يوم النساء العالمي: يومٌ واحدٌ لنضالاتٍ كثيرة

في كل عامٍ يحلّ فيه يومُ النساء العالمي في شهر آذار/مارس، نحاول في "جيم" التفكير في دورنا في دفع النضال في سبيل حقوق النساء - كلّ النساء - قُدُمًا. وبما أنّ أعمالنا تتركّز على إنتاج المعارف النسوية، عمَدنا في سنواتٍ سابقةٍ إلى تحليل قضايا معيّنةٍ وتفكيكها، ومشاركة تجارب نساءٍ من بلدانٍ مختلفة، بهدف تسليط الضوء على الإنجازات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية للنساء، وإبراز التحدّيات والمعوقات التي ما انفكَكن يواجهنَها في كافة المجالات. هذا العام، نودّ مشاركَتكُمن تأمّلاتِ بعض عضوات وأعضاء فريقنا في عمل "جيم"، وأهمّيته بالنسبة لَهُمنَ ولنضال النساء الأوسع في سبيل إقامة عالمٍ أكثر عدلًا. 


ــــ هاشم: "لتكُن لنا معًا كلُّ الأيّام". 

كيف نصبح ما لا اسمَ له بلغتِنا العربيّة؟ كيف نصنع ونعيش قصصًا لم نقرأها من قَبل، ولا قُرِأَت لنا في مدارسنا وأسِرّتنا؟ كيف نحلم بألسِنةٍ وقلوبٍ وعقولٍ حرّةٍ حقًا، لا تجترّ قيودها؟ كيف ننجو من اختزال أنفسِنا وأحبّتنا في ضمائر وقواعد وتسمياتٍ تشوّهنا بدل أن تشبهنا؟ كيف نطوّع اللغة بدل أن نُطيعها؟ كيف نخلق مكانًا لمعارف وفنونٍ عربيّةٍ تنتجها نساءٌ عابراتٌ ومولوداتٌ إناثًا، وشركاؤهنّ وحلفاؤهنّ من رجالٍ عابرين ومولودين ذكورًا وغيرهن/م من أفرادٍ متنوّعي/ات الخلفيّات والهويّات؟ كيف نُحبّ أنفسَنا وحبيباتنا وأصدقائنا بلُغةٍ لطالما أُشعِرنا بالإقصاء والاغتراب عنها؟ كيف نستعيد أصواتنا، هامسةً كانت أم صادحة، ونقرّ لها بمكانتها الأصيلة - لