صراع السلطة مع الجسد المتعاطي

كيف يظهر متعاطو ومتعاطيات المخدّرات كأجسادٍ مستباحةٍ؟ وما هي أشكال السلطة التي تسعى إلى التحكّم بها وإخضاعها؟ وهل تختلف المقاربة بين أجساد المتعاطين وأجساد المتعاطيات؟ وهل بإمكاننا تغيير نظرتنا المعتادة إليها كأجساد فاشلة و"منحرفة" اجتماعيًا وأخلاقيًا؟ جميع هذه الأسئلة وغيرها يحاول الكاتب أنس إبراهيم الإجابة عليها في هذا المقال.

تكشف الصّورُ النمطية عن "الآخر" المصادرَ الخطابية السلطوية التي تُخضعُنا، ونركنُ إليها ونُمكّنها من تشكيل ما نعرفه وما لا نعرفه. ففي مقابل إرادة المعرفة، هناك إرادة عدم المعرفة التي تكشف عن أنظمةٍ خطابيةٍ سلطويةٍ تشتغلُ على تبرير استباحة فئةٍ اجتماعيةٍ ما، تبنيها وتُصنّفها كخطرٍ يتهدّد شعورنا الوهميّ بالأمن الاجتماعي والنفسي. ومن تلك الفئات المستباحة يظهر متعاطو ومتعاطيات المخدّرات كأجسادٍ مستباحةٍ تتقاطع فيها الهويّات التمييزيّة المتعددة كالجنس، الجنسانية، العرق والطبقة، وعادةً ما يُفكّر فيها على أنّها الشكل الأكثر تطرّفًا من "الانحراف" الاجتماعي والأخلاقي. 

تستخدمُ عالمة الاجتماع النسوية إليزابيث إتوري مفهوم "الانحراف الجسماني" (Embodied Deviance) لوصفِ نمطٍ شائعٍ من التفكير في متعاطي ومتعاطيات المخدّرات من قبل السلطات الطبّية والاجتماعية والقانونية. ويُشير المفهوم إلى "اعتقادٍ تاريخي وثقافي بأنّ السلوك الاجتماعي المنحرف، يتمظهَرُ في مادّية الجسد، كأثَرٍ أو كسَبب، أو ربّما بالكادِ كأثرٍ دلاليّ".1 واستنادًا إلى هذا الاعتقاد، يقومُ الادّعاء العلمي على أنّ الأجسام المنحرفة تُظهر دلالاتٍ فيزيائيةً على انحرافها. وبغضّ النظر عن ماهية هذا السلوك الانحرافي، فإنّه دائمًا ما يظهِرُ نفسهُ على الجسد المنحرف الذي يُبدي سلوكياتٍ إشكاليةً في المجال العام، ويُعاقَب بسببها اجتماعيًا وأخلاقيًا عن طريق مَوضعتِه في مكانةٍ اجتماعيةٍ وضيعةٍ وتجريده من فاعليّته الأخلاقية.2

يُنظَر إلى الأجساد المتعاطية بوصفها أجسادًا فاشلة، وإلى النساء المتعاطيات تحديدًا بوصفهنّ فاشلاتٍ رمزيًا في أداء أدوارهنّ الجندرية المقبولة اجتماعيًا. وتُحاججُ المحامية الأميركية، نانسي داف كامبل، أنّ النساء المتعاطيات يُعتبرن فاقداتٍ للمصداقية معرفيًا، ولطالما صُوِّرنَ بُنيويًا كنساءٍ ضالّاتٍ بإرادتهنّ، وفاسداتٍ أخلاقيًا ومنحرفاتٍ بطرقٍ اجتماعيةٍ غير مقبولة.3 ومع إعادة موقعة الإدمان حاليًا من الجسد إلى الدّماغ، تعتقد إتوري وكامبل أنّ من الممكن الحديث عن "انحرافٍ عصبي" (Neurochemical Deviance)4 كشكلٍ من الأشكال الخطابيّة للتفكير في متعاطي ومتعاطيات المخدّرات.5

يُنظَر إلى الأجساد المتعاطية بوصفها أجسادًا فاشلة، وإلى النساء المتعاطيات تحديدًا بوصفهنّ فاشلاتٍ رمزيًا في أداء أدوارهنّ الجندرية المقبولة اجتماعيًا

يُنظر إلى الانحراف العصبيّ كمولّدٍ للذّوات المتعاطية للمخدّرات كمُسبّبٍ أو كنتاج ذواتٍ أو هويّاتٍ مُؤشْكَلةٍ أصلًا. ويظهر ذلك في اعتقاد بعض الباحثين6 أنّه في حين يمكن إرجاع الإدمان إلى بعض أنواع المشاكل الاجتماعية، فإنّ الطبيعة الأصليّة للإدمان عادةً ما تتموضعُ في مرَضٍ أو نقصٍ أو ضعفٍ جسماني.7 بالتّالي، يُنظَرُ إلى متعاطي ومتعاطيات المخدّرات كذواتٍ هي في أصلها الجسماني منحرفة، حقيرة و"آخَريّة" (Other). وعليه، تُوضَع الأجساد المتعاطية موضع استحقاقٍ للاستبعاد الاجتماعي الذي يُفاقِم من "آخَريّتها". 

إنّ المنطق الثقافي للذّوات العصبيّة في "مجتمعات الأدوية النفسية" الحديث نسبيًا، يؤسّس للشخصية الثقافية الأنثوية المُتعاطية المُحقَّرة، وللذّوات الأنثوية "المنحرفة جسمانيًا وعصبيًا"، ولهويّةٍ أنثويةٍ تقاطعيّةٍ تُصوّر نساءً معيّناتٍ على أنّهن أكثر احتِمالًا أو قابليةً ليكنّ أو يَصِرنَ مُتعاطِياتٍ للمخدّرات. ويرى هذا المنطق في التعاطي تمظهرًا لاختلافٍ بنيويّ ووظيفيّ في عقول النساء المتعاطيات يفرّقهنّ عن غير المتعاطيات، إذ يُفكّر فيهنّ بوصفهنّ مُعاباتٍ على المستويَين النفسي والعصبي وغير جديراتٍ بالمواطنة السياسية. وفق هذا المنطق، يُنشئ المجتمع هويّاتٍ متعددة، منها تلك التي تقوم على الأمراض أو الإدمان ويتقاطع فيها العِرق مع الطبقة والجنسانية، بحيث تشكّل أساسًا لحال الاستثناء التي تُفرض على هذه الذّوات الهويّاتية المتعدّدة، وتشتملُ على تأديب الجسد، منعه، استبعاده والتدخّل فيه.

السلطة الآتية من كلّ مكان

يشكّل الجسد حقلًا من حقول السلطة؛ "السلطة [التي] في كلّ مكان: لا أنّها تبتلع كلّ شيء، بل أنّها تأتي من كلّ مكان".8 هي السلطة السياسية التي تمارس نفسها بواسطة مؤسساتٍ تبدو ظاهريًا غير سُلطويةٍ ومُستقلةً عن السلطة السياسية لكنها فعليًا ليست كذلك،9 كعيادات العلاج النفسي، والمستشفيات ومؤسسات إعادة التأهيل. لكن الجسد لم يعد يخضعُ لسلطةٍ سياسيةٍ خارجيةٍ فحسب، بل أيضًا لممارساتٍ سلطويةٍ فرضتها قوى خارجيةٌ لوقتٍ طويل، كالتأديب، والضبط، والتنظيم، والتقييد. وبات الأفراد يمارسونها بأنفسهم/ن بواسطة ذواتهم/ن الجسمانيّة المُحفّزة عبر قوى التأثير الاجتماعية والثقافية الخارجية. فخطابات الجسد الحديثة تبني الأفراد في المجتمعات الحديثة بوصفهم/ن مسؤولين عن تنظيم وإدارة أجسادهم/ن بطرقٍ اجتماعيةٍ مقبولة، بحيث يمارسون على أجسامهم/ن ذاتها السلطةَ التأديبية التي كانت تُمارسها في السابق حصرًا قوى خارجيةٌ على الأجساد "غير الصالحة، المريضة، المتمرّدة، الغريبة، إلخ."10

