أعوامٌ مضت وأنا أحاول تقفّي آثار أولئك المطربات الشاميّات، "الستات" كما يُسمّين، واللاّتي تركن تسجيلات قبل الحرب العالمية الأولى.
في نيسان 1897، أعرب مُحرّر جريدة لسان الحال البيروتية عدد 2492 عن تمنّيه خلوّ بيروت من مقاهي الغناء والرقص كاتبًا: "يتمنى كل عاقل غيور على دعائم المدنية الحقيقية وعرى الآداب الصادقة أن تدوم محال القهوة خالية من العازفين والعازفات والرقاصين والرقاصات كما هي عليه في هذه الأيام الأخيرة".
بيروت، التي كانت تُعتبر مدينة متحضّرة ومتمدّنة بالنسبة إلى مُحرّر الجريدة وعدد كبير من أدباء تلك الفترة، كان على أماكن الترفيه فيها أن تعكس هذا الوجه الحضاري الجديد الذي بدأت تلبسه منذ نهاية القرن التاسع عشر. خصوصًا أنّ التطرق إلى عالم الموسيقى وتحديدًا إلى وجوهه النسائيّة كان منذ ذلك الوقت متعلّقًا بمكانة المرأة في المجتمع، وحريّتها، وظهورها العلني، وحقّها في المتعة والتعبير والعمل.
طبعًا لم تتحقق رغبة مُحرّر لسان الحال، حيث أبقت بيروت على حبّها للسهر واللهو إلى يومنا هذا. ومن المضحكات المبكيات أنّ أغلب المقالات التي نُشرت في جرائد ذلك الزمن والتي انتقدت العالم "السفلي" للمدينة، هي اليوم المادة الأساسية لولوج ذلك العالم ومحاولة رصد ملامح عصر العوالم1 ، إلى جانب تسجيلات الاسطوانات النادرة. تلك المقتطفات الموجزة عن حياة بيروت الموسيقية وبعض القصاصات التي نجدها مبعثرة هنا وهناك تُشكّل بعض اللحظات التي تساعدني اليوم على تصوّر ذاك الوجه الماجن للمدينة.
أحاول جاهدة أن أرسم وجوه هؤلاء المغنيين والمغنيات على المسارح والمقاهي، أو المقاصف كما كانوا يسمونها. تحديدًا أولئك المغنيّات اللواتي اتّبعن طريقًا مختلفًا عن المسار المُخطط لنساء ذاك الزمن، سواء بخيارهنّ أو مرغمات. لقد أحيين أعراس المدن والقرى، وآنسن روّاد مقاهي بيروت ودمشق وحلب ويافا، كتلك المطربة، ليلى، التي وصفتها جريدة لسان الحال "بالمتفنّنة" والتي أحيت مع جوقتها العديد من الحفلات في المقاهي وأعراس العائلات الغنية في بيروت نهاية القرن التاسع عشر. لم تترك لنا أي صورة أو تسجيل، ولا نعلم عنها شيئًا غير معلومة تفيد بأنها قد تكون رافقت فرقة المسرحي والموسيقي السوري أبو خليل القباني (1833-1903) إلى مصر نهاية القرن التاسع عشر.
أعوامٌ مضت وأنا أحاول تقفّي آثار أولئك المطربات الشاميّات، "الستات" كما يُسمّين، واللاّتي تركن تسجيلات قبل الحرب العالمية الأولى مثل بدرية سعادة، و حسيبة موشي، و طيرة حكيم، و نجية الشامية وغيرهنّ. لا نعلم شيئًا عن مكان أو تاريخ ولادتهن، أو أين أقمن. أبحث بين الجرائد والمذكرات عن صدى أصواتهن، لكن دون جدوى. تلك الأصوات التي اجتاحتني من خلال تسجيلاتهن، تسلّلت إلى أعماق بحثي وأضحيتُ كالمتلصّصة على حياتهن.
