كيف حرّك الرقص نشوتي الجندرية؟

أن أحظى بالكثير من الوقت والسكينة، لساعاتٍ وأحيانًا أيام، وأن تُتاح لي الفرصةُ كي أنظرَ إلى جسدي العاري بعين القبول في كل مرةٍ أخلعُ فيها ملابسي، وأن تكون كلُّ ذرّةٍ فيه على يقين أنَّه ولأوّل مرةٍ منذُ ولادتهِ ليس مراقبًا. طمأنينةُ أنّ بإمكاني التدقيق في تفاصيله، الشعور بما يلائمُ داخلي وما ينفّرني، التفكير بكلّ ما فُرض عليّ من قِبَلِ آخرين لم يعيشوا فيه ثانيةً واحدة، ولكن لسببٍ ما اعتقدوا أنّهم يعرفون ما يناسبه. لم يخطر لي على مرِّ السنوات التي قضيتُها في الوطن الذي كان من المفروضِ أن يشكّل مساحةَ الأمان لجسدي، بأنني سأعيشُ يومًا ما هذه اللحظات وسيمنحني القدر فرصةً ثانيةً كي أعيد النظر لهذا الجسد الذي يختلفُ بعض الشيء عمّا يستقرُّ تحته. 

في بلدٍ غريب، بدأت علاقتي بجسدي، علاقةٌ لم أكن أعي بوجودها، أضحت في حالة تطورٍ مستمر.

في وطنٍ محتلٍّ من كيانٍ غاصب ومجتمعٍ أبويٍّ تقليدي ينهشه الانهيارُ الاقتصادي والاجتماعي والإنساني، لم أكن أملكُ رفاهية الوقت للتفكير بأيّة قضايا غير تلك التي تشغلُ العموم. حتى قضاياي الشخصية لم يكن مسموحًا لي بأن تعنيني: كيف أكون أنانيةً لدرجة أن أنشغل عن معاناة شعبي بالتفكير بذاتي؟ وجدتُ نفسي وقد اعتدتُ تأدية طقوسٍ معينة وتطبيع الكثير من الأنماط الحياتية حتى اعتقدت أنها أصبحت جزءًا من هوُيتي. فلم أعلم حينها أن قدري كان يعدني سرًا بواقعٍ آخر خارج حدود الجدار الذي أحاطني به الاحتلال ومجتمعي، ينتظرني بأهله من أمثالي، توّاقين/ات لمصارحتي بما قد تكون عليه حقيقتي التي حاول سجّاني طمسها، بأنّي لست ولن أكون ما تفرضه عليّ معايير القبيلة التي وُلدتُّ في كنفها.

"لا أرقص" لطالما كان ردّيَ المعتاد على طلب الآخرين/يات مني الانضمام لساحة الرقص في المناسبات الاجتماعية التي تزينها موسيقى البوب العربية الكفيلة بتحريك أيّ جسد، إلا جسدي. كان أمرًا مُستغربًا من قبل الكثيرين/ات، إلا أنّ إصراري على هذا الرد وتكراري له جعل منه جزءًا من شخصيتي، خاصةً بفضل الوشاح الديني الذي ارتديته كمبررٍ يغطّي الكثير من سلوكياتي. لن أنكر أبدًا فضل هذا الوشاح في حمايتي من الكثير من الانتقادات لامتناعي عن ممارسة الطقوس الأنثوية وذلك بحجة معارضتها لمعتقداتي الدينية، فلم أتقبّل يومًا التبرج أو ارتداء الملابس التي تبرز تفاصيل جسدي أو ارتداء الكعب العالي في المناسبات الاجتماعية التي تقتضي التزيّن من النساء. بعبارةٍ أخرى، كنت أستخدمه لأخفي حقيقة أني أشعر بوجود ذكرٍ تحت جلد الأنثى الذي يغطّي جسمي. 

