ظِلال السلطة: حديثٌ في نسوية الدولة التونسية

لطالما حُجز مقعدٌ للنساء بجانب مقعد القائد في السياسة التونسية. فهل يمثّل مقعد رئيسة الوزراء نجلاء بودن اليوم مقعد قيادةٍ فعليةٍ أم مقعدًا مصاحبًا فقط؟

كان صباحًا عاديًا، لا كان كئيبًا ولا مشرقًا. صباحٌ محايدٌ آخر أشرب فيه قهوتي وأتصفّح موقع فايسبوك لأتابع أخبار البلاد التي تعيش حالةً من الضبابية والتعليق منذ إعلان الإجراءات الاستثنائية من قبل رئيس الجمهورية. بعينٍ نصف ناعسة، صادفَتني صورةٌ على الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية مُعلنةً تكليف نجلاء بودن بتشكيل الحكومة.

أسرعتُ بإعلان فرحتي على صفحتي لأشارك رفيقاتي وصديقاتي نشوة هذا الانتصار. العديدات منهنّ تفاعلن بالحماس ذاته، بينما عبّرت عديداتٌ أيضًا عن تحفّظهن، حتى أنّ البعض أبدَين انزعاجًا من القرار. وقبل أن أدخل في أيّ نقاش، منحتُ فرحتي مساحتها الكاملة.

لنتوقّف هنا. أخيرًا، تتقلّد امرأةٌ في تونس منصب رئيسة الوزراء؛ أستاذةٌ جامعيةٌ يُشهد لها بالكفاية.

الآن، عندما أرقن كلمة "رئيسة وزراء" على محرّك البحث غوغل، ستظهر رئيسة وزراء تونس إلى جانب مثيلاتها في الدنمارك وألمانيا ونيوزيلندا وفنلندا واليونان والغابون وغيرها. الآن، ستُعدّل أمّي سقف تطلّعاتها في ما يخصّني، فبعد "أريدك أن تصبحي دكتورة في الجامعة"، سيأتي "لماذا لا تنخرطين في حزبٍ لتصبحي وزيرة؟". سيجد طموح أمي الشاسع مساحةً جديدةً لأحلامها في تحقّق ابنتها. آن لها أن تحلم بمنصب رئيسة الوزراء. ومثل أمي أمّهاتٌ كثيراتٌ آن لهنّ أن يرفعن سقف أحلامهن من الفستان الأبيض ووظيفة الزوج المستقبلي والشهادة الجامعية… إلى المنصب السيادي.

حاكماتٌ من خلف الكواليس

لم يأتِ هذا الخبر مفاجئًا، فقد تسرّبت شائعاتٌ كثيرةٌ عن إمكانية هذا التعيين وتمّ تداول العديد من الأسماء. كما أن متابعات ومتابعي الشأن التونسي يعرفون أن كرسيّ السلطة لم يخلُ يومًا من ظل امرأة.

في كتابه "المرأة والسلطة في تونس خلال فترة الحكم البورقيبي"،1 حاول المؤرخ التونسي عادل بن يوسف أن يرصد تأثير وسيلة بورقيبة، الزوجة الثانية لرئيس الدولة الحبيب بورقيبة، في سياسة الدولة الداخلية والخارجية. وبرغم دورها المؤثر وقوة شخصيتها ونفوذها، إلا أنها لم تحظَ بأيّ منصبٍ رسمي، وانتهت أسطورتها بطلاقها من الحبيب بورقيبة الذي برغم ارتباطه العاطفي الكبير بها، ضحّى بعلاقتهما من أجل السلطة وتهدئة الأوضاع.

في تونس، تبنّت الحكومات المتعاقبة سياساتٍ تدعم المساواة وحقوق النساء، وعمل الاتحاد الوطني للمرأة التونسية مُشرفًا على تطبيق تلك السياسات والترويج الدعائيّ لخطاب الدولة

في أكتوبر 2009، صدر كتاب "حاكمة قرطاج: الاستيلاء على تونس" (La Régente de Carthage : Main basse sur la Tunisie) للكاتبَين نيكولا بو (Nicolas Beau) وكاترين كراسيه (Catherine Graciet) عن دار لا ديكوفارت في فرنسا، وتناول مدى سيطرة ليلى بن علي على البلاد التونسية، وتوغّل عائلتها كشبكةٍ تحكّمت بالاقتصاد التونسي بتسييرٍ مُحكمٍ من ''عرّابة العائلة'' التي تردّدت بشأنها شائعاتٌ عديدة، كان من بينها تخطيطها للانقلاب على حكم زوجها والترشّح للانتخابات الرئاسية التي كانت مُقرّرةً عام 2014 لولا اندلاع الثورة التي حالت دون تحقيق مشروعها.

تعترف الأطراف السياسية  كذلك بالدور الرئيس الذي أدّته ميّة الجريبي، أوّل امرأةٍ قادت حزبًا سياسيًا في تونس. انتُخبت الجريبي عام 2006 على رأس الحزب الجمهوريّ خلفًا لأحمد نجيب الشابي، وفرضت مسيرةُ نضالها الاحترام والتقدير والإجماع على صدقها وثباتها وصلابتها. لكن رغم ذلك، يتهامس المقرّبون من الحزب والمتابعون لمسيرتها أن الأخوَين الشابي (أحمد وعصام) لم يمنحاها المساحة السياسية التي تستحق، فبقيت برغم زعامتها، أسيرةَ ظل أحمد نجيب الشابي.

لطالما حُجز مقعدٌ للنساء بجانب مقعد القائد في السياسة التونسية. فهل يمثّل مقعد رئيسة الوزراء اليوم مقعد قيادةٍ فعليةٍ أم مقعدًا مصاحبًا فقط؟

نسويّة الدولة التونسية

بالتوازي مع مشروع تحديث الدولة البورقيبية، نشأ ما يُعرف بـ"نسويّة الدولة"، وهو مصطلحٌ صاغته العالمة السياسية الألمانية هيلجا هيرنس (Helga Hernes)، لتبحث في مدى تبنّي الدولة أو الحكومة سياساتٍ داعمةٍ للمساواة بين النساء والرجال. في تونس، تبنّت الحكومات المتعاقبة سياساتٍ تدعم المساواة وحقوق النساء، وعمل الاتحاد الوطني للمرأة التونسية2 مُشرفًا على تطبيق تلك السياسات والترويج الدعائيّ لخطاب الدولة بشأن تصوّرها الأوحد لمشروع المساواة كأحد أعمدة الدولة الوطنية الحداثية.

بعد الثورة، وفي خضم الصراع الأيديولوجي بين الإسلاميّين والحداثيين، خرج رئيس الدولة آنذاك منصف المرزوقي ليعلن في خطابٍ له سنة 2012، أن خيار الشعب التونسي بتحرير النساء ورفض تعدد الزوجات والانخراط في نهج التعليم هو سابقٌ لمشروع نسوية الدولة، وأنه لا ينكر فضل بورقيبة في تقنين هذا المنهج المجتمعي والتأسيس له قانونيًا.

مثلما رأينا النهضة تستبدل جلبابها اليميني المتطرّف ببذلةٍ مدنيةٍ حداثيةٍ وتعيّن سعاد عبد الرحيم ''شيخةً" لمدينة تونس، رأينا الباجي قائد السبسي يحاول إحياء نسوية دولةٍ متخبطةٍ وضعيفة الإرادة

ويمكن لمُتابعي الشأن التونسي أن يلاحظوا ثبات هذا النهج برغم كل التجاذبات السياسية وعجز الحكومات المتتالية عن طرح مشروعٍ مجتمعي متكامل. بقيَت الثوابتُ وحدها تصيغ السياسات الانتقالية والارتجالية؛ تونس دولةٌ مدنيةٌ ذات توجّهٍ اجتماعي يُراهن على التعليم ورأس المال البشري، وهي منخرطةٌ في مشروع التحديث منذ أكثر من نصف قرن، وللنساء حقوقٌ ومكتسباتٌ ومجالٌ للمشاركة في الحياة العامة لا رجوع عنه.

ومثلما رأينا النهضة تستبدل جلبابها اليميني المتطرّف ببذلةٍ مدنيةٍ حداثيةٍ وتعيّن سعاد عبد الرحيم ''شيخةً" لمدينة تونس، رأينا الباجي قائد السبسي يحاول إحياء نسوية دولةٍ متخبطةٍ وضعيفة الإرادة سواء بالخطاب أو من خلال طرح مشروع المساواة في الإرث. واليوم، بعد الزلزال السياسي الذي أصاب البلاد، وفي ظل ضبابية المشروع السياسي لقيس سعيد، نرى أن حقوق النساء ومشروع المساواة من  الثوابت الراسخة والركائز الأساسية الصلبة لأيّ مشروعٍ سياسي في تونس.

مع أن الحصيلة العامة تبدو إيجابية، إلا أن مواقف النسويات من هذا التعيين اختلفَت وتباينَت.

تعيين شكلي؟

في الواجهة، نجد اليساريّات المناهِضات لسياسة قيس سعيد - سواء المستقلات أو الحزبيّات - اللّاتي يعتبرن ما حدث يوم 25 جويلية/تموز 2021 انقلابًا سياسيًا يهدّد المسار الديمقراطي الذي كلّف البلاد والشعب ثمنًا غاليًا اقتصاديًا واجتماعيًا ونفسيًا، ويؤسّس لمشروعٍ ذي شبهةٍ استبداديةٍ يحيل إلى التجربة المصرية. كما يعتبرن أن التهليل لهذا القرار ليس سوى تطبيع وتبييض للدكتاتورية الناشئة التي ستكون النساء أولى ضحاياها.

ثم نجد نسويّات المجتمع المدني المنخرطات في النضال عبر منظماتٍ غير حكومية، يُشدّدن بدورهنّ على أهمية المسار الديمقراطي واحترام المؤسسات والمنظمات والنخبة النسائية الفاعلة في البلاد. مقابل هذا الموقف، نجد تعيين امرأةٍ واحدةٍ بجانب رجلٍ فوّض نفسه بنفسه جَمع السلطات الثلاث في يده عبر تدابير استثنائيةٍ غير معلومة الأمد. ما تحتاجه النسويات والنساء، بحسب هؤلاء، هو حجز مقاعد لهنّ في حوارٍ وطني شاملٍ يقرّر معالم خريطة الطريق.

في الوقت الذي تراجعَت فيه الدولة عن حماية النساء ضحايا العنف وأغلقت مراكز إيواء الناجيات، تشهد البلاد موجة عنفٍ غير مسبوقةٍ ضد النساء

هناك أيضًا مجموعةٌ أخرى من النسويات اللاتي لا يستخدمن أيًّا من هذه الحجج، بل يعتبرن أنّ قيس سعيد - بقطع النظر عن ضبابية مشروعه السياسي - واضحٌ منذ البداية. فهو لا يقطع فقط مع نسوية الدولة، بل يؤسّس لخطابٍ محافظٍ وشعبوي يرسّخ التصوّرات الشعبية الذكورية والمحافِظة المعرقِلة لمشروع المساواة. وتعتبر هذه الفئة من النسويّات قرار تعيين امرأةٍ على رأس الحكومة قرارًا سياسيًا وترويجيًا في الأساس. كما يذكّرن بخطورة هذه الحركات الدعائيّة التي تخطف الأضواء من واقع العنف والفقر الذي تعيشه النساء في ظل تراجع دور الدولة، والأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها تونس وآثار الأزمة الصحية العالمية.

ففي الوقت الذي تراجعَت فيه الدولة عن حماية النساء ضحايا العنف وأغلقت مراكز إيواء الناجيات، تشهد البلاد موجة عنفٍ غير مسبوقةٍ ضد النساء، مثل حادثة قتل رفقة الشارنى على يد زوجها الشرطي باستخدام سلاحه. كذلك تتواصل تجاوزاتُ أعوان الشرطة بحقّ الناشطات النسويّات عبر العنف والتشفّي واستغلال النفوذ بحمايةٍ من النقابات الأمنية، كما حدث مرارًا وتكرارًا مع الناشطتَين رانيا العمدوني وأروى بركات.

في المقابل، نجد الأضواء تحوّلَت عن كل هذه التجاوزات لتُغرق الضحايا في خندق التعتيم والنسيان والهشاشة، وليُنار قصر قرطاج بتنصيب امرأةٍ لم تعلن بعد عن أيّ موقفٍ يدعم حقوق النساء، ولا سمعناها تتحدث عن أيّ مقاربةٍ جندريةٍ في سياسة حكومتها.

في السياق ذاته، نجد بيان الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات الذي رحّب باحتشامٍ بهذا التنصيب، واعتبره تثمينًا لحقّ النساء في المشاركة السياسية واستجابةً لمطالبهنّ، وفقًا للجمعية. لكن بقي هذا الترحيب مشروطًا باستجابة الحكومة العاجلة لحاجات النساء الاقتصادية والاجتماعية، والتصدّي لظاهرة العنف التي تفشّت في المشهد الاجتماعي وحتى السياسي في الفترة الأخيرة.

شخصيًا، ومع لَحظي كل التوجّسات وتصديقي مواقف كافة رفيقاتي وأخواتي، أكاد لا أتمالك نفسي فخرًا وفرحًا وحماسةً لتولّي أول امرأةٍ تونسيةٍ منصب رئاسة الحكومة. مع ذلك، يبدو لي جليًا أن على الحركة النسوية في تونس زيادة الضغط باستمرارٍ لفرض صوتها على طاولة الحوار، وتفعيل دورها كقوة طرحٍ لإدماج مقاربة النوع الاجتماعي في سياسات الحكومة المقبلة بشكلٍ فعلي. كما يجدر بها متابعة وتقييم تطبيق هذه المقاربة لأنّنا لن نكتفيَ ببعض الانتصارات الرمزيّة.

 

 

  • 1. عادل بن يوسف، "المرأة والسلطة في تونس خلال فترة الحكم البورقيبي: وسيلة بورقيبة نموذجًا"، تونس، مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات، 2005، ص 31-67.
  • 2. كان يسمّى الاتحاد الوطني للمرأة التونسية سابقًا بالاتحاد القومي النسائي التونسي. تأسس عام 1956 وأسندت رئاسته الشرفية آنذاك إلى وسيلة بن عمار. وقد كان تأسيسه في قطيعة مع المنظمات النسائية السابقة وخاصة من بينها الاتحاد النسائي الإسلامي التونسي. حافظ الاتحاد بين 1956 و 2011 على علاقات عضوية مع الحزب الحاكم في تونس.