أصبح نبش أرشيف ماضي الكباريهات والملاهي هاجسي. وكلّما وجدت خبرًا أو معلومة إلا ودوّنتها حتى أجمع خيوط ذاكرة منسيّة قد توصلني إليهنّ. أحاول جاهدة أن أنسج تلك الخيوط علّني أصل إلى رسم صورة واضحة ودقيقة عن ذلك الزمن الغابر ولكنّي كلّما شعرت بالاقتراب إلا وابتعدت أكثر. العوالم يلعبن معي، يرمين لي الشباك والألغاز. يحاولن مساعدتي للوصول إليهن، لكنّ أصواتهنّ المكبوتة جعلت الاقتراب منهنّ صعبًا.
رغم طمس أصواتهن لعقود في كتب التاريخ، استطعن العبور والوصول إلينا اليوم عبر تسجيلاتهن التي أعيد اكتشافها حديثًا. مرة أخرى، تحدّين الإقصاء وقاومن أكثر من مائة عام من الصمت ومازلن يُبهرننا إلى يومنا هذا بغموضهن وقلّة أخبارهن.
العالمة المتفننة بدرية سعادة
أتخيّل الست بدرية سعادة تؤدي في مقهى ما في بيروت أو دمشق. لا أستطيع التأكّد، أهي من دمشق أو من بيروت أو من مدينة مشرقية أخرى؟ أعرف أنّها ملكة المسرح، صاحبة العيون الجميلة مثلما ذكر ذلك السياسي والصحافي السوري فخري البارودي (1887-1966) في مذكراته عن دمشق "أوراق ومذكرات". أعتقد أنها كانت الست التي تُدير السهرة وتتحكم في أمزجة الرجال الذين يأتون لسماع صوتها كي ينسوا أعباء الحياة. يتحلّقون حولها حاملين كؤوس الخمر في أيديهم، تبتسم بعد كلّ آه تسمعها، وقد تحتسي بعض الخمرة، وتلقي بين الفينة والأخرى نظرة على أفراد التخت الموسيقيّ حتى لا تخرج عن اللحن أو الطبقة.
أستمع بشغفٍ إلى بعض الاسطوانات التي سجلّتها مع شركة بيضافون البيروتية وغراموفون العالمية بين 1908 و1910، وأحاول رسم صورة لها: امرأة مثيرة ولعوب ولكنّها في نفس الوقت رصينة في مغناها وأدائها مع الموسيقيين وفي المقاهي. تؤدّي أصعب القوالب الغنائية وتُطرب السميعة كما أطربتني بعد حصولي على تسجيل لها مع غراموفون تغني فيه قصيدة "متى يا كرام الحي". لا بدّ أن الكثير من القلوب طربت لسماع هذه القصيدة التي تقول في بدايتها "متى يا كرام الحيّ عيني تراكم وأسمعُ من تلك الديار نداكم"، شوقًا لخليلة أو حبًا لله خاصّة وأنّ أتباع بعض الطرق الصوفيّة يردّدونها في مجالسهم. أثبتت بدرية سعادة قدرتها على أداء قوالب غنائيّة كنّا نعتقد أنّها حكرٌ على الرجال. هذا التداخل العجائبيّ بين الدنيويّ والروحيّ، يتركني أمام أسئلة عالقة عن عالم العوالم: أين ولمن غنتّ هذه القصيدة الصوفيّة؟ في المقاهي أمام جمهور من الرجال أم في مجالس خاصة؟ إلى أي مدى حافظت هذه القصيدة على طابعها الدينيّ في أداء بدرية آنذاك؟ ولماذا اختارت تسجيل هذه القصيدة بالذات؟
قد تبدأ بدرية سهرتها في أحد المقاهي البيروتية بطقاطيق مصرية وشامية خفيفة كتلك التي اشتهرت بغنائها عوالم مصر وبلاد الشام. قد يطلب أحد الجالسين من "الست المشهورة" ألا تبخل على جمهورها وتغنّي المزيد من الطقاطيق فتردّ عليه بغنج "حاضر" كما في تسجيل "خليليّا". تداعب جمهور المقهى بغنائها للطقطوقة الشهيرة "تعالى يا حبيبي لنسكر" وتدعوه لسكرة اللقاء. أراها وسط المقصف، تترنح وتصف إغوائها لحبيبها في طقطوقة "الحلو مخاصمني شاهدة يمّا"، وبدلال المرأة الواثقة تصف تعرّيها وتقبيلها له، وانتصارها عليه عندما يستسلم لها كليًّا مُعترفًا: "بحبك يا بدرية". ربما تلي طقاطيقها بموّال بغدادي لترضي جمهورها البيروتي الذي يستسيغ المواويل. لقد سجلّت بدرية سعادة هذا القالب الموسيقي الصعب الأداء والمُرتبط في المخيال الجمعيّ بالفحولة، مثبتة مرة أخرى جدارتها الموسيقية.
