الجزائر: ركض وتحرش وتضارب العقليات

الحادثة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، ولكنها فتحت المجال لنقاش عام وألهمت أخريات للخروج عن صمتهن والتحدث عن تجاربهن أيضا.

تابعت مؤخرًا حملة شرسة استمرت لعدة أيام على مواقع التواصل الاجتماعي، وكانت مثالًا على مدى تضارب العقليات داخل المجتمع الجزائري. تعجبت كثيرًا من ردود الأفعال التي برزت في هذه الحملة وقررت أنه لا بدّ أن أكتب عنها، فهذه الحملة لم يكن ينبغي لها أن تحدث في سنة 2018 التي شهدت حملات عالمية تنصّرت لحقوق المرأة بشكل غير مسبوق.

بدأت هذه الحملة الإلكترونية بعد أن تعرضت فتاة جزائرية لاعتداء جسدي ولفظي بينما كانت تمارس رياضة الجري في غابة بوشاوي في العاصمة الجزائر، قبل ساعة من موعد الإفطار في شهر رمضان الفائت. اعتدى عليها شاب مجهول بشكل أقل ما يقال عنه أنه دنيء؛ ضربها وقال لها "بلاصتك في الكوزينة". لم تقدر الفتاة على تحمل الإهانة وتوجهت إلى مركز أمن للتقدم بشكوى رسمية، لكن رجل الأمن تصرف معها بذات العقلية الذكورية ورفض تسجيل الشكوى، قائلًا إنه كان يجب عليها البقاء في البيت وعدم الركض في ساعة مماثلة، متناسيًا أن القانون الجزائري يضمن حرية المرأة داخل البيت وخارجه من أي تعدٍّ لفظيٍ أو جسدي.

هالها الأمر وقررت أن تحكي قصتها على وسائل التواصل الاجتماعي، فنشرت فيديو سردت فيه تفاصيل الحادثة وناشدت الجمهور باكية: "هل هو حرام على المرأة أن تمارس الرياضة؟ أهذا معقول؟" انتشر الفيديو بسرعة كبيرة، وأثار موجة من ردود الأفعال المتضاربة، والتي أبرزت مدى اتساع الفجوة الفكرية بين الجزائريين؛ فهناك من طالب بوضع حد للاعتداءات واحترام حرية المرأة، وهناك من أبدى تعاطفًا مع الفتاة لتعرّضها للضرب والشتم ولكنه راح يلومها أيضًا لأنها خرجت للشارع لتمارس الرياضة، وهناك من ذهب إلى ما هو أبعد وقال إنها تستحق ما جرى لها، وأنه كان عليها البقاء في البيت وممارسة الرياضة في الداخل.

من أين جاءت هذه النظرة الدونية للمرأة؟ ولماذا يحلّل البعض لنفسه التحرش والاعتداء على المرأة وكأنه حق من حقوقه؟

كلما سمعت عن واقعة تحرّش أو اعتداء لا يسعني إلا أن أتساءل: من أين جاءت هذه النظرة الدونية للمرأة؟ ولماذا يحلّل البعض لنفسه التحرش والاعتداء على المرأة وكأنه حق من حقوقه؟ لماذا يتذرّع عند الاعتداء بلباس المرأة مثلا؟ لماذا يعتبر الرجال الجزائريون أن الفضاء الخارجي حكرٌ لهم فقط؟

الشريحة التي تضامنت مع الفتاة كانت كبيرة، فقد قامت ناشطات وناشطون بتنظيم حملة "ارواحي تجري" للوقوف ضد أي عنف يمارس ضد المرأة. ركضن وركضوا معًا بنفس الوقت الذي ركضت فيه الناجية رافعات شعارات تقول "خليها طرونكيل"، و"بلاصتي وين نحب مشي في الكوزينة". تحولت هذه الشعارات إلى هاشتاغات وانتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي. وكان من بين المشاركين في الحملة الكاتب والإعلامي الجزائري احميدة عياشي، إذ انضم إلى الماراثون التضامني ونشر تعليقًا على صفحته على موقع فيسبوك يقول: "لماذا جريت من أجل ريم؟ ريم فتاة تعرضت للاعتداء لأنها جرت في ساحة عمومية وفضاء عام...جرت لأنها اعتقدت أنها حرة في مجتمع حي. جريت من أجل أن يحترم الشخص في بلادي في كرامته ويُصان في حريته.. جريت من أجل جزائر مؤنثة و مذكرة".

