ربابنةٌ بأقراطٍ ومسنّاتٌ ينصبنَ الخيام: التاريخ الكويري للجندر في ليبيا

02/08/2021
1526 wörter

إن انتقاد واستنكار أساليب اللباس "الجديدة" والتصرّفات الشخصية ومحاربة حرية التعبير الجندري في ليبيا اليوم، ليس له أيّ جذورٍ في تاريخ الثقافة المحلية. على العكس من ذلك، إنّ تنوّع الطبائع الجندرية والجنسية في ليبيا هو تقليدٌ بالغ القِدَم ساهم في تشكيل المجتمع وصياغته.

"لرجلة تحضر وتغيب" قولٌ ساخرٌ شائع الاستعمال في ليبيا، يُقصد به أن الإقدام والقوة يعتمدان على الموقف أو الخصم المقابل، ويُعد هذا القول من بين التعليقات الاجتماعية التي تنتقد تراجع مظاهر "الرجولة" في المجتمع، لاسيما مع انتشار موضة الملابس الضيقة والألوان الزاهية بين الشبان، والتصرفات التي يصفها المنتقدون بالميوعة. بيد أن التصريح بأنّ الرجولة تحضر وتغيب، هو إقرارٌ بأنّ مفهوم الرجولة أبعد ما يكون عن الثبات، إذ لا توجد معايير ثقافية واضحة للرجل والأنثى في ليبيا. في الواقع، ثمة شواهد عديدة تُظهر ثقافةً مجتمعيةً مشكّلةً على أساس مرونة الأدوار والهويات الجندرية والجنسية، تصل إلى حدّ تبادل تلك الأدوار وتداخلها، ما أبرزَ شخصياتٍ مميزةً ساهمَت في صوغ تاريخ البلد في مجالاتٍ عديدة. 

ولعل الشاهد الأول على مرونة الأدوار الاجتماعية ومفهومَي الرجولة والأنوثة، ظهرَ في ليبيا منذ عام 2000 قبل الميلاد، حيث تُظهر نقوشُ حَجَر باليرمو نساءَ القبائل الليبية باللباس الحربي الرجالي، وهي عادةٌ يبدو أنها كانت شائعةً حينها، إذ يتكرر ذلك المشهد في حروبٍ عديدة.1 

وبالرغم من أهمية تلك الظاهرة، إلا أنها لم تُدرس على نحوٍ كافٍ لمعرفة أسباب ارتداء اللّيبيات لباس الرجال الحربي في مواجهة جيوش إمبراطورية مصر القديمة. بيد أن المشهد نفسه صمَد بصورةٍ أخرى في الأعراس الليبية، إذ تجري العادة في ليلة النجمة2 من أسبوع العرس التقليدي بأن ترتدي إحدى قريبات أو صديقات العروس زيّ الرجل الشعبي، وترسم لحيةً على وجهها أو تضع شعرًا مستعارًا، وتؤدّي دور شابٍ جذابٍ يُغوي البنات ويقوم بايحاءاتٍ جنسية. 

والواقع أن مظاهر اقتراض أساليب اللباس وتشاركها بين الرجال والنساء في ليبيا كثيرةٌ ومتداخلة، ويُعد أبرزها لبس التلابا أو الحولي، لبساطة الرداء نفسه، ما يعكس صورةً واحدةً لكِلَي الجندرَين ويصعّب التفريق بينهما. واستمر الأمر كذلك حين دخلَت موضة السروال إلى ليبيا مع العهد العثماني، وكان في بادئ الأمر مخصّصًا للنساء، كما ظهرَت تنويعاتٌ عدّة للسروال أو الشروال النسائي.3 إلا أن الرجال أخذوا تلك الموضة بعدما تركوا القفطان الذي كان لباس الأمراء وأصحاب الشأن. ويُحكى على سبيل المثال أن البيك ابن علي باشا القرمانلي كان في موكب الباشا فوق حصانه يرتدي قفطانًا أخضر، قبل أن يصبح القفطان في ما بعد مخصّصًا للنساء!4

مظاهر اقتراض أساليب اللباس وتشاركها بين الرجال والنساء في ليبيا كثيرةٌ ومتداخلة، ويُعد أبرزها لبس التلابا أو الحولي

وكما كان ارتداء النساء ملابسَ الرجال لدواعي الحرب، كان ارتداء الرجال ملابسَ النساء ضربًا من ضروب المقاومة الداخلية، أو على الأقل شكلًا من أشكال نقد الدكتاتورية، وهو ما يتضح في قصة الفيلسوف الليبي أريستيبو (435 – 356 قبل الميلاد) الذي تتلمذَ على يد سقراط وعُرف عنه ارتداء الملابس المخصّصة للنساء وتأدية أدوارٍ كوميديةٍ لاذعة، لاسيما في بلاط ديونيسيوس، حاكم سيراكيوز المستبد. وكان ذلك من بين الأمور التي عرّضَته لانتقاداتٍ من زملائه الفلاسفة مثل أفلاطون وديوجين.5

تطور الأمر مع الفنان الفضيل بوعجيلة الذي مثّل شخصية خالتي مشهية، وهي سيدةٌ بدويةٌ ليبيةٌ لها مواقف طريفة مع العالم العصري تعكس ذكاءها واستقلال شخصيتها. ولعلّ أذكى ما في هذه الشخصية الأيقونية في الثقافة الليبية هو اسمها: "مشهية"، المكوّن من كلمَتين: (مش) و (هي)، أي "ليسَت هي"، في إشارةٍ إلى أنها ليسَت امرأة! بذلك المعنى، لا يُمكن لوم تلك العجوز على انتقادها الحالة السياسية والاجتماعية في ظل حكم النظام الجماهيري بزعامة القذافي، لأنها غير موجودةٍ أصلًا، فهي مش هي! 

كذلك اشتهرَت الممثلة بسمة الأطرش بتقديمها مشهدًا كوميديًا في مسلسل "ليبيات"، أدّت فيه دور رجلٍ متحرشٍ يلاحق فتاةً خجولةً أدّى دورَها ممثلٌ رجل، في محاولةٍ لقلب الصُّور النمطية عن أدوار الرجال والنساء في المجتمع الليبي.

ويشير تعدّد وجوه تلك الظاهرة وأمثلتها في تاريخ ثقافتنا إلى أنها لم تكن حالاتٌ "شاذة"، بل نماذج مميزة يُحتفى بها عادةً، لكنها تظل منطقةً غامضةً لا يفهمها المجتمع تمامًا. وتظهر هذه الإشكالية في التسميات والصفات التي اكتسبَت مع الزمن دلالاتٍ سلبية، مع أنها كانت تقصد في أصلها اللغوي استيعابَ أشخاصٍ يعبّرون عن أنفسهم/ن من خلال اللباس أو الأداء الفني أو التصرفات التي تتخطّى الحدود الجندرية السائدة. من هنا، ظهر لقبُ "عيشة راجل" المعروف في ليبيا والمغرب الكبير، على الرغم من أننا لا نعرف الكثير عن أصل التسمية، إلا أنها تُطلق عادةً على الرجال العابرين جندريًا والفتيات أو النساء اللواتي يكسرن الحواجز الجندرية. وعلى الرغم من وجود رواياتٍ أخرى عن انتشار اللقب في مجتمعات المغرب الكبير، إلا أننا لا نعرف أصله وجه الدقة.

لعل فوضى التسميات وتداخلها يعكسان "مرونة" الثقافة حيال الفئات المعروفة بتعابيرها الجندرية المتنوعة وغير المعيارية، ما يجعلها مقبولةً نوعًا

ويُستبعد أن تكون تلك التسمية ذات دلالةٍ سلبيةٍ في الأساس. كذلك يصادفنا في التباوية مصطلح "ديليهر" (Deliher) الذي يُستخدم في معرض ازدراء الرجل الذي يحمل صفاتٍ أنثوية. ففي أصل اللغة، يعني لفظ "ديلي" الرجل البتول، أما "هر" فيعني "عذراء". بذلك، تجتمع في شخصٍ واحدٍ صفتان شائعتان لجندَرين مختلفَين،6 وكلاهما يفيد العذرية. في الواقع، يُطلق هذا المصطلح المُستحدَث على الأشخاص الذين تجتمع فيهم/ن صفاتٌ منسوبةٌ للرجال والنساء، ما يذكّرنا باللاثنائية الجندرية (non-binary)، حين يتحرّر الشخصُ من الامتثال للمعايير المُجتمعية للرجولة والأنوثة، كما من الالتزام بدورٍ أو صفاتٍ جندريةٍ معيّنة.