أنظر إلى أعلى فستانها الظاهر في الصورة الوحيدة لها والمنشورة على موقع مؤسسة آمار للتوثيق والبحث في الموسيقى العربيّة، وأتساءل إن كانت تخيط فساتينها عند خياط معيّن وتختار تصاميمها بنفسها. هل اختارت ذلك الفستان تحديدًا لهذه الصورة؟ أم لبسته مرّات عدة؟ هل اتسّخ وهي تمشي في أحد أزقّة بيروت من مكان إقامتها إلى المقصف؟ هل تعثّرت وهي تختبئ من شتاء بيروت الغزير؟ هل كانت تتنقل بعربة تجرّها أحصنة أم استقلّت الترام المعد حديثًا؟ أعتقد أنّها تفضّل ركوب العربات مع الأحصنة، ولَو تخلل ذلك بعض المعاكسة من قبل سائقي تلك العربات. تفضّل ركوب العربة على الوسائل الحديثة تمامًا مثل عمر الزعني الذي ترحّم على أيام العربة في تسجيله لمونولوج "فتّح عينك أنا مش منهم" ناقدًا وسائل النقل الجديدة التي اجتاحت المدينة وساهمت في تغيير عادات أهلها، حسب وصفه.
لطالما انتقد هذا الشاعر والمونولوجيست اللبنانيّ التغييرات السياسية والإجتماعية التي عصفت ببيروت، تحديدًا خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، بعد انحدار السلطنة العثمانية ومجيء الفرنسيين، كما في مونولوجه "كريزا".
تتنقل بدريّة مثل نظيراتها بين المدن المشرقية لتغني في مختلف المقاهي التي انتشرت قبيل القرن العشرين. لا بدّ أنها قد زارت القاهرة، قِبلة العوالم آنذاك، وانبهرت بهنّ وبغنائهنّ، وتمنّت لو أنّ المدن الشامية كانت أكثر تقبّلاً للموسيقى. قد تسمع عن الأحوال الثقافية والسياسية التي تدور من حولها، وتشارك في بعض الأحاديث السائدة في تلك الفترة. قد تكون قد انبهرت هي أيضًا بما آلت إليه بلادها من تغييرات اجتماعية وسياسية وثقافية، وأسعدها تكاثر العلاقات والتبادلات بين بلاد الشام ومصر والعالم الغربي. فأغواها دخول الاسطوانات إلى عالم الموسيقى المشرقي، وفرحت بالتسجيل للشركة البيروتية بيضافون، واعتزّت بنفسها بعد سماع صوتها على الاسطوانة مصاحبًا تخت عازف الكمان المصري إبراهيم سهلون.
حسيبة موشي: بلبل الرياض الشامية
تخيّلي للمطربة اليهودية حسيبة موشي أو بلبل الرياض الشامية كما وصفتها الصحيفة البيروتية ثمرات الفنون سنة 1901 في عددها 1314 مختلفٌ تمامًا. الاستماع إلى الطقاطيق والقدود التي سجّلتها مع غراموفون (حوالي سنة 1908 /1910) يصوّرها لي كعالمة لعوب متقنة لفنون الإغواء والدلال. تضحك في آخر الاسطوانات، متحرّرة اللسان، تغني عن الحب والرجال والخلاعة. أتساءل إن كانت غاوية كتلك المغنية الشامية التي ذكرها فخري البارودي، صلحة أبيض، والتي كان "لديها مُعجب ينام على عتبة بابها حتى الصباح إذا لم تستقبله" ("أوراق ومذكرات"، 1999). من خلال صورتها المنشورة في كاتالوج لغراموفون أتخيّل حسيبة تحيي أجمل حفلات الأعراس، تعاكس العروس الخجولة وتشاركها أسرار العلاقات الزوجية. قد يقول أحدهم لها "يا ست حسيبة عمليلنا شي قد"، فترّد "ايه مو تحت أمرك" كما فعل المطرب البيروتي فرج الله بيضا في تسجيله طقطوقة "البدر لمّا زار" (بيضافون، سنة 1906) محاولاً تقليد مغنيات عصره.
ومن ثمة تغني "بيلبقلك شك الألماس"، و"عالروزانا"، و"تحت هودجها". لا بد أنها مفعمة بالحياة، تلهب المقاهي والأعراس بغنجها وقوة شخصيتها. أتخيّلها مرحة تُضحك من حولها، لعلّها أضحكت عازف الكمان الحلبي أنطون أفندي الشوّا حين سجلّت على تخته عددًا من اسطوانات غراموفون. قد تتلعثم وتضحك على نفسها أحيانًا بعد أن تكون قد أخطأت في تحريك كلمات بعض الأبيات، كقولها "يا غصن نقى مكللُ بالزهب".
أراها قوية رغم نوائب الحياة، تستطيع أن تلمس آلام نساء عصرها، فتغني "بتضربني ليه" أو "جوزي تجوز أربعة". لا أعرف لماذا أحب هذه الطقطوقة بالذات، ربّما لأنّني أتخيّل في كل مرّة أسمعها جمعًا من النساء يتشاركن همّهن ويهزأن من رجالهن. حسيبة في هذه الطقطوقة تؤدي دور "الصبية الجاهلة، زوجة المحشش والقمرجي والشحّاذ" كما تغنّي، ليس بيدها حيلة أمام واقعها المرير. ورغم ذلك تُنهي التسجيل بضحكة خليعة في تناقض مع كلمات الأغنية، يزيد جمال هذا التسجيل ويعكس قوة وضعف نساء ذاك الزمن.
كانت حسيبة موشي وبدرية سعادة وغيرهنّ من العوالم يعشن على هامش الحياة الاجتماعية في بيروت ودمشق، رغم إحيائهن لأبرز مناسبات ذاك الزمن، وتحركاتهّن بين المدن العربية، ودخول أصواتهن إلى عمق البيوت خاصة مع انتشار الاسطوانات. لم يكترث المؤرّخون الذي يتعاملون مع الذاكرة بمنطق أخلاقويّ بالعوالم في بلاد الشام، لذلك نجد صعوبة في العثور على أثر كبير لهّن في المصادر والمراجع الموسيقية التاريخية. رغم أنّ جيلا لاحقًا من المغنيات المحترفات استطعن تخطي النظرة النمطية للعالمة الغاوية ونجحن في فرض لقب مطربات عليهن، ظلّ المظهر الخارجي لأولئك المطربات وأجسادهن في صدارة الاهتمامات أكثر من موهبتهنّ.
واليوم عند الاستماع لاسطوانات العوالم تجتاحني رغبة قويّة لنفض الغبار عن حياتهنّ والحفر عميقًا في تاريخهنّ المُهمّش والمنسيّ. وهذا المقال ليس إلاّ محاولة متعثّرة لاستعادة أصوات نساء رقصن وأحيين ليالي بيروت وسائر المدن الشامية، حتّى لا تتحوّل ذكراهنّ إلى رماد.
- 1في نهاية القرن التاسع عشر، كانت المطربات في مصر يُعرفن بالعوالم أو العالمات (مفردها عالمة، نسبة لعلمهنّ بالغناء والطرب)، وارتبطت هذه التسمية باتهامهنّ بالانحلال الأخلاقي والفجور. استخدام هذه الكلمة لم يكن متداولاً في بلاد الشام، وأغلب الصحف البيروتية خلال تلك الفترة وصفتهن ببنات القهوة أو بنات الموسيقى. ارتأينا إلى استعمال هذا المصطلح في وصفنا للمغنيات الشاميات في تلك الفترة نظرًا لتطابق إسقاطات هذا التوصيف عليهنّ أيضّا (للمزيد عن العوالم يُمكن الاطلاع على إصدار عصر العوالم لمؤسسة آمار للتوثيق والبحث في الموسيقى العربية).
إضافة تعليق جديد