أجساد مُسيّجة: عن جنسانيّة ذوي الإعاقة

افتتاحية وتقديم

بقلم ريم بن رجب 

يُعدّ سؤال الجسد أحد أهمّ الإشكاليّات البحثيّة التي مازالت قيد الحفر والتفكيك، فعلاقة الفرد بجسده تُحدّدُ في جزء كبير منها تصوّره للعالم وعلاقته بمُحيطه حيث يتولّد المعنى وتتشكّل حمولته الرمزيّة. هذا الجسد الاجتماعيّ، الثقافيّ، الإيروتيكيّ، الجماعيّ، السياسيّ، التاريخيّ، الرياضيّ، الخاضع، المُتمرّد، المُنضبط، المريض، المُعاق، المُشوّه، هو محور العلاقات بالعالم، بالمكان والزمان1. يختلف الحضور الجسديّ في الفضائين العام والخاص من شخص إلى آخر ومن مجموعة إلى أخرى ولكن ما يهمّنا في هذا السياق هو الجسد المُعاق. هذا الجسد المُربك ذو الحضور المُحتشم والذي تركت الأحكام المُسبقة والنظرات الفضوليّة المُتفحّصة بصماتها عليه. يُذكّرنا الإنسان الحامل للإعاقة بهشاشة الوضع الإنسانيّ وبنوائب الحياة، إنّه "يخلق بلبلة في الأمن الأنطولوجيّ الذي يضمنه النظام الرمزي" على حدّ تعبير الأنثروبولوجي الفرنسي دافيد لو بروتون. ينظر الجسد المُعاق إلى مرآة المُجتمع فلا يجد صورته الحقيقيّة، ويتحوّل الفضول بالنسبة إليه إلى "عنف لبق يتجدّد عند لقاء أيّ مارٍّ جديد"2. الجسد المُعاق جسدٌ مُسيّجٌ بأحكام الجسد السويّ، جسدٌ متأرجح في وضع البين بين، ليس داخل المجتمع ولا خارجه. يخلق الجسد المُعاق حالة من الريبة والتوجّس فما بالك بجنسانيّته التي ستكون محور ملفّنا الجديد في جيم.

ذوي الإعاقة أفراد من عائلاتنا وأصدقاء لنا وزملاء عمل وغرباء، المنسيّون الذين يخوضون كلّ يوم نزاع اعتراف مع الآخر. لذلك سنحاول في هذا الملف الولوج إلى عوالم قد تكون بعيدة عنّا ولا يُمكننا تخيّلها والقيام بحفريّات علّها تنجح في تسليط الضوء على موضوع يصعب الخوض فيه. مقالات وقصص تدور في كوكبة من الأسئلة الحارقة: كيف يتدخّل المجتمع في تشكيل جنسانيّة ذوي الإعاقة؟ كيف يكتشف ذوي الإعاقة أجسادهم؟ ماهي تطلّعاتهم؟ من يشتهيهم جنسيّا؟ هل تنقلب القيم الاجتماعية المتوارثة (الفحولة والسلطة والسيطرة والخضوع) في العالم الحميميّ لذوي الإعاقة بما أنّنا نتكلّم عن أشخاص تُنتقص استقلاليتهم إلى حدّ كبير ويعيش الكثير منهم في حاجة دائمة إلى الآخر؟ هل يُقصي "الأسوياء" ذوي الإعاقة خارج دائرة الخيال الجنسي؟ إلى متى ستقف الـ"ربّما" حاجزًا أمام اكتشاف جسد الآخر بالنسبة إلى ذوي الإعاقة أو إلى الأشخاص "السليمين": ربّما أجسادهم صادمة، ربّما لن أستمتع معهم، ربّما سأنفرهم، ربّما لا يعرفون اللذة الجنسيّة.. إلخ. نريد في هذا الملف أن نختبر كلّ احتمالات "ربّما" المُلتبسة والمُفكّرة على حد قول الفيلسوف التونسي فتحي المسكيني.

هذا الملف "شريك في لعبة الاحتمالات"، يمشي متعثّرًا ويتحسّس طريقًا غير معبّدة. قد لا يقول الأشياء الكبيرة ولا يُجيب في النهاية عن أي سؤال ولكنّه يكسر نمطيّات التفكير حول واقع الجسد المُعاق من خلال مجموعة من المقالات التحليليّة والقصص القصيرة والتجارب الشخصيّة لكتّاب وكاتبات لا يحملون نفس الهواجس والرؤى. ستكون بداية الملفّ مع مقال بعنوان "سأتخلّى عن سمّاعاتي: مُذكّرات جنس أطرش". هذا المقال يسرد جزءًا من حياة كاتبته "هيفاء" وتجربتها مع الجنس وكيف قرّرت الانعتاق من سطوة الأصوات بالتخلّي عن سمّاعاتها. شهادة حيّة من فتاة قرّرت البوح بتفاصيل حميميّة والكتابة عن تجربتها مع إعاقتها السمعيّة. يكتب لنا كمال الهلالي قصّة قصيرة بأسلوب عجائبيّ عن "دوجه التي صنعت من أحشائها دُمية حيّة". في أحد البراري القاسية، سنكتشف عالم دوجه المُصابة بعته طفيف وكيف تعرّضت إلى الاغتصاب من شخص مجهول. "أن تُغرّد وحيدا داخل السرب" قصّة لكاتبها محمّد جعفر. يُحدّثنا بسلاسة عن مرض التوحّد وتحديدًا عن متلازمة الأسبرجر. قصّة فتاة مهووسة بالطيور تُربّت بيدها المرتعشة على قطّتها "قطيفة"، لا تنظر في الأعين، تُروّض جسدها وتحاول أن تكون "مثل باقي الفتيات". قد يحمي الجسد المُعاق نفسه بعدم التعبير عن انتظاراته ورغباته لينتهي به الأمر دون أيّة رغبات، هذه الفكرة التي انطلقت منها شيماء العبيدي في مقالها "كيف نقطع أجنحة الملاك المُزيّفة؟ عن جنسانيّة ذوي الإعاقة في السينما". يحاول هذا المقال تفكيك الصورة الملائكيّة والنزعة الطهرانيّة المُسقطة لذوي الإعاقة واعتبارهم كائنات لا جنسيّة من خلال مجموعة من الأفلام التي تناولت جنسانيّة ذوي الإعاقة. يُعرج بنا ياسين النابلي على عالم طه حسين اللامرئيّ وكيف أثّر العمى على تمثّلاته الجنسيّة. فالكثير من الدراسات النقديّة ركّزت على تأثير العمى في أدب طه حسين ولكنّها لم تهتمّ بجسده الباحث عن العاطفة والشهوة. في هذا المقال سنقرأ تحليلا معمّقًا عن أديب "جعل من ماضيه الذاتي والموضوعيّ سياجًا حاول تجاوزه إلى الأبد" من خلال علاقته بجسده وبالمرأة. سننشر ضمن الملف مقالا عن الاشتباك بين المرض والإعاقة عنوانه "قطاف ثمر مُبتسر: عن ملحمة الأثداء المبتورة". لم يكتف هيكل الحزقي بالاقتراب من حلقات الاضطهاد الفعليّ وسرد شهادات حيّة لنساء اختبرن لعنة سرطان الثدي بل عرض لنا صورًا دقيقة وطريفة لمعاجم الإعاقة محاولا تفكيك رمزيّة الثدي المبتور في المخيال الشعبيّ. سيكون لمتلازمة داون نصيب في هذا الملف من خلال مقال عنوانه "تبّاني بالدّم: وعد جديد بالخوف"، كتبته عن حفصة أختي التي توزّع القمح بعدل على الصيصان، والتي كانت سببًا في إعدادي لهذا الملف الذي لا يحمل نفسًا وعظيًّا ولا يقدّم صورة قاتمة عن الجسد المُعاق ولا ينغمس في المدحيّات وإنّما يحكي الواقع كما هو رغم أنّه ملف منحاز لا يؤمن بهلاميّات الحياد.

سيكون لكم موعد مع مقالات وقصص هذا الملف كل يوم إثنين، وهو دعوة مفتوحة إلى كلّ المهتمّين والمهتمّات للكتابة عن تجاربهم الشخصيّة وإضفاء أبعاد أخرى غفلنا عنها (وهي كثيرة) أو لم نستطع تناولها.

صورة غلاف الملفّ للرسامة السوريّة ديمة نشاوي التي شاركتنا التجربة بشغف وكرم.

  • 1. يُمكن العودة إلى كتاب الباحث الفرنسي دافيد لوبرتون "سوسيولوجيا الجسد" للتعمّق أكثر في فكرة الجسد كبناء ثقافيّ خاضع لمجموعة من الأنظمة الرمزيّة.
  • 2. دافيد، لو بروتون، سوسيولوجيا الجسد، ترجمة عياد أبلال وإدريس المحمدي، روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2014، ص 144