يوم تدلت فرحاني بحبل من زيتونة أبي

30/08/2021
1050 كلمة

  * ملاحظة: محتوى المقال قد يكون مؤلمًا أو حسّاسًا لبعض القارئات والقرّاء.

اليوم تحديدًا، لملمتُ كل شجاعتي، شجاعتي الأبدية، وشجاعة اللغة، وشجاعة الأم التي تسكنني وشجاعة الكتابة المزعومة، كل الشجاعة التي أمتلكها في حياتي، لأتحدث عن انتحار ابنة عمتي البالغة من العمر 45 سنة فقط والذي مرّ عليه أكثر من شهرٍ وثلاثة أيام.

قتلت "فرحاني" نفسها. هكذا جاء الخبر. اسمها فرحانية، وهو اسمٌ نادرٌ وظريفٌ يعبّر عن الفرح الجامع والجامح. ابنة عمتي فرحانية يتيمة، ربّاها عمي مصطفى بعد أن انتحرَت أخته زهوى، عمتي التي لا أعرفها. عمتي زهوى هي الحكاية المدفونة وسط خرافات العائلة. الكل يخشى الحديث عنها، وقد علمتُ بالصدفة من أمي أنها تناولت سمّ الفئران هربًا من تعنيف زوجها لها. ضرب النساء وإهانتهنّ أمرٌ "عاديّ" في منطقةٍ قصيةٍ بجبل زغوان في تونس تُسمى واد الصبايحية، حيث كان يُقتل قوّادو فرنسا في خلال مرحلة الاستعمار.

كانت فرحاني طريفةً ورقيقة. كانت تحبّ أبي وعمي الأكبر، وهما كانا يُحبّانها كثيرًا كأنها الدرّة الفريدة بيننا، لا من باب الشفقة ربما، فالشفقة تمتد لزمنٍ معين، بينما هما أحبّاها لعمرٍ طويلٍ حتى اللحظة الأخيرة من حياتهما. فرحاني كانت ببساطةٍ الضحكة الصافية. كانت تجلس بجانب أختي الكبرى التي تدرس الفلسفة، فتضحك كثيرًا من وقارها، وقار المعرفة، فتبعث فينا مرحًا لا نعرف كنهه. كانت ذات سمرةٍ رقيقةٍ وحادةٍ في آن. تتحدث بشغفٍ عن بقرتها أو عن معزتها التي أسمَتها "رايونو" لشبهها بجميلات القناة الإيطالية. وفي كلّ مرّةٍ كنت أقصد فيها الجبل لزيارتها، كان يُهيّأ لي أن الجبل هو فرحاني، مفزعٌ وحادٌ وحنونٌ مثلها. كانت يتيمةً بلا أمٍ ولا أب، لكنها كانت تمتلك الجبل في كفةٍ والحياة في كفةٍ أخرى. كانت قادرةً على بعث الحياة في الصخر، فجعلَته يردّد صداها. أخبرني أخي أن فرحاني وضعَت حدًّا رفيعًا ونهائيًا لحياتها.

ليلتها، كنت قرأتُ شيئًا من مسرحيةٍ ألمانيةٍ وبعض الأخبار عن تونس، ثم فتحتُ قنّينة نبيذي الأحمر المفضّل وشاهدتُ فيلمًا. جاء الخبر. سقط كل شيء. هكذا، سقط شهيقي. بدأتُ باسترجاع غضبي كي أسترجع السؤال. كيف تموت فرحاني هكذا، بكل مجانية السؤال وجرح النفس؟ لماذا تختار الصدفة روح فرحاني الصافية؟

سقط كل شيءٍ أمامي وبقيتُ أرى فرحاني تتدلى من حبل زيتونة أبي في جبلٍ قصيّ في بلادٍ اسمها تونس في قارةٍ اسمها إفريقيا يعتبرها بعض المفكّرين خارج الحداثة

فرحاني لا ذنب لها في كل هذا. سقط المسرح، ثم سقطت الفلسفة، وإذا بالحدث يسقط لتليه الخرافة والميتافيزيقيا وكل الحب. سقط كل شيءٍ أمامي وبقيتُ أرى فرحاني تتدلى من حبل زيتونة أبي في جبلٍ قصيّ في بلادٍ اسمها تونس في قارةٍ اسمها إفريقيا يعتبرها بعض المفكّرين خارج الحداثة. لكن فرحاني غادرَت بإرادتها. لم أستطع الوقوف. اتصلتُ بزوجي حمّة لأخبره بانتحار فرحاني، طالبةً منه الحضور على عجلٍ لنقصد الجبل. مرّت الساعات ببطء السؤال وحده؛ السؤال عمّن يمتلك حقيقة الذنب.

جاء زوجي فجرًا. ذهبتُ إلى جثة فرحاني بكل أنانية السؤال أو ربما الجواب، فلم أجد شيئًا سوى الجبل نفسه، والأشجار نفسها، والقمح اليانع وأشجار اللوز المثمرة. لا شيء حزينٌ ودفينٌ هنا سوى شهيقي. وجدتُ أمي تبكي بكاءً مرًّا. أخبرتني أن فرحاني جهّزت منزلها لجنازتها. وجدتُ زوجها القاتل. وجدتُ ابنها الكبير والآخر الصغير. وجدتُ روحها تعاتبني كثيرًا؛ روحٌ قاسيةٌ ذبحَتني بعتابٍ قاسٍ وهي تلفّ حبل المشنقة على زيتونة أبي ثم على عنقي، فاستسلمتُ لعتابها، لكنها رمَتني من أجل ابني، غيلان، الذي كانت تحبّه جدًا وتقبّله كثيرًا كلما زارها. ضممتُ ابنها الأكبر لكنه طوّقني بالحقيقة. كان يبلغ السادسة عشرة من العمر. كان أطول قامةً مني بعض الشيء. عانقتُه لمواساته، فعانقني لفترةٍ دامَت طويلًا من منظور أزله الخاص. أسرّ لي في أذني وقلبي أنه هو من فكّ حبل مشنقة أمه.

زارتنا فرحاني قبل ستة أشهرٍ من انتحارها لتشكو زوجها المُعنّف. جاءتنا منكسرةً وحزينةً لفراق أبي وعمّي، رفيقيها الأبديّين. قصدَتنا وفي حلقها غصّةٌ أزليّةٌ منذ أن انتحرت ابنتها في سنّ الثامنة فقط. كانت الفتاة الصغيرة تحمل اسمي ووجه أختي دلال. ولمّا سألنا فرحاني عن سرّ ذلك الشبه، أخبرتنا أنها تتمنى لابنتها حظًا من المعرفة مثل حظّنا نحن، تعويضًا عن قدرها هي التي لا تعرف الكتابة ولا القراءة.

ضمّني ابنها بقوّةٍ وأخبرني أنه فكّ الحبلَين: حبل أخته ثم حبل أمه.

ذهبتُ إلى شجرة أبي، الزيتونة الجميلة اليانعة. أكل الزمانُ ابنة عمتي فرحاني وابنتها سهام قبلها، ولا تزال الزيتونة تنتظر ربيعها. خفتُ منها ومن زيتوناتها. لم تأتِ أختي الكبرى إلى الجنازة بسبب حضور زوج فرحاني العنيف الذي تسبّب في انتحارها. أخافني غياب جميع إخوتي. وحده أخي الكبير كان حاضرًا. رأيته تحت ظل الزيتونة وصافحتُه يوم الجنازة بعينٍ محتشمةٍ ومكلومة. كانت عيناه تردّدان بكثيرٍ من الذل والقهر أنه لم يذنب لأنّه لم يمنع فرحاني وهي تمسك بحبل مشنقتها الحقيقيّ وهو زوجها العنيف ولم ينقذها منه. كان شقيقي ذليلًا أمام موت فرحاني وصغيرًا، صغيرًا جدًا. كان يجلس تحت الزيتونة بجانب زوجي الذي أحاط فضاء الجنازة بالصفاء ومسح من على أكتافنا كل أثقال ذنبٍ غير مغتفر.

ظلّت أختي الكبرى مُغتاظة، ولم تتصل بي بعد انتحار فرحاني. لعلّنا كنا نتفادى الكلام. لكني اتصلتُ بها، فانهارَت وسقطت كحصانٍ يهوي أرضًا. بعدها، ظلّت منعزلةً عن الجميع إلى أن التقينا صدفةً بمنطقة حلق الوادي. ارتوَت أنفسنا من اللقاء، ثم غمرتنا الدموع الحبيسة. واجهَتني يومها بقدرتي على حضور الجنازة، فأخبرتها أنّي أردتُ وداع فرحاني حضورًا. اختصمنا كثيرًا وكان غضبها شديدًا ومستحيلًا. ثم لمستُ يدها وطلبتُ العفو الأبدي. كنتُ صاغرةً أمام انتحار فرحاني، وكانت هي غاضبةً من ذلك الزوج الوحش، معتبرةً أنّ الجميع مسؤولٌ عن انتحارها وانتحار عشرات النساء بسبب العنف.

موت فرحاني يمرّ بجانبنا وسيظل معنا سؤالًا لا نصًّا، أو ربما جرحًا غائرًا سوف نخفيه في ما بيننا مثلما تقول أختي. هو سرّنا المرّ.

أحسستُ بلَوعةِ أختي الكبرى وهي تذرف الدمع. بكينا كثيرًا، وكان بكاؤنا بكاءَ من خسر الحقيقة. أخبرتني بنبرةٍ ساخرةٍ أنّها لا تستطيع تحويل انتحار فرحاني إلى درسٍ فلسفي، وحذرتني بالنبرة ذاتها من تحويل وجع الغياب إلى نصّ. وعدتُها حينها ألّا أكتب، لأنّ انتحار فرحاني فوق الكتابة. موت فرحاني يمرّ بجانبنا وسيظل معنا سؤالًا لا نصًّا، أو ربما جرحًا غائرًا سوف نخفيه في ما بيننا مثلما تقول أختي. هو سرّنا المرّ. السّر الذي نعيشه كل لحظةٍ نقول فيها "صباح الخير أيّها العالم".

غادرتُ جنازة فرحاني أنا وزوجي حمّة. لم نتبع السيّارة التي حملَت جثمانها، بل انعطفنا نحو طريقٍ أخرى تؤدّي إلى المقبرة. وقف حمّة أمام الزرع، ثم ترجّل من السيارة وقصد أشجار اللوز كي يجمع لي لوزًا أخضر ويكسّره ويمدّه لي، بينما كانت دموعٌ باردةٌ تملأ عيني. أكلتُ اللوز الأخضر. نظرتُ إلى الجبل بعتابٍ بارد. أردتُ أن أسأله لماذا اختارت زيتونته عنقَ ابنة عمتي الطيبة، ولم يخترها المسرح أو الفكر أو المعرفة؟

أظن أن الجبال تحبّ الأبرياء. وأنا لا أحبّ الجبال.

سيظلّ السؤال خانقًا وحارقًا: لماذا أخذوا فرحاني الخالية من كلّ ذنب؟ لماذا تنوء البريئات تحت أثقال العالم وأعبائه؟ لماذا لا يتوقف كل هذا ليبدأ الإنسان مرةً أخرى من زيتونةٍ لا تحمل حبل مشنقة، بل تزهر مثلما شاء لها ربّ الطبيعة؟

أيها البلد الصغير واللذيذ، أيها البلد الرؤوف، تنحّ عن أغصان الشّر، ولتجعل الزيتونة أرحبَ من حبل المشنقة، ولتجعل حياة النساء أكثر خفّةً ولطفًا.