وفي الأمازيغية، نجد أيضًا كلماتٍ تصِفُ بشكلٍ مبهَمٍ الأشخاص ذوي وذوات الصفات الذكَرية والأنثوية في آنٍ معًا، لعلّ أشهرها ㄣ十⊙ΛΛџ (يتسدغ) التي تحمل اليوم دلالةً سلبية، في حين كان المعنى الأصلي للكلمة يفيد "المشي بهدوء".7 لكن كما حال "عيشة راجل" و"ديليهر"، تتبدّل دلالة التسمية بين الإيجابية والسلبية بحسب ظروف المجتمع السياسية والاقتصادية. 

ولعل فوضى التسميات وتداخلها يعكسان "مرونة" الثقافة حيال الفئات المعروفة بتعابيرها الجندرية المتنوعة وغير المعيارية، ما يجعلها مقبولةً نوعًا، إذ يتملّص أفرادها من التنميط الاجتماعي عن طريق عدم تسميتهم/ن وعدم خضوعهم/ن لقولَبة المجتمع، بالتوازي مع مساهماتهم/ن في الثقافات المحلّية. ولعلّ الإبداع هو المساحة التي يجدُ فيها الشخص الكويري/ة مكانًا للتعبير عن الذات ويحظى بالتقدير الشعبي، مثل الراقص الشعبي، جميل، الذي احترف مرافقة الفنانات الشعبيات (الزمزامات) في الأعراس والسهرات الفنية، مرتديًا الأزياء النسائية التقليدية، فلا يُقام عرسٌ في المدينة إلا بحلوله مؤدّيًا عروضه الراقصة، ما أكسبه شهرةً في أوساط الفنانين وعموم أهالي طرابلس.8 ولا يقتصر الأمر على جميل، فثمّة عددٌ غير قليلٍ من المبدعين والمبدعات ممّن حظوا بقبولٍ شعبي في مناطق مختلفةٍ من ليبيا، بالرغم من عدم امتثالهم/ن للأدوار الجندرية السائدة.

وخارج فضاء الإبداع والفن، تختلف من منطقةٍ إلى أخرى الأدوارُ الموكلة إلى كلٍ من الرجال والنساء. على سبيل المثال، في غرب البلاد، كانت النساء المسنّات يحتكرنَ مسؤولية التخطيط لإقامة النجع، وهي مهمةٌ صعبةٌ للغاية، فكنّ يخترنَ المكان المناسب وينصِبن الخيام وفق ترتيبٍ معينٍ توارثنه منذ القدم، وهو عملٌ يتطلّب جهدًا عضليًا كبيرًا. ولا يسع المرء سوى التفكير في قدرة أولئك السيدات المسنّات على دقّ أوتاد الخيام الكبيرة عميقًا في الأرض ثم رفعها،9 بينما ينتظرُ شيخُ القبيلة وفرسانها حتى تفرغ النساءُ من هندسة القرية المؤقتة وبنائها! 

خارج فضاء الإبداع والفن، تختلف من منطقةٍ إلى أخرى الأدوارُ الموكلة إلى كلٍ من الرجال والنساء

استمرّت هذه الممارسة حتى الستينيات من القرن الماضي، ولم تكن مألوفةً على الإطلاق في مناطق أخرى كطرابلس مثلًا، حيث كانت النساء يغطّين وجوههنّ بما يُعرف بالبمبوك، في حين كانت النساء الطارقيّات يكشفن وجوههنّ، بينما يتلثّم الرجال. أما في درَنة، فيزدان الشابُ العروس بإكليلٍ من ورد الفلّ، بينما يضع الشاب العروس من الإيموهاق (الطوارق) صباغًا تجميليًا أزرق اللون في أحد أيام العرس المسمّاة "سدجني". ويُعتبر الصباغ الأزرق وسيلةَ تجميلٍ شهيرةٍ لدى أكابر الإيموهاق، إذ تمنح صاحبها وجاهةً وهيبةً في المجتمع الصحراوي.10

كذلك شاعت في بعض مدن ليبيا الساحلية ومحيطها حتى منتصف القرن الماضي، عادةُ وضع قرطٍ من الذهب أو الفضّة في شحمة أذُن المولود الذكَر بقصد الزينة والحماية من الشّرور، وتدل على تلك العادة ألقابٌ مثل "بوخريص" التي تعني "أبو قرط".11 والواقع أن كبار الربابنة المعروفين في العهد العثماني والقرمانلي - "أصحاب الجهاد البحري" كما يُسمّون - ممّن خاضوا حروبًا بحريةً ضد ممالك ودُويلات أوروبا، عُرفوا بأقراطهم قبل أن تُصبح الأقراط اليوم "تشبهًا بالنساء" وتهديدًا للرجولة! 

بناءً على كل ما تقدّم، إن انتقاد واستنكار أساليب اللباس "الجديدة" والتصرّفات الشخصية ومحاربة حرية التعبير الجندري في ليبيا اليوم، ليس له أيّ جذورٍ في تاريخ الثقافة المحلية الغنيّ والزاخر بالتعقيدات والتناقضات في ما يتعلّق بالهويات الجندرية والأدوار الرجالية والنسائية. على العكس من ذلك، إنّ تنوّع الطبائع الجندرية والجنسية في ليبيا هو تقليدٌ بالغ القِدَم ساهم على نحوٍ بارزٍ في تشكيل المجتمع وصياغته.

 

 

  • 1. الدكتور رجب عبد الحميد الأثرم، "محاضرات في تاريخ ليبيا القديم"، منشورات جامعة قاريونس، بنغازي، صفحة 75. وانظر/ي: د. عبد اللطيف البرغوثي ، "تاريخ ليبيا من أقدم العصور حتى الفتح الإسلامي"، الجزء الثاني، 1971، ص 52 – أعده للنشر تامغناست – مؤسسة تاوالت.
  • 2. تُسمى أيضًا بليلة الحنة هي إحدى ليالي العرس الليبي التقليدي، لاسيما في طرابلس، حيث تُحنّى أيدي وأقدام العروس ونساء البيت، ويجري العزفُ والغناء حتى ساعاتٍ متأخرةٍ من الليل، ثم تخرج العروس من المنزل بخمارٍ يغطّي وجهها، وتقودها النساء العجائز إلى الشارع لتقابل نجمةً تُعرف محلّيًا بنجمة الصبح، وهي كوكب الزهرة الذي يُعرف بجلب الحظّ والبركة. بعدها، تشرع النساء والعروس بالغناء، ثم يُرفع خمار العروس بسبع خطواتٍ حتى ينكشف وجهها تمامًا، ثم توضع مرآةٌ تعكس وجه العروس البائن تحت ضوء النجمة. وينتهي الطقس بالغناء والرقص احتفالًا بحصول العروس على الحظّ السعيد من النجمة.
  • 3. سالم سالم شلابي، المستعمل من الألبسة الشعبية في طرابلس، ليبيا، مركز جهاد اللّيبيين للدراسات التاريخية، 2006، ص 131.
  • 4. الآنسة توللي، "عشر سنوات في طرابلس 1783-1793"، ترجمة عبد الجليل الطاهر، طرابلس، منشورات الجامعة الليبية، 1967، ص 120.
  • 5. Joshua J. Mark, The Life of Aristippus in Diogenes Laertius, World History Encyclopedia.
  • 6. ذكر لي الباحث في اللغة والثقافة التباوية حامد آدم هذه المعلومات عن الأصل اللغوي.
  • 7. المعلومات عن الكلمة واستعمالاتها أفادت بها الناشطة الحقوقية الأمازيغية الليبية تازيري العمراني.
  • 8. للمزيد، يرجى الاطلاع على هذا اللقاء مع الفنان مختار الأسود الذي يتحدث فيه عن المبدعين والمبدعات ومنهم الفنان جميل.
  • 9. للمزيد عن عادات النساء الليبيات في البادية، يرجى الاطلاع على: الدكتور عبد العزيز سعيد الصويعي، "الحل والترحال بين الجوش والجوف"، وزارة طرابلس، ليبيا، الثقافة والمجتمع المدني - الطبعة الأولى، 2013.
  • 10. معلومة حصرية من الدكتورة مرام ولت محمد أبوبكرين عن تقليد صبغة سدجني وغيرها من عادات الإيموهاق الرجالية.
  • 11. خليفة محمد سالم الأحول، "يهود مدينة طرابلس تحت حكم العهد الإيطالي 1911- 1943"، ليبيا، منشورات مركز جهاد اللّيبيين، 2005، ص 219.