كيف نقطع أجنحة الملاك المزيّفة؟ عن جنسانيّة ذوي الإعاقة في السينما

18/07/2019
1670 كلمة

اذا كان لكلّ سؤال متعلّق بالجسد إجابة علميّة، فإنّ السينما، خلقت لكلّ شعور صورة وطرقًا إبداعيّة للتّعبير عنه.

"منذ البداية، علمت بأن لا حظّ لي في هذه اللعبة، لأنّ أفظع ما يمكن أن يحدث، هو أن تُرفض. نحن نحمي أنفسنا بعدم التعبير عن انتظاراتنا ورغباتنا، لينتهي بنا الأمر دون أيّة رغبات"، هكذا تقول أورسولا، إحدى شخصيات فيلم Amour Handicapé للمخرجة السويسرية مارليز غراف التي حاولت جمع شهادات لمجموعة من ذوي الإعاقة الجسدية، يتحدّثون فيها عن تجاربهم الجنسيّة، وإدراكهم الخاص لجنسانيّتهم وتعامل كلّ منهم معها. تحدّث الجميع باستفاضة عن تجاربهم الخاصّة، لكنّ أورسولا، كانت الوحيدة القادرة على تلخيص العلاقة التي تجمع بين "الأسوياء" وذوي الإعاقة الجسدية، والهوّة الكبيرة التي تقع بين نظرة كلّ لنفسه ونظرة الآخر له، خاصة فيما يتعلّق بالحياة الجنسية. تتمثل هذه النظرة في اعتبارهم كائنات "لاجنسية"، هي ليست فقط غير مؤهلة لممارسة الجنس بشكل طبيعي إنّما ليست مؤهلة لمجرّد التفكير فيه. 

إنّها صورة "الملاك" التي يتبناها العالم الخارجيّ عن حامل الإعاقة الجسدية، ليصبح في أذهانهم رمزًا للعفة والطهر. لا يُمكنهم تخيّله في إطار علاقة جنسية ولا حتّى حاملا لرغبات من هذا النوع، لأنّ عدم القدرة على فعل شيء، تعني بالضرورة لديهم عدم التفكير فيه. هذه الاعتقادات نابعة من تصوّر ميتافيزيقي بامتياز، ينفي قدرة العقل على التطلّع إلى حياة جنسية طالما كان جسده عاجزًا عنها، ويقرّ بأنّ الجسد هو الوحيد القادر على المجاهرة بمثل هذه الحاجيات التي لا يعرفها ولا يعيها غيره. كلّ هذا يأخذنا إلى تساؤلات عدّة؛ أيّ جسد قادر على ممارسة الجنس؟ وأيّ حياة جنسية لذوي الإعاقة الجسدية؟ أيّ تصوّر يحمله هؤلاء لجنسانيّتهم وكيف يعبّرون وتعبرن عنه؟

اذا كان لكلّ سؤال متعلّق بالجسد إجابة علميّة، فإنّ السينما، خلقت لكلّ شعور صورة وطرقًا إبداعيّة للتّعبير عنه، وإذا كان قصور الحركة عبئًا ثقيلا على الجسد يرسم حدودًا له، فإنّها تشكّل في نفس الوقت حمولة إبداعية كبرى في السينما، ومجالا شاسعًا للتأويل والفهم. لهذا لعبت السينما دورًا مُهمّا في دحض الملائكية المزيفة المسقطة على حاملي الإعاقة الجسدية لتدخل بنا في عالمهم النفسي والجنساني، في الاختلافات الدقيقة بين إعاقة وأخرى، وتأثير كلّ منها على زاوية التفكير في الجنس وكيفيّة ممارسته.

 

Rust and Bone (صدأ وعظم) لجاك أوديار (2012)

