عن ذواتنا المبعثرة والثقوب السوداء

05/09/2019
1107 كلمة

الفرصة متاحة دائمًا كي نتضامن مع ذواتنا المحطّمة والمبعثرة.

"معقول بدّك تطلعي لابسة هيك؟". "بعمرك ما كنتِ بتعرفي تاخدي قرار". "كيف بتغلطي هيك غلطة؟". "أصلًا معه حق يزعل منّك. ما كان لازم تحكي معه هيك". "لو كنتِ بتعرفي حالك أحسن وبتعرفي شو بدّك، ما كان اغتصبك". "لازم تتغيّري أسرع من هيك، وإلا بيتركك". "إذا فشلتِ هالمرّة، بعمرك مش رح تعرفي تعملي علاقة". "لازم تشتغلي أكتر من هيك، وإلا لشو حياتك؟". "قرري إذا بدّك ولاد أو لأ، بعدين بيفوتك القطار". "كيف بتلبسي هي التنّورة ورجليكِ سمان؟". "صالحي أبوكِ، بلاش ينجلط منّك". "مين قلّك إنّه يلّي بدك ياه بيصير؟". "هو أكيد طالع معها لأن زهق من العلاقة وبده يتركني". "وإنتِ ليش ضليتِ ساكتة وقت اتحرّش فيكِ؟ الحق عليكِ". "ما بيزبط تحبي، ما بتعرفي كيف، أكيد رح تفشلي كمان مرّة". "على الأغلب بده يؤذيكِ، على شو بدّه يحبك يعني؟". "كمان مشروع ماله طعمة؟". "مين قلّك إنّه في حدا مهتم يقرأ يلي بتكتبيه؟".

-----------

هذه أصواتٌ يضجّ بها رأسي منذ سنين، لدرجة أنها أصبحت جزءًا من قصتي وحددت رؤيتي لذاتي، دون أن أعرف مصدرها حتى. أين سمعتها للمرة الأولى؟ من الجارة التي تشرب مع جدتي قهوتها كلّ صباح وتسرد مشاكلها مع حماتها بلهجة شامية ثقيلة أم من معلّمتي التي كانت تبتلع سندويشاتي دون أن تسألني إن كنت أرغب بمشاركتها؟ أو من فم ابن البقّال المتحرّش الذي لم أعد أذكر منه سوى شكل وجهه المثلّث بعض الشيء؟ مهما كان مصدرها، لقد وصلت معها إلى مرحلة "التعايش" مما مكنني من أخذ مسافة ومراقبتها. هذه المسافة تساعدني في إخراج رأسي من دوّاماتي المتكررة لأراقب نفسي والعالم من حولي. أتشارك الإحساس بالهزيمة مع العديد من الأصدقاء والصديقات. ذلك الإحساس الذي يجتاحك مهما أنجزت، أو مهما كان يومك حافلًا بما تحبين. في كلّ مرة أخرج من هذه الحالة، أتأكد أننا "كلنا في الهوا سوا"، وأنّ الأصوات الغريبة في رأسي تشبه الأصوات في رأسكِ، ورأسها، ورأسه. أتألم عندما أدرك كلّ مرة حجم الألم المرتبط بوجودنا في هذا العالم، والإحباط الذي نعيشه بشكل دائم. أتساءل عمّا يجعلنا كائنات هشّة إلى هذه الدرجة وقد وُلدنا مُقبلين ومُقبلات على الحياة؟

عليّ خوض تفاعلات وتحولات مستمرة، قد تكون موجعة، ولكنها حتمية. فعلى ما يبدو، الحرية لا توزّع "ببلاش".

سألتني معالجتي النفسية ذات مرة إن كنت قادرة على الحد من تأثّري بما يحدث حولي كي أحمي "ذاتي الحساسة"، على حدّ تعبيرها. كنت أعتقد في تلك الفترة أن الطريقة الوحيدة هي أن أنسحب من الحياة، أن أهرب، أن أتّبع سياسة القردة الثلاثة التي لا ترى ولا تسمع ولا تتكلم. بعد تفكير وتأمل، قلت لها أنني لا أريد التراجع، لا أريد العيش في الوهم. أفضّل أن أرى، وأن أسمع، وأن أتكلم، ليس لأنني ضحية متمرّسة، أو لأنني أهوى الألم بل لأنني اخترت أن أعيش حرّة، وعليه لا بدّ من تفكيك هذه المنظومة التي اختلّت فيها جميع الموازين. عليّ فهم أشباح تلك الأصوات التي أهرب منها وأسمح لها بالتكاثر في نفس الوقت، ومعاينة ما يجعلني أُعنِّف وأعنَّف. عليّ خوض تفاعلات وتحولات مستمرة، قد تكون موجعة، ولكنها حتمية. فعلى ما يبدو، الحرية لا توزّع "ببلاش". 

منذ اللحظة التي نخرج فيها إلى العالم، نصطدم بمنظومة مُجتمعية وأخلاقية وسياسية ومؤسساتية توجّهنا وتُحدد علاقتنا بذواتنا وبالآخرين، وتضبط سلوكنا وعاداتنا اليومية، وتبرمج أفكارنا من خلال ثُنائيات متعددة: المسموح والممنوع، الحلال والحرام، الجميل والقبيح، الجيد والسيء، الصواب والخطأ. تتشكّل لدى الإنسان ثوابت ومجموعة من الأفكار النمطية منذ فترة الطفولة من خلال المؤسسة التربوية والتعليمية وقبلها من خلال توصيات الآباء و الأمهات، أي الأسرة التي تضع حجر الأساس وتزوّدنا بأدواتٍ نحدد بها هوّياتنا، وأدوارنا، وقيمنا.

ولكن من قال أنّ وظيفة هذه المؤسسة هي تنشئة ذوات قادرة على تحديد أنفسها واحترامها، والتواصل مع داخلها ومع الآخر، وقادرة على التفكير، والتحليل، وقراءة الواقع؟ من قال أنّ من واجب هذه المؤسسة مواكبة الإنسان ليزدهر ككائنٍ حي، حرٍّ متّصل مع أشكال الحياة المتعددة من حيوانات ونباتات على هذا الكوكب؟ أو أنّ من واجبها أن تعدّ أفرادًا متّسقين قادرين على التساؤل واتخاذ قرارات واعية ومسؤولة، واثقين في أنفسهم وفي العالم؟ ومن قال أصلًا أنّ هذه العناصر والأدوات مهمة؟ "شو هالفلسفة الزايدة؟!" يكفي أن تلقّن هذه الكيانات الطاعة: طاعة الأب/الأم، والمعلّم/ة، والدولة، والله، ورأس المال؛ يكفي أن تُعنى بصقل آلات تنتج أيّ شيء قابل للبيع والشراء: كالمنتوجات، والثقافة، والأخلاق، والأيديولوجيات، وحقًا أيّ شيء آخر يخضع لقوانين السوق. أو على الأقل أن تقوم بأيّ شيء يضمن استمرار عمل آلة رأس المال. وإذا كُنت قد بُليتِ بمهبلٍ ورحمٍ في هذه العوالم المُحبِطة، فلكِ وضعٌ خاص: تُهيَّئين لوظيفتك الأولى والأهم، تلك التي "أهدتك" إيّاها الطبيعة، وهي إنتاج الأطفال. وإن كنت من الفتيات الحالمات بحياةٍ أخرى خارج إطار ما تساهمين به في "مملكتك"، في الحيّز الخاص، في البيت، أو المُجبرات عليها، فلكِ هذا! أبشري، فأنتِ في مجتمع بشري تقدُّمي يعطي المرأة كامل حقوقها في الإنتاج. ولكن طبعًا، لا داعي أن نكرر هنا أنه من الضروري أن تلزمي حدودك، فجسدكِ ليس ملكك: لكِ أن "تستمتعي" به بما يرضي الهرم الاجتماعي، ولكن "لهون وبس"، وإلا ستتحول الأشعار التي تتغنّى بك وبجمالك إلى تُهم وشتائم. وأنتِ حتمًا لا ترضين بذلك، صح؟

