هذه الفضاءاتُ أن تُحدِثَ تيارًا مستقلاً عن ارتباط السؤال النسوي والنسائي بالحركات الوطنية الأبوية، يسارًا أو يمينًا، أو القوى الطائفية، وقد كان ذلك ممكنًا من خلال تحويل ما هو هامشيٌ إلى ما هو مركزي. فمثلا، إنَّ التنظيم النسوي الذي بدأ عام 2007 تمحور حول إعادة وصل الجنسانية والجنس والسؤال النسوي بما هو سياسيٌ، أي السؤال الذي لم يكن له مكانٌ ضمن الحالة النسوية التقليدية الذي تنفُرُ منه القوى التقليدية الوطنية الأبوية بطبيعةِ الحال لأنه يُشكِّكُ في هيكليتِها ويكشف الثغرات الحادة في خطابها ويجبرُها على أن تُعيدَ النظر في روايتها للتاريخ.

عن تسمية العنف كممارسة سياسية والتعافي منه كشرط للبناء

ما كان يُعَدُّ ضربًا من الجنون في أن تُعرِّفي عن نفسك بأنك نسويةٌ منذُ عشر سنين، لم يعُدْ يأتي بردّاتِ الفعل الحادة والعنيفة ذاتها. ويبدو لي أنَّ هناك حالةً نسويةً في لبنان تعملُ على مستوياتٍ متعددةٍ، ويتضح لي الآن اثنتان منها؛ تلك التي بدأت منذ عشر سنواتٍ وأكثر بقليل، وتلك التي ظهرت وتوسعت فيما بعد. وبرغمِ وضوح التيارين بالنسبة لي، جميعُنا نتكتّلُ بالنسبة إلى الآخر غير النسوي في كتلة نسوية واحدة، ألمحُ حدودها عادةً بالنسبة إلى الآخر غير النسوي (في الغالب الأبوي الجوهر) عندما أسألُ بطريقة اتّهامية عمَّ فعلته النسويّةُ للنساء الفقيرات، وما قدمته النسويةُ للنساء اللواتي يعانين من العنف والتهميش. هذه طبعًا اتهاماتٌ وتعميماتٌ على شاكلةِ أسئلةٍ تقومُ على افتراضاتٍ خبيثة ومنها؛ أنَّ النسوية أولاً بناءٌ موجودٌ له موارد ونفوذ ويتحكمُ بحيوات النساء وبذلك تُحاسب النسويات على أمرٍ مُتخيَّلٍ تمامًا. أو تأكيد على قذارة هذا النظام النسوي الذي لا يلتفتُ إلى النساء الفقيرات بل يضعُ كلَّ اللوم على الرجولية والرجال بصفتهم أفرادًا لا يجمع بينهم أي شيء، مع الاستمرار في نفي الأبوية كبناءٍ موجودٍ وحقيقي ويستفاد منه.

تلكَ الافتراضاتُ تُعزّز مقولة أنَّ النساء لا يحببن النساء، ولذلك تعيش النساءُ حيواتٍ صعبة. طبعًا، تعلمنا أنا وسواي درس تجنّب النقاشات هذه لأنها عديمةُ المنطق وتكشفُ الجهلَ بأبسط الأمور مثل النظر إلى القوانين التي تحكمُ النساء ومَن وضعَها ومَن يستميتُ ليحافظ عليها. وطبعًا تأتي أحيانًا إجاباتٌ تفيدُ بحقيقةِ أنَّ غالبية القوانين التي تؤثرُ على النساء استعماريةٌ، كتبرير لبعض الناشطين ودليل يقدمونه على براءة الأبوية. وقد تكونُ القوانين استعمارية بالفعل، لكنَّ الاستماتة في الدفاع عنها من المشرّعين، وبالتوازي تجاهلَ تغييرها واعتبارها ثانويةً من الحلفاء الناشطين، تصُّبُ في المحافظة عليها، فهل ينفعُ أن نلومَ وجودها على الاستعمار فقط؟

ثم يعادُ تقسيمُنا من بعد أن نُجمَعَ في كتلةٍ واحدةٍ كتكتيكٍ أبوي، ويُفضي هذا إلى أمرين، وهنا أتكلمُ عن الافتراضات المسقطة علينا، ولا أتكلمُ عن فاعليّتنا الذاتية في تنظيم أنفسنا. الأولُ طمسُ اختلافاتنا وإخفاؤها، وهي الجوهرُ في ممارستنا، وبالتالي تنبعُ التوتّرات لأنها تلغي الاختلاف وليس لأننا مختلفات. والثاني وضعُنا في بناءٍ يقومُ على قمع بعضنا البعض لأنّ تركيب هذه الكتلة هرميٌ أبوي، أي التمثيلُ الجيد للكتلة والتمثيلُ السيء؛ فإذا رضيتِ التواجد فيها تعيدين إنتاج هرميتها وأدواتها الأبوية، وإن لم ترضِ فأنتِ أيضًا خارجها، وبالتالي هي تُبنى على غيابِك، إن جازَ التعبير.

طبعًا لا أعني بهذا أنَّ الحالة النسوية وليدةُ التكتيكات الأبوية، بل أفترضُ أنَّ جزءًا كبيرًا من التوترات الداخلية أبويُّ الصنع. والكثيرُ من المفاوضات التي تحدث داخليًا بسبب هذه التوترات هي ما ينهكُنا. ليس بالسهل بالنسبة لي أن أسمع أو أرى نسويةً لا تريدُ أن تعترفَ بأنَّ عاملاتِ المنازل المهاجرات في بيروت لسن عاملاتٍ، أو أرى مجموعةً نسويةً لا ترحبُ بعابراتِ الجنس وسطَ فضاءاتها، أو أخرى تُمجّد المؤسسة العسكرية، أو لا تعمل على أن تكون فضاءاتها آمنة لغير اللبنانيات. وليس بالسهل أن أتفاوضَ على هذه الاختلافات، لأنها في أوقاتٍ شتى لا تعودُ مجرّدَ اختلافاتٍ، بل تصبحُ النقيض. مثالٌ على ذلك وجودُ تنظيمٍ لعاملات المنازل في مواجهة نسوياتٍ لا تعترفْن بالعمل المنزلي، أو عابراتُ الجنس في مواجهة نسويات مُحافظات، أي أن تكونَ النساءُ في مواجهة النساء. والأبويةُ كبناءٍ يفيضُ بالأمثلة التي تقولُ بأنه بناءٌ يتعايشُ مع النقيض بشرطِ ألا يمُسَّ بجوهرِ بنائه وهو ينقل إلى الكتلة تلك الافتراضات والتوقعات نفسها. وفي هذا الصدد تبقى الأسئلةُ المُلحّةُ في بيروت مرتبطةً بما يمكنُ فِعلُه بشكلٍ استراتيجي لمواجهة ما تقومُ به الدولةُ من إنشاء مؤسسات رسمية وتفعيلها والقول أيضًا أنها نسويةٌ وتعملُ على مشاريع وأنشطة وكأنها جزءٌ من "المجتمع المدني" والحراك النسوي، وما أثر ذلك على الخطاب النسوي والفضاءات النسوية الجذرية التوجّه؟

كلُّ هذا جزءٌ من العنف الذي تتعاملُ معه النسويات، ولكن أيضًا هناك العنفُ الذي يحدث داخل حركاتنا وبشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر. غير أنَّ فصاحتنا في تحديده وقدرتنا على مواجهته تخذلُنا، لأنَّ العنف الداخلي شديدُ التركّيب والتعاملُ معه يتعقدُ مع مرور الزمن، ولا يؤدي في الغالب الى إيقاف استمرار الحراك النسوي، ولكنه بالتأكيد يجعلُه غيرَ فعالٍ وأيضًا حراكًا سامًا، بمعنى أنه يقومُ ويتحركُ بناءً على مشاعر وممارسات مؤذية. طبعًا، ليس كلُّ توترٍ داخلي عنفًا وليس كل اختلافٍ احتمالاً لتوليد العنف؛ ولكنَّ الاختلافات التي لا تُناقَش والافكارُ والممارساتُ التي لا يمكنُ المساءلةُ فيها، أو الحديث عنها، أو وضعُها على طاولة الحراك كأمرٍ موجودٍ، هي بالتأكيد احتمالٌ لتوليد العنف في أي لحظة. وطبعًا يمكنُ التفكيرُ في عبور الأجيال والمركزية كإحدى النقاط التي لديها احتمالٌ في أن تولِّدَ عنفًا داخليًا. أفكرُ أنَّه من السهل أن تستمر الحراكاتُ التي لا تُعطي أهميةً وأولويةً للعنف الذي يحدث كذلك ضمنَ الحراكات النسوية، ولكنه يجعلُ أي بناءٍ فيها غيرَ قابلٍ للتحقيق.

في أن نكون استراتيجيات

كلُّ ما تعرَّضَت له النسويات في السنوات العشر الأخيرة على الأقل في بيروت، من هجومٍ حادٍ على المصطلح نفسه والنجاح في كسر الوصمة التي لاحقت النساء اللواتي عرَّفْنَ عن أنفسهن بأنهنَّ نسويات، شهد انخفاضًا كبيرًا. وعادةً ما يضطر الأفراد الذين لا يزالون يروّجون لخطاب كراهيةٍ يستهدفُ النسويات إلى الاعتراف بأنَّ كراهيتهم تأتي من تخوّفٍ عظيم من أن يفقدوا هويتهم الذاتية والتي تقومُ على أسوأ درجةٍ من رجولية الأبوية السامة5 التي تلوِّثُ أيّ بناءٍ تحرري، ومعه أيّ تنظيمٍ مشترك. وحيال عدم مساومة النسويات على المصطلح والخطاب وقتها، أُجْبِرَ أن يتلاقى أعداءٌ في السياسة والايدلوجيا على العداء والكراهية للنساء (ومعهنَّ الأفرادُ غير النمطيين والمثليين والمثليّات. مثلاً، حين يتلاقى بعضٌ من الشيوعيين واليساريين مع المحافظين والدينيين على كراهية النساء، ولكن باستخدام خطاب كراهيةٍ للنسويات، وأقول هذا ليكون واضحًا أن الرجولية السامة كما الأبوية أيضًا ممارسات وافتراضات وسلطة عابرة للأيدولوجيا.

الرجولية السامة كما الأبوية أيضًا ممارسات وافتراضات وسلطة عابرة للأيدولوجيا

أن نكونَ استراتيجيات، هو أن نعلمَ إلى أين نريدُ الذهاب وكيف سنصلُ هناك، وربما قد لا نصلُ بالطرق أو الأدوات التي نريدُ لأن لها سيرورةً أيضًا، ولكنّ الكثير من قيمنا لن تتغير، والطريقُ يتشعبُ وقد نفترقُ وقد نلتقي، وقد نجدُ أنفسنا أحيانًا كثيرة في ممراتٍ غير نافذةٍ، فنعودُ أدراجنا خائباتٍ ومنهكاتٍ. ربما لا نستطيعُ أن نتحكم في خيبات الأمل، وقد يكونُ الحلّ في تعلم التعافي منها، ولكن يمكنُ أن نتعلم ألا تنهكَنا الطرقاتُ التي نجدُ أنفسنا عليها وفي احتمالاتِها الكثيرة في أن تكون بنهاية المطاف غير نافذةٍ إلى طريقٍ آخر، أو إلى طريق يفُضي إلى مزيدٍ من الحرية والتحرر.

كنتُ، ولوقتٍ طويلٍ، أعتقدُ أنَّ الإنهاك ذاتيٌ محضٌ، ولا أقصدُ بذلك أنَّ العيش ضمن البناء الأبوي غيرُ منهكٍ، لكنني أُلقي الضوء على الإنهاك المتعلق بالانتماء والاحتكاك بالحركة أو الحالة نفسها، تحديدًا ما يأتي من جرّاء التوترات والمعارك الداخلية التي تحصلُ ضمن الجماعات النسوية أو الحالات النسوية الأكبر والتي ترتبطُ أو تتمحورُ حول اختياراتٍ ومواقفٍ واعتباراتٍ سياسية. غير أنَّ هناك عوامل أخرى شديدة الأهمية ويمكنُ معالجتُها، أن نوفّر طاقتنا ومواردنا وذاتنا لمتابعة السير في الطريق النسوي الشائك، ولا يمكنُ لهذا الطريق إلا أن يكونَ شائكًا.

يُهمّني وأنا أكتبُ أن أكونَ واضحةً في أنَّ كلَّ هذا السرد نابعٌ من حالةٍ ذاتيةٍ وفي الوقت نفسه من احتكاكٍ، على مستوى ليس فقط التنظيم النسوي مع البناء الأبوي في كلّ مظاهرِه السياسية، بل أيضًا على مستوى شخصي – علائقي. وفي هذا التوضيح أعلمُ أنَّ حدود الذات وجماعية الحالة النسوية تتداخلان، وفي هذا التداخل أتفاوضُ ما بين التجربة الذاتية والسرديات الجماعية حيثُ تقعُ وتسقُطُ الكثير من الوقائع المهمة لتاريخ الأفراد. وللبعض يكونُ ذلك ظلمًا، وللبعض الآخر يكونُ ذلك فرصةً للتهرّب من المسؤوليات في الممارسة أو الأداء السياسي. وهنا يكمنُ الثقبُ الأسودُ الذي حين نقعُ فيه، لا يمكنُ الخروجُ منه بسهولةٍ أبدًا. ولكن، إن حصلَ هذا التفاوضُ ضمن حالةٍ نسويةٍ تقومُ على قبولِ المواقف المختلفة، وبالتالي الطرق المختلفة التي تأخذُها النسوياتُ والنساءُ في سبيل الحرية والمساواة، قد يتحولُ الثقبُ الأسودُ إلى تجربةٍ يمكنُ التعافي منها، وهو ما أعتقدُ أنه الفعلُ الأكثر راديكاليةً والذي يمكنُ أن تستكينَ إليه الحركةُ أو الحالةُ النسويةُ وهي تستبصرُ داخليًا، أي حين يصبحُ التفكيرُ في الحالة النسوية بشكلٍ جماعيٍ سؤالاً ذاتيًا وشخصيًا عند الأفراد والجماعات النسوية. مثلاً، كيف يؤثّرُ ما أقومُ به على الأخريات؟

وفي الإجابةِ على هذا السؤالِ نُفكّرُ بمن نحن وكيف يؤثّرُ عملنا على بعضنا البعض وعلى نساءٍ أُخريات، ونفكرُ أيضًا بأنَّ هذه الاختلافات ستؤدي إلى أن تمشي الكثيراتُ في الطرق نفسها وأن نفترق في نهاية المطاف.

وقد يكونُ جميلاً إذا حلمنا بأنَّ الطرقات النسوية التي نمشي فيها لا تتنزّهُ فيها القيمُ الأبويةُ من منافسةٍ أو إقصاءٍ أو عنصريةٍ أو طبقية، بل هي طرقاتٌ مختلفةٌ نمشي إلى آخرها إذا ما استطعنا إليها سبيلاً.

  • 1. من المهم مراجعةُ قراءة سارة أحمد، وقاتلات البهجة، في إحدى منشورات مجموعة اختيار
  • 2. Audre Lorde. “Age, Race, Class, and Sex: Women Redefining Difference." Sister Outsider Crossing Berkley Press. 1984
  • 3. يمكنُ التفكير بسؤال "لماذا؟" بناءً على السؤال الأوسع الذي يتكررُ في مادة لورد، وأيضًا يمكنُ التعاملُ معه، كالسؤال الأساسي الذي نسألُه عندما نريدُ أن نفهم الأبوية من خلال الشك في تنظيمها لحيوات النساء.
  • 4. Women's Studies Quarterly, Vol. 25, No. 1/2, Looking Back, Moving Forward: 25
  • 5. الأداء الاجتماعي للرجال الذي يقوم على التنافس والعنف وكراهية كل ما هو غير ذكر جنسيًا واجتماعيًا.