في هذا الفيلم، نلتقي بستيفاني، مُدرّبة الدّلافين التي تقدّم استعراضات رقص أمام الجماهير، ونعيش تجربة شخص كان سويّا ثم انقلبت حياته ليصبح فاقدا لساقيه. لقد تعرضت ستيفاني إلى حادث مُروّع خلال إحدى الحفلات التنشيطية التي تقدّمها بصحبة فريقها مع الدلافين. شكّلت هذه الحادثة منعرجًا في حياتها، ليس فقط لأنّ هذا العجز قد منعها من مواصلة الحياة بنفس النسق الفوضويّ الذي كانت تعيشه، لكنّه مهّد لتغيير جذريّ في نظرتها العامّة للأمور، للحب وللعلاقات وخاصة للجنس. قد لا تنطق ستيفاني بهذه الأفكار خلال الفيلم، لكنّنا نُدركها في كلّ تفاصيل انطوائها، وفي انحنائها المفاجئ للحياة بعد أن كانت تعاملها كندّ بالرّقص والسهر والسّكر الثقيل. كانت تجلس على كرسيّ متحرّك وتحاول إعانة نفسها بمفردها رافضة كلّ زيارة أو تدخّل خارجيّ من شأنه أن يشعرها بأنّها محلّ شفقة أو عطف. لم تطمئنّ ستيفاني خلال هذا المخاض سوى لشخص غريب، هو علي، عون حراسة في حانة، تدخّل ذات يوم لفضّ شجار بينها وبين أحد الروّاد. كانت سكرانة، أوصلها إلى منزلها وترك رقمه علّها تتّصل به يومًا.

لا بدّ أنّ مرحلة كهذه، يتحوّل فيها أحدهم من حالة "طبيعيّة" إلى وضع خاصّ، هي بالضرورة معركة مع الجسد بالأساس، هذا الجسم المتكامل الذي كان قادرًا على فعل كلّ شيء تقريبًا، أصبح فجأة عاجزًا على تلبية أبسط الحاجيات اليومية للإنسان. نحن لا نعي أحيانًا مشاكلنا الحقيقيّة، ننكرها ونفضّل تجاوزها، فنقوم بتصعيد نفسيّ ينعكس في تفاصيل فارغة، نختلق به مشاكل وهميّة وننتهي منه إلى توهان تام. نحن دائمًا في حاجة إلى آخر يضعنا دون مقدّمات أمام هذه المشاكل الجديرة بالمواجهة والحلّ.

علي، رجلٌ شهم، عفوي وعنيف، لا يحمل أيّة طموحات سوى كسب المال من خلال الملاكمة لإطعام ابنه. لا توجد امرأة بحياته، يقيم علاقات جنسية متعدّدة، لا للمجون إنّما فقط للاكتفاء. في أوّل لقاء مع ستيفاني بعد تعرّضها للحادث، تعامل معها بشكل بديهي أقرب للغريزي في محاولته لمساعدتها وإخراجها من عزلتها حيث أخذها إلى البحر. بعد أشهر من العزلة في المنزل كان ذلك اليوم، هو أوّل لقاء لستيفاني مع البحر ومع جسدها الجديد. غير قادرة على مقاومة جاذبية البحر، نزعت ستيفاني كلّ ملابسها طالبة من علي مساعدتها على النزول للسباحة.

لا يمكن أن نتحدّث في هذه الحالة عن تجربة مصالحة مع الإعاقة، لكنّها كانت بالنسبة إلى الشخصية، بمثابة إعادة اكتشاف لجسدها في ثوبه الجديد، هذا الجسد الناقص الذي جاد عليها بكرم غريب، بتمكينها من السباحة بمفردها في حركات تتجاوز فعل السباحة العادي إلى رقصة انعتاق إيروسية أنيقة. تجربة ستيفاني الأولى مع جسدها العاري، دفعتها نحو التغيير، لتحصل أخيرًا على ساقين اصطناعيّتين تمكّنت بفضلهما من استعادة المشي ولو بشكل محدود. في حديث لها مع علي عن علاقات الحب، قالت بأن أحدًا لن يهتمّ لأمرها بعد الآن، مُلمّحة في ذلك إلى صعوبة إقامة علاقة جنسية. وبكلّ عفوية العالم، عرض علي خدماته الجنسية التي لم ترفضها ستيفاني. تجربة أولى ناجحة وبراغماتية بالأساس، غيّرت مجرى حياة الشخصين ليتشاركا معًا العمل والحياة. لا يحقّ لنا الحديث عن نشوء علاقة حب بين ستيفاني وعلي، لأن لا أحد منهما نطق بهذا الأمر، لكن، رغم نفعيّة العلاقة، لا يمكن أن ننفي وجود صدق ما وبوادر تطوّر جدّي، أعلن عنه المخرج في مشهد النّهاية.

إعاقة ستيفاني الجسديّة لم تكن سوى مشكل عرضيّ زائل، لا يقف حاجزًا أمام إقامة علاقات جنسية بها من الشغف ما يكثّف من إمكانيّات تواصلها إلى الأبد، وأنّ الجنس، هو حلّ طبعًا، لكن لا يمكن أن يأتي قبل مكاشفة ذاتية وفردية مع الجسد الذي إن لم نُمهله وقته، لن يُمهلنا الحياة.