كلّ الأجساد، متعاطية أو غير متعاطية للمخدّرات، عليها أداء أربع مهامّ جسمانيةٍ وهي: ضبط النفس، الإنجاب، تقديم الذّات، وتقييد الذّات

لم يعُد ثمّة سلطة سياسية، بل سلطاتٌ متعددةٌ في عصر الحداثة السّائلة كما يُبيّن عالم الاجتماع زيغمونت باومان، والفرد، أي "الذّات الجسمانية"11 (Embodied Subjectivity)، هي التي تختارُ سلطةً من بين السلطات المتعدّدة الحاضرة وتمدُّها بالسلطة على ذاتها.12 لنفكّر في سندريلا مثلًا؛ لم تكُن المشكلة في ضياع فردة حذائها، بل في منعها أصلًا من أن تكون جميلةً لأنّها لا تنتمي طبقيًا إلى فئة النساء اللواتي يحقّ لهنّ الظهور جميلات. أما في عالم اليوم، فجميع النساء مدعواتٌ ليكنّ جميلات، إلا أنّ هذه الدعوة تتضمّن تقييدًا خطابيًا على الأجساد التي يمكنها أن تكون جميلةً بالاستناد إلى معايير جماليةٍ طبّية، عرقية، بيولوجيةٍ وجنسانيةٍ تعمل على إعادة صناعة الأجساد هويّاتيًا، فزيولوجيًا وبيولوجيًا بصورةٍ مستمرّة. فالجسد المثليّ مثلًا، انتقل من موقعته هويّاتيًا في قلب الخطاب السياسي البيولوجي بوصفهِ جسدًا مريضًا يرتبطُ بمرض نقص المناعة البشرية المكتسب (الإيدز) وغيره من الالتهابات المنقولة جنسيًا، ليصبح محور خطابٍ جسماني جمالي صحّي استبدلَ الجسدَ المريض بالجسد المثليّ الرشيق، نتيجة تحوّلاتٍ جذريةٍ في موقع الجسد المثليّ في المجال العام الذي يصوغه خطابُ السلطة السياسية. 

المهام الجسمانية وحتميّة فشل الجسد المتعاطي 

تشكّل المهام الجسمانية الإطار النظري الضابط للخطاب الجسماني. فكلّ الأجساد، متعاطية أو غير متعاطية للمخدّرات، عليها أداء أربع مهامّ جسمانيةٍ وهي: ضبط النفس، الإنجاب، تقديم الذّات، وتقييد الذّات (يُشار إليها عادةً بالإنجليزية بـ Four Rs وهي: Restraint, Reproduction, Representation, Regulation).13 وفي التعامل مع ضبط النفس، يتوجّب على الجسد تعلّم كيفية السيطرة على الوظائف الجسدية والحاجات الباطنية كالشهوة الجنسية، الإفرازات الجسدية، الجوع وغير ذلك. لكن تبرز هنا وظيفةٌ إضافيةٌ للأجساد المتعاطية، هي التحكُّم في تعاطيها. وتفرضُ هذه العملية تجربةً جسديةً عميقةً تتطلّب الموازنة ما بين المتعة/النشوة والمخاطر. فنحنُ نعيش في ظلّ أنظمةٍ سلطويةٍ مُعاديةٍ للنشوة/المتعة تضع قوانين جنائيةً تحرصُ على خلق مُجتمعاتٍ انضباطيةٍ خاضعةٍ ذات قدرةٍ إنتاجيةٍ منتظمة. وعلى عكس الأجساد المتعاطية، تنجح معظم الأجساد "العادية" في ضبط نفسها في مجال المجتمع التقليدي، ذلك أنّها مُشكَّلةٌ أصلًا في تناغمٍ مع الأعراف الاجتماعية، ما يُمكّنها تلقائيًا من البقاء في حالةٍ من السيطرة. إلا أنّ المعتقد السّائد اجتماعيًا والمبني خطابيًا يفيد بأنّ الأجساد المتعاطية غير قادرةٍ على الأداء نفسه لأنّ تعاطيها في حدّ ذاته يُعرّف كـ "فقدانٍ للسيطرة". 

في حالة الوظيفة الإنجابية، تصبح حال الاستثناء أشدُّ وطأةً على النساء المتعاطيات منها على الرجال المتعاطين، ذلك أنّ قرار الإنجاب يخضع أصلًا للأيديولوجيّات التي تحدّد الأجساد المسموح لها بالإنجاب وتلك المحظّر عليها ذلك. ولا تقع الأجساد المتعاطية في خانة الأجساد "الصالحة" إنجابيًا، بل تُصنّف أجسادًا مميتةً وسامّة. وكما يُنظر إلى النساء "الطبيعيات" كحاوياتٍ للأجنّة، يُنظر إلى النساء المتعاطيات كحاوياتٍ مميتةٍ ومسمومة، إذ يُموضِع الخطاب الطبّي والصحّي أجسادهنّ في خانة الأجساد السّامة التي لا تصلح للحمل. بالإضافة إلى ذلك، تقع النساء المتعاطيات (وغير المتعاطيات) في حقلٍ خطابي تقاطعي، عرقي، طبقي وجنساني يحدّد مواصفات المرأة التي يحقُّ لها الإنجاب وتلك التي لا يحقُّ لها ذلك. وعادةً ما يُفكّر بالمرأة المتعاطية الحامل على أنّها جسدٌ غير صالحٍ للإنجاب يجب الدفع به إلى الإجهاض، أو سلبها أطفالها أو تعقيمها، لاعتقادٍ راسخٍ بأنّها غير جديرةٍ بالقدرة الإنجابية والأمومة أساسًا.

من السّهل على الأجساد "الطبيعية" التقاط السلوكيات الشاذّة عن المألوف والعمل على "نفيها" من المجال العمومي إلى مجالات السلطة التأديبية

يتعلّقُ تقديم الذّات وتقييدها بظهور المجتمع في الجسد. فعلى الجسد التعامل مع الصّورة الاجتماعية من خلال تقديم الذّات في صورةٍ مقبولة، وفي الآن عينه، ضبط سلوكيات الجسد وفق إيقاع السلوك المقبول والمتّفق عليه مجتمعيًا. تمارس الأجساد "الطبيعية" هاتين المهمّتين بسهولةٍ أكبر، لكونها هي الرقيبة على نفسها أصلًا، وتصبح بعد مدّةٍ من الوقت رقيبةً على الأجساد الأخرى التي تظهَر شاذّةً عن "المقبول". إذ من السّهل على الأجساد "الطبيعية" التقاط السلوكيات الشاذّة عن المألوف والعمل على "نفيها" من المجال العمومي إلى مجالات السلطة التأديبية كالسّجن، مرافق التأهيل أو الأحياء الفقيرة بعيدًا عن مراكز المدن الحضريّة. هكذا، يتم إخضاع الأجساد المتعاطية المصنّفة خطابيًا "ملوثةً، مريضةً وفاقدةً للسيطرة"، والتي تمثّل "انحرافًا جسمانيًا" ظاهرًا مثيرًا للقلق والخوف، وتجري معاقبتها اجتماعيًا على تصرّفها المنافي لأدوارها الجندرية والاجتماعية. وكما تُعاقَب الأجساد الأنثوية على تصرّفها بما يتنافى وأدوارها الجندرية المتوقَّعة، تُعاقَب الأجساد المتعاطية على سلوكها "المنحرف" عن العرف الاجتماعي واللامبالي تجاه الخطاب السلطوي.  

أنظمة الأمراض والهويّات القائمة على الممارسات الفردية

تُنتج السلطات المتعدّدة التي تجعلُ من المخدّرات حقلًا محرّمًا ما تُسمّيه عالمة الاجتماع مارين كلاويتر "أنظمة الأمراض" (Disease Regime)، وهو مفهومٌ يختزل مجموعة ممارساتٍ تؤطّر أفعال تعاطي المخدّرات والإدمان في إطار الطبّ الحيوي وتصنيفات الانحراف الجسماني/العصبي الذي تنتجه هذه الأفعال. إذًا، تتكوّن أنظمة الأمراض من ممارساتٍ مؤسّسية، وخطاباتٍ سلطوية، وصورٍ بصريةٍ، ومصطلحاتٍ عاطفيةٍ كالخطاب السلطوي الأبوي. لنستعِد هنا صورة النساء المتعاطيات في السينما كما في المسلسل الأميركي 'برايكنغ باد' (Breaking Bad) على سبيل المثال، حيث تظهرُ أجساد النساء المتعاطياتِ كأجسادٍ رثّة، متهالكة، فاقدةٍ للإرادة وغير قادرةٍ على التصرّف وفقًا لأدوارها الاجتماعية. هكذا، تُقدّم السينما نموذجًا للمرأة المتعاطية والأمّ المهمِلة، أو للمرأة المتعاطية "العاهرة" التي تمارس الجنس مقابل الحصول على المخدّرات، وتصوغ نصوصًا اجتماعيةً تُبنى من خلالها الأمراض اجتماعيًا، ويُتحكَّمُ فيها طبّيًا وتُدارُ عموميًا. وتوضح كلاويتر المنطق الذي يربط ما بين ممارسات أنظمة الأمراض والذاتية الجسمانية؛ فأولًا، تُنتج هذه الممارسات ذواتًا وعلاقاتٍ اجتماعيةً متعدّدة، وكذلك أبعادًا مكانيةً وزمانيةً وبصريةً مختلفة؛ وثانيًا، تعمل على تشكيل وتثبيت الهويات القائمة على المرض أو التعاطي، وبناء شبكاتٍ اجتماعيةٍ حول هذه الذّوات الجسمانية التي تشكّل موضوعًا لأنظمة الأمراض. 

السّلطة هي التي تُشكّل الأجساد بعدما تستحوذ عليها، وتحافظ على استمرارية أفعالها وتنظّمها

يوضح الفيلم الوثائقي الأميركي '13th' للمخرجة الأميركية آفا دوفيرناي ما تعنيه كلاويتر بأنظمة الأمراض، إذ يبيّن كيف موضعَت أجهزة السياسة البيولوجية الأميركية - معطوفةً على أنظمة الأمراض - عددًا من الجماعات كالمثليّين والمثليّات، الأميركيّين الأفارقة والأميركيّين اللاتين، كفئاتٍ تشكّل خطرًا "إجراميًا" على المجتمع الأميركي. وإلى جانب إتاحتها استباحة هذه الأجساد، أرسَت هذه الموضَعة في المخيال الاجتماعي رابطًا بين تعاطي المخدّرات والجريمة، أو المخدّرات والهوية الجندرية، أو تعاطي المخدّرات ورجل العصابات الأسود. وكان لهذه السياسات أثرٌ هائلٌ في قبول المجتمع الأميركي - بل حتى دعمه - لمعاقبة تلك الأجساد، وسجنها، وتأديبها، وإصلاحها، واستباحتها، وتهذيبها، وصولًا حتى إلى قتل كلّ ما هو "مختلفٍ" ومبنيّ كـ "مجرمٍ" وفقًا للخطابات السياسية، الطبّية والقانونية الأميركية. 

يمثّل هذا الخطاب نموذجًا عن إبستمولوجيا الجهل - أي ما لا نعرفهُ بدلًا ممّا نعرفه - وكيفية تأثير انعدام المعرفة القصدي على السياسات التي ترتبط بتعاطي المخدّرات أو علاج المتعاطين والمتعاطيات وحال الاستثناء التي يخضعون لها مجتمعيًا وقانونيًا. لذا، لا بد من طرح بعض الأسئلة: ما هو الجسد المخفيّ الذي يُقدَّم لنا على أنّه جسد المتعاطي/ة؟ وما الذي لا نعرفه؟ يجبُ النظر إلى الأجساد لا على أنّها مواقع محايدةٌ جندريًا ذات بُنًى حتميةٍ محدّدةٍ سلفًا، بل على أنّها مواقع تتلاقى فيها إبستمولوجيا الجهل (إرادة عدم المعرفة) والمعرفة بحقل المخدّرات، تعاطي النساء، الأنوثة، القوالب النمطية السلبية، الوظائف الإنجابية، الخطابات التحذيرية، ممارسات الإدارة، الاستجابات الفسيولوجية والعلاجية وأنظمة العلاج والتأثير. كذلك، عند التفكير في حقل المخدّرات، تجب ملاحظة الأجسام وتصرّفاتها ومادّيتها من خلال مراقبة الحركات التي تقوم بها، فقد يتيح لنا ذلك التعرُّف إلى السلطات التي تمارس سطوة التأديب على تلك الأجسام. فالسّلطة هي التي تُشكّل الأجساد بعدما تستحوذ عليها، وتحافظ على استمرارية أفعالها وتنظّمها، كما تُعيد تشكيلها وتأديبها من خلال إلزامها بتكرار أفعالٍ جسمانيةٍ معيّنة.

 

  • 1. Ettorre, Elizabeth. 2015. “Embodied Deviance, Gender, and Epistemologies of Ignorance: Re-Visioning Drugs Use in a Neurochemical, Unjust World.” Subst Use Misuse. May. 50(6). P. 794-805
  • 2. Ettore, Elizabeth. 2008. “Seeing Women, Power, and Drugs through the Lens of Embodiment.” In Neither Villain nor Victim: Empowerment and Agency Among Women Substance Abusers. Anderson, Tammy L. (ed). P. 33-48. London: Rutgers University Press
  • 3. Campbell, Nancy Duff. 2000. Using Women: Gender, Drug Policy, and Social Justice. New York, NY: Routledge
  • 4. يُشيرُ مفهوم الانحراف العصبيّ إلى التفكير في السلوك الإدماني بوصفهِ نتاج علّةٍ عصبيّةٍ تجعلُ الجسد أكثر قابليةً لـ"الانحراف" كما تعرّفهُ السلطة، ويستتبع ذلك وضع أنظمةٍ علاجيّةٍ ودوائيةٍ تستهدفُ علاج الدماغ كيميائيًا بوصفه مصدرًا للسلوك الإدماني.
  • 5. Ettorre, Elizabeth. 2015. “Embodied Deviance, Gender, and Epistemologies of Ignorance: Re-Visioning Drugs Use in a Neurochemical, Unjust World.” Subst Use Misuse. May. 50(6). P. 794-805
  • 6. على سبيل المثال، تمكن مراجعة أبحاث دارين واينبرغ (2002) حول الإدمان.
  • 7. Weinberg, Darin. 2002. “On the Embodiment of Addiction.” Body and Society. 8(4). P. 1-3
  • 8. Foucault, Michel. 1998. The History of Sexuality: The Will to Knowledge. London, UK: Penguin. P. 63
  • 9. Chomsky, Noam, and Michel Foucault. 2006. The Chomsky-Foucault Debate: On Human Nature. New York: New Press
  • 10. Mennell, Stephen. 1991. “On the Civilizing of Appetite.” In The Body: Social Process and Cultural Theory. Featherstone, Mike, Mike Hepworth and Bryan Turner (eds). London: Sage. P. 126–154
  • 11. يُشير مصطلح الذّات الجسمانية إلى طريقة التّفكير في الذّات من خلال الجسد، أي الذّات التي يُفكّرُ فيها وتفكِّرُ بنفسها بواسطة الجسد لا بشكلٍ منفصلٍ عنه.
  • 12. باومان، زيغمونت. 2016. الحداثة السّائلة. ترجمة حجاج أبو جابر. الشبكة العربية للأبحاث والنشر: بيروت. ص 120-121.
  • 13. Ettorre, Elizabeth. 2015. “Embodied Deviance, Gender, and Epistemologies of Ignorance: Re-Visioning Drugs Use in a Neurochemical, Unjust World.” Subst Use Misuse. May. 50(6). P. 794-805