بعد سنوات قليلة من التدريب المكثّف، نُقذَف من هذه المؤسسة إلى العالم الأوسع متمسّكات/ين بتصورات وهمية، وقيم معلّبة "بالأبيض والأسود"، وأحلام كاذبة عن أجسادنا، وأدوارنا، وعوالمنا الداخلية، والعوالم المحيطة بنا. نتشبّث بالحياة بأسناننا، فتهزّنا مرّة تلو الأخرى حتى توقعنا. نجد أنفسنا أمام قرارات مصيرية، وعلاقات اجتماعية، وأمام مرآة طاحنة تُرينا ما بداخلنا. لا نملك الأدوات لتحديد وتقييم كلّ هذه التجارب - وبالتالي التعامل معها - فنشعر بالخوف، والقلق، والضياع، وعدم الأمان. نتوه بين كلّ العناصر التي نحملها، المُدرَكة وغير المدركة، نستمع إلى تلك الأصوات التي نعتقد بأنها أصواتنا ونراها على أنها الحقيقة، نحاول أن نسيطر على حيواتنا وحيوات الآخرين حولنا، نتخبّط. تدفعنا غريزة الاستمرار إلى الهروب، فنغوص في الجنس، أو الأكل، أو الرياضة، أو العمل، أو النقود، أو العنف، أو النفوذ، أو التبضّع، أو العلاقات الاجتماعية، أو في ما نعتقد أنه حب. أو حتى بكلّ تلك الأشياء معًا. نصنع مجموعةً من الأقنعة لتُحدد الأنا التي نقابل بها العالم. نتعلّم تبرير ارتداء هذا القناع أو ذاك. نلعب دور الضحية تارةً، ودور الجلاد تارةً أخرى. نتمسّك بأيّ شيءٍ يحمينا من الألم، من الإحساس الدائم بالفشل وقلّة الحيلة، من حقيقتنا، ومن الفجوة الموجعة بينها وبين أفعالنا؛ نبحث عمّا يعطينا قيمة. كيف لا، ونحن لم نتعلّم أن لكلٍ منا ولحيواتنا قيمة؟

الفرصة متاحة دائمًا كي نتضامن مع ذواتنا المحطّمة والمبعثرة، نرى ذرّاتها بتجرّد، نقبل هشاشتها، نُحب جمالها، وأن نصقلها بعطف وعناية، يومًا بعد يوم.

الجميل أنّ الوجود هو عملية تبدّل وتغيير مستمرة، وأنّ العقل البشري قابل للتمرين على التفكير، وأننا نحن البشر قادرون على التعلّم مدى الحياة وقادرون على الحب. أعتقد أنه علينا أن نقبل بشروط اللعبة وهذا يعني أن نقبل بأن ترمينا زلازلنا النفسية، والسياسية، والاقتصادية - الفردية منها والجماعية - خارج ثقوبنا السوداء، التي قد تكون حالكة لدرجة تُفقد الوعي. الفرصة متاحة دائمًا كي نتضامن مع ذواتنا المحطّمة والمبعثرة، نرى ذرّاتها بتجرّد، نقبل هشاشتها، نُحب جمالها، وأن نصقلها بعطف وعناية، يومًا بعد يوم. الفرصة متاحة دائمًا كي نقرر أن نكون شجاعات وشجعان، ونتشارك ألمنا وضياعنا ليصبح نضالنا جماعيًا. قد تكون هذه إحدى طرقنا نحو الحرية ونحو اكتشاف هويتنا الحقيقية، التي قد يساعد إدراكها على تفادي تلك الثقوب السوداء، أو على الأقل على ضمان العودة منها عند الإبحار فيها مجددًا لسببٍ أو لآخر. ربما نستطيع هكذا أن نتعافى شيئًا فشيئًا، وأن نمضي في بناء نفوسٍ وعالمٍ أصدق، وأنقى، وأكثر أصالة.

مع تمنياتي لنا بألا نفقد الأمل، والعقل السليم، والروح الثائرة خلال هذه الرحلة المثيرة.