 

The Tribe (القبيلة) لميروسلاف سلابوبيتسكي (2014)

فيلم عنيف، بكل ما تحمله الكلمة من معنى. دون ترجمة أو حوار، يصوّر ميروسلاف حياة عصابة من التلاميذ في معهد خاص بالصم والبكم لا يخضع إلى أية رقابة أو سلطة، هو عبارة عن غابة لا يستمرّ فيها سوى القوي جدًّا. سرقة، بغاء، تزوير، قتل، مخدّرات، هي حياة هذه المجموعة التي يدخلها سيرجي كطالب جديد ويفتكّ مكانته فيها. هي تصغير للمجتمع الأوكراني، بعنفه الدفين ومشاكل الهوية التي تشوبه.

اختار المخرج لشخصياته ألاّ تتكلّم سوى بالإشارات، ولرهان سينمائي متعلّق بالمصداقية، قرّر أن يكون كل أفراد طاقم التمثيل مصابين بالصم والبكم فعلا حتى لا يفتعلوا ذلك خلال التصوير. نحن لسنا أمام خيار مجانيّ، فقد أراد ميروسلاف أن يعكس مشاكل التواصل في مجتمعه واختار لشخصيات فيلمه إعاقة من شأنها أن تختصر كلّ ما يولّده هذا العجز عن التواصل من عنف وتشنّج كبيرين.

يقع سيرجي في حبّ آنيا، إحدى الطالبات اللاّتي يستخدمهنّ أفراد العصابة في شبكة البغاء التي يديرونها في أركان ميناء يهجره الجميع بالليل، ولا يزوره سوى الباحثون عن الخدمات الجنسية. ربّما لا نجد أيّة استثنائية في هذه التجارة، فهي ظاهرة منتشرة بشدة في جميع الأوساط، لكن في حالتنا هذه، تتجاوز فكرة التجارة الجنسية الحاجة للمال فقط، لتكون تعبيرة جسدية تعوّض ألمًا داخليًّا ليس محلّ وعي في أغلب الأحيان، لكنّه مصدر انفعالات تتجسّد في الحركة الكثيرة أحيانًا، وفي تعالي الأصوات أحيانًا أخرى، حتى عند التعبير عن أمور بسيطة خلال نقاشات عادية.

هذه الكثافة، تنطبق تمامًا على العلاقة الجنسية التي نشأت بين آنيا وسيرجي. علاقة لا تعرف الوسطية بأيّ شكل، متراوحة بين أقصى درجات الرقة وأفظع مراحل العنف. في مشاهد سينمائيّة أقرب إلى لوحات الرسم، يدخل سيرجي وآنيا إلى عالم آخر، يتوهان معًا بشغفٍ مرضيّ، لمسات ملهوفة ونظرات لا حدود لشهوتها، كلّ هذا، في عمليّة تكثيف لكلّ حركة وفعل علّها تعوّض الصّمت الطاغي على المشهد تاركةً العنان للغة الجسد الذي ينطق رغبةً وكبتًا قاتلين.

الجنس، هو المتنفّس الوحيد لكلتا الشخصيّتين، هي اللحظة التي تستكين فيها أصواتهما الداخلية المتعالية لتخوض رحلة صمت طويلة. لا شكّ أن لا أحد منهما يستمع إلى آهات الآخر متعة وانتشاء، لكنّه يراها في حركات الشّفاه والعينين، فيترجمها في ذهنه صورًا أو حركات.          

في الضفة الأخرى من العلاقة، يغتصب سيرجي آنيا بعد أن سرق من أجلها النقود حتى تجهض حملها منه. حركة وحشية، لم تجد الشخصية غيرها لتعبّر عن خوفها من فقدان هذه العلاقة وخسارة هذا الحب. حركة عنيفة تعكس مشاعر أعنف، يطغى فيها الجسد على العقل ويسيطر على كلّ موقف.

 

Hasta la vista (هستا لا فيستا) لجوفري إنتوفين (2011)

ينطلق الفيلم، بمشهد فتاتين تقومان ببعض التمارين الرياضية على شاطئ البحر، تمرّان أمام شرفة فيليب الذي يشاهدهما من على كرسيّه المتحرّك، نجده بعد ذلك بصدد الاستعداد للخلود إلى النوم، يضعه والداه على الفراش ويتمنّون له ليلة سعيدة، فيطلب من أمّه قبل خروجها أن تضع له يده في أيره حتى يستمني قبل النوم.