لم أكن أعلم بعد مرور كل هذه السنوات وأنا متمسكةٌ بمبدأ عدم الرقص، أنني سوف أجلس ذات يوم أمام شاشة حاسوبي، لأكتبَ عن شوقي للرقص على أنغام أغاني البوب العربية الهابطة في نوادي برلين المكتظة بروائح الدخان والعرق، المزدحمة بأناسٍ من مختلف الجنسيات العربية والميول الجنسية، حيث نتمايلُ بشبقٍ كموجةٍ بشريةٍ ملتحمة، تتحركُ في ذات الوقت على الإيقاعات الشرقية الدلّوعة التي تثيرُ في حواسنا مشاعرَ الشوق لتلك الأجواء الحميمية التي تميزُ ساحات الاحتفال في بلداننا، ونوعًا من الفخر لقدرتنا على إعادة خلق هذه الأجواء في وسط عاصمة أوروبية مع حبّةِ مسكٍ تكمُنُ في تلك النظرة التي تشاركتُها مطوَّلاً مع الكثير من الغرباء. وكأنّنا أخيرًا وجدنا المكان الذي نستطيعُ فيه أن نكون على طبيعتنا، "المختلّة" و "الشاذّة"، المرِحة اللّعوبة التي لطالما دغدغت خيالنا وحرَّكتنا نحو الفرار من واقع مكبوت بحثًا عن عالم يُتيحُ لنا خلق واقعٍ جديدٍ لا يقبلُنا باختلافنا فحسب، بل يحتفلُ به ويمدَّنا بالطاقة للرّقص على ذكرى الماضي الذي كان مشحونًا بالرفض. ماضٍ قيّدنا جسدًا وروحًا وإرادة، وخلق ذُعرًا داخليًا من كلِّ ما يعترينا من شغفٍ للحياة، ماضٍ أصبح بيدنا تحويلَهُ إلى طاقةٍ للتقبّل والمرح والتعبير الحرِّ عمّا يدورُ في دواخلنا من جمال. 

لم أكن أرقص، لأنَّ واقعي المجبول بالقيود الدينية والتقليدية جعل مستوى إدراكي لذاتي ينحدر إلى حدِّ الخوف الدائم من إحداث أيِّ اضطرابٍ في بيئتي التقليدية، التي لم تعلّمني المعنى الحقيقي للرقص، والتي لم يكن يعلم جلَّ من فيها أن الرقص لم يُخلق إلا كي يكون أداةً للتعبير عما يعترينا من مشاعر، هو لغة الجسد الذي يعجز أحيانًا عن البوح بما يدور بين ثناياه من رغبات وأحلام. لحُسن حظّي منحني القدر فرصةً ثانية للتعرّف على دور الرقص في تشكيل ذواتنا الحقيقية والكشف عن مكنوناتها دون كلام، في ذات الليلة التي مارست فيها الرقص كما نقول في لهجتنا العامية "على أصوله" في عمر الثلاثين، اكتشف جسدي لغته الأمثل لمحاورة الأجساد الأخرى ومحيطه. 

لم أكن أرقص في وطني لكوني أنثى عَجِزَت عن اتبّاع معايير الأنوثة، بحركاتي الخشنة، عدم اهتمامي بنضارة بشرتي وعجزي عن تأدية أنوثةٍ فُصِّلت منذُ ولادتي وفقًا لأعضائي التناسلية، أنوثةٌ لم تمثّلني مذ تفتّحَ وعيي على هذا العالم. لم أرقص آنذاك لأن مجتمعي فرض قواعد للرقص تُسهم في تحديد الدور الجندري الذي كان عليَّ تأديته، حتى لو كانت السلوكيات المرتبطة به والمحددة مسبقًا لا تتوافق مع حقيقتي الداخلية.

عندما دخلتُ لأولِّ مرّةٍ إلى النادي الليلي الذي كانت تصدحُ فيه أجواء الاحتفال العربية، كنتُ قد بدأتُ أشعرُ بالغيرة من جموع الغرباء الذين كانوا يرقصون بحريةٍ وثقة، أجسادٌ ملأت المكان بطاقتها العفوية الساحرة، طاقةٌ كنت أخشى انعدامها لديّ، لعدم ممارستي الرقص من قبل أو حتى معرفتي لماهيّته. وقد كنت على يقين للوهلة الأولى بين تلك الأجساد الجميلة بأنني سأقضي الأمسية كشاهدٍ فقط لأنَّ عقلي في تلك اللحظة كان ما زال رهين الفكرة التي حدَّدت سلوكي في ساحات الاحتفال: "لن أرقص" هنا أيضًا. إلا أنني تذكرت بعد دقائق حضور جمعٍ من أصدقائي الجدد الذين كنت أشعرُ بينهم بالأمان فيما يتعلق بهويتي الكويرية، أصدقاءٌ من المجتمع الكويريّ العربي مكّنوني منذُ لقاءاتنا الأولى من أن أشعر بالانتماء لقبيلةٍ بشريةٍ من المختلفين مثلي، المرفوضين أيضًا مثلي. 

لحظةُ الثورة على القوالب التي صُمّمت لمحاصرة جسدي كانت لحظة الولادة الثانية

 

إذًا كلُّ مسبِّباتِ الأمان كانت متاحةً لي كي أكسرَ القيد الذي كبّلني حتى أنطلقَ وأرقص، إلا أنّني، وفي الدقائق العشرة الأولى لم أنجح بذلك. كنت قد اعتدت التقوقع والانكماش، لا الانطلاق بعفويةٍ متمايلةٍ تتسرب من كل مسامي. حتى حانت اللحظة التي لطالما انتظرتُها، لحظة وداعي لقيود العار من جسدي، والخوف من نظرات المحيطين بي. لحظة تحرُّري التي لن أنساها أبدًا، حيث بدأت أردافي ويدايَ بالتمايل والاهتزاز التدريجيِّ حتى النشوة. أكتافٌ ملاصقة، أيدٍ متشابكة، وأبدانٌ هلاميّةٌ زوّدتني بالشعور اللذيذ بأنّني جزءٌ من كل، بأنّ جسدي في تلك اللحظة كان عضوًا ينضُجُ بينَ طيّات كيانٍ ما زالَ يتلمَّسُ طريقَهُ نحو النموِّ الكامل، جسدُ المجتمع الكويريِّ العربيِّ المغترب المشتاق لحضنٍ دافئٍ يهزمُ في ثناياه مشاعر الألم التي رافقت مراحل عُمُره في مجتمعاتٍ مارست كافة ألوانِ القمعِ لتُشعِرَهُ بمدى اختلافهِ عن السائد المقبول. 

لحظةُ الثورة على القوالب التي صُمّمت لمحاصرة جسدي كانت لحظة الولادة الثانية، أو كما أحبُّ أن أرى المشهد الآن عندما أعودُ بذاكرتي إلى تلك الليلة المحمومة، لحظة احتراق الجسدِ الموشومِ بالصّورة الأنثوية الظاهرية أثناء ساعات الرقص الأولى، وانبثاقِ الجسد الجديد، أو القديمِ الذي كان يختبئُ بين ثنايا الرّوح. جسدٌ كسرَ قيود الثنائية الجندرية، يدمِجُ في طيّاته ما يحلو لهُ من كلا الجنسين. جسدٌ قمتُ بتفصيلهِ في تلك اللحظة بما يتوافقُ مع ما كانت روحي تَرنو إليه، مُذ نظرتُ إلى نفسي في المرآة بعيون مَن حولي وشعرتُ بالاشمئزاز ممّا كنتُ أرى. ذاكَ زمنٌ قد ولّى الآن، رغمَ أنّي ما زلتُ في بداية رحلة اكتشاف ذاتي، إلّا أنّني على يقينٍ بأنّ الجزء الأول من رحلتي قد ولّى بِلا رجعة، كما ولّى معَهُ شُعور العارِ الذي لازمَني مُذ بَدَأَت أعضائي الأنثويّة بالبروز للعامّة، وكأنّها قد منَحَتهُم تصريحًا مفتوحًا لاجتياح خُصوصيتّي وفرض معاييرهم التي أقنعتني حينها بأنّ جسدي ليس مُلكًا لي، وأننّي لستُ المخوّلة بتشكيله، بل هي مهمة مجتمعية تمَّ التوافقُ عليها مُنذُ قرون. 

خرجتُ من القمقم منذ الرقصة الأولى، وبدأت مرحلة جديدة شهد فيها جسدي تحوّلات متتابعة بدأت باختلاف نظرتي إليه، ساعدتني على ذلك صورةُ رأسي الحليق التي أطلّت عليّ من المرآة بعد عدّةِ أيام من بروز الجانب الرجولي الموازي، كما سمحتُ لشعر جسدي بالنمو بل وكشفتُ عنه أيضًا. كنت خائفةً جدًا من الخروج للشارع حليقة الرأس كاشفةً عن ذراعين يغطيهما الشعر الكثيف، مرتديةً قميصًا رجّاليًا يبرز ثدييّ الضخمين من ورائه، خفت من غضب الله الذي كان من المفترض أن يأتي على شكل صاعقةٍ من السماء.

لم ينزل شيءٌ من السماء طبعًا، بل ما نزل علي كانت نظرات المارة ممن بدوا لي بأنهم عرب أيضًا، نظرات غضبٍ واستنكار، شجعتني في ذات اليوم على تغيير خزانة ملابسي بالكامل، حتى أبدأ وأخيرًا بارتداء ملابس تناسب الرّوحين الّلتين تقطنان جسدي.

كان الرقص ضربة المطرقة الأولى على قيدي الذي ما إن كسرته حتى بدأت بتفكيك القيود الأخرى من تعاليم وعادات اجتماعية ودينية. كما ثبَّت قدميّ على المسار الذي اخترتُه لنفسي، وزادني إيمانًا بأنّني لم أخطئ الاختيار رغم صُعوبته، وأنّي على موعدٍ مع ذاتي الكامنة التي لم تلوّثها المعايير الذكورية والصور النمطية المحدودة عمّا ينبغي أن تبدو عليه أجسادُنا، ذاتٌ تتناسبُ حقًّا مع ما نراهُ بعينِ فِطرَتنا التي لا تُخطئ.