ولكن هناك فريقٌ آخر شنّ حملات معادية وشرسة. فحتى وإن كانت الحادثة فردية، فإن حجم من أيّدوا الاعتداء كان دليلًا على مدى عمق المشكلة. هؤلاء اعتبروا أن المتضامنات مع الفتاة "عديمات أخلاق ويجب التحرش بهن"، واعتبروا أنه لا يوجد سبب في المقام الأول لأن تخرج المرأة من حدود المطبخ. قالوا:"لو كان لهؤلاء البنات أخ أو أب بمعنى الكلمة، لما سُمح لهن بالخروج أصلا"، "وبنات الفاميليا (البنات المحترمات) لا يخرجن للشارع لممارسة الرياضة". وقد ضم هذا الفريق أيضًا فتيات ونساء حملن لافتات تقول "مكاني حيث يحب زوجي" و"مكان المرأة الصالحة هو المطبخ".

بعض الشباب ذهبوا إلى أبعد من ذلك ودعوا إلى رش الآسيد "روح الملح" على كل فتاة تلبس ملابس كاشفة في نظرهم، محرضين على العنف بطريقة علنية تحت شعار "اضرب واهرب". في هذه المرة فقط قررت السلطات الجزائرية التعامل مع الأمر بحزم واعتقل صاحب الحملة فورًا بعد الوصول إليه.

ما نتج من نقاش بعد هذه الحادثة له دلالاتٌ خطيرة، فهناك شقٌّ كبير في المجتمع لم يرَ في الحادثة تحرشًا، ولم يرَ في الفتاة ضحية جريمة عنف وإنما اعتبر الاعتداء عليها مبررًا. هذه الشريحة التي تستصغر المرأة تضرب بعرض الحائط تاريخ نضال النساء الجزائريات اللواتي قاومن من أجل حقوقهن.

حتى رئيسة الجمعية الجزائرية لترقية وحماية المرأة الجزائرية (جمعية مستقلة) نادية دريدي، قالت في حديث لوكالة الأناضول التركية أنه "من حق المرأة أن تمارس الرياضة في رمضان، لكن شريطة أن لا تغضب الرجال بتصرفات غير لائقة"، وهي بذلك تعتبر أن للمرأة حق من جانب، لكنها تنكره من جانب آخر.

وكتب أحد المعلّقين على وسائل التواصل الاجتماعي على حملة #ارواحي_تجري "هذا آخر الزمان، منذ متى أصبحت المرأة تخرج إلى الشارع بلباس فاضح و في رمضان و تحمل لافتة مكتوب عليها "مكاني ليس في المطبخ".

أما فاطمة سعيدي، النائبة البرلمانية عن حركة "مجتمع السلم"، أكبر حزب إسلامي في الجزائر، فلقد وقفت إلى جانب الفتاة التي اعتدي عليها، معتبرة أنه لا بد من تغيير الذهنيات، كنظرة الرجل الدونية إلى المرأة". وتتابع: "بالرغم من ترسانة القوانين التي تصبّ في صالحها إلا أن العنف الجسدي واللفظي مازال يمارس عليها و يجب الحد منه".

لا يبدو أن الحملة الذي شنّها الشقّ المحافظ ضد الفتاة قد نجحت في ثني الجزائريات عن الخروج وممارسة حقوقهن كالركض وغيرها. لكن الحادثة والنقاش الذي تلاها يجسدان ما تعاني منه الجزائريات في مجتمع ذكوري لا يزال أمامه شوطٌ طويل قبل أن ينبذ العنف والتمييز الجنسي والتحرش.