يعاني فيليب من شلل شبه تام، لا يشبع رغباته الجنسية سوى بمشاهدة الأفلام والفيديوهات الإباحية. في أحد الأيام، قام بإقناع صديقيه، وهما جوزيف، أعمى تقريبًا، ولارس الذي يعاني من السرطان فأصبح رهين كرسي متحرك، لمرافقته إلى إسبانيا، حيث يوجد بيت للدعارة متخصص في الخدمات الجنسية لذوي الإعاقة. على الرغم من مخاوفهم، ودون علمهم بتفاصيل الرحلة، وافق الآباء في البداية، لكن بعد تعكّر صحة لارس أُلغيت الرحلة. لكنّه أصرّ على الرحيل لأنّه لا يريد الموت قبل أن يعيش هذه التجربة فغادر الثلاثة خلسة بصحبة كلود، سائقة الشاحنة التي ستعتني بهم طوال الرحلة.

تتعدّد المغامرات خلال السفر ونشاهد منها أنواعًا عدّة إلا الجنس، كما لو أنّ إنتوفين قد فعل كلّ شيء، ليجعلنا نعيش مع الشخصيات معنى أن ننتظر مطوّلا حصول أمر تشتهيه عقولنا وكلّ تفاصيل أجسادنا. بمشاكل جسديّة مختلفة ومتفاوتة الحدّة، يكمّل الأصدقاء بعضهم البعض، ويلبي كلّ منهم حاجيات الآخر في حدود المستطاع. لكن هذه المرّة، نحن أمام حاجة مشتركة لا يمكن لأحد أن يقدّمها للآخر، هي الجنس. دون الوقوع في توسّل العطف والدموع، خلق جوفري من شخصياته الثلاث مجموعة محاربين، يعرفون جيّدا ما يريدون وكيف يصلون إليه رغم كلّ ما تعرّضوا له من صعوبات.

الأمر بسيط جدّا بالنسبة إلى هؤلاء الثلاثة، الجنس أمر لم نعرفه يومًا ووجب أن نعيشه ولو لمرّة في حياتنا، لهذا، ثابروا جميعا حتى يصلوا سالمين إلى هذه اللّحظة ويهدوا أنفسهم أفضل مكافأة على الإطلاق.

ارتاد أخيرًا لارس وفيليب مبغاهم المنشود، وبقي جوزيف الذي وقع في حب كلود معها. هناك، لا نرى ما يحدث مع كلّ منهما، لكنّنا نفهم كل شيء، عند خروجهما من الحجرات الخاصة، بوجوه قد أزيلت عنها كلّ ملامح الوهن واليأس. لم تنته بلاغة المخرج السينمائية هنا، بل في اختصار كلّ ما يمكن أن يقوله الأصدقاء الثلاثة عند التقائهم، بتصويرهم كأشخاص "أسوياء" في مشهد أقرب لمشاهد الحلم، يضحكون معا ويتحدّثون. مشهد قصير، انتهى بموت لارس جالسًا على الشاطئ في صباح الغد.

 

تكمن عبقريّة السينما في قدرتها على بثّ الحياة في نفوس الأفكار الجامدة في عروقنا والمشاعر التي يدفنها الخوف في مغاوير عقولنا، فتعطيها شفاهًا وأيادٍ وأرجل، لتتكلّم وتتحرّك بيننا بكلّ حريّة، وأكثر من ذلك، لتدخل إلى قلوبنا وتغيّر أفكارنا ونظرتنا إلى الأمور. هذا بالضبط ما فعلته الأفلام التي ذكرناها وكثير ممّا لم نذكره مع أصحاب الإعاقة الجسدية في علاقة بجنسانيّتهم المخبّأة بين طيات الخوف من نظرة المجتمع الدونيّة والتعجيز التعسفيّ الذي يرونه في نظرات الناس. يعطي "الأسوياء" أجنحة ملائكية لأصحاب الإعاقة الجسدية حتى يتم إعفاؤهم من ممارسة الجنس، وتعطي السينما أجنحة لرغبتهم حتى تغمر المحيطين بهم بصدقها ومشروعيتها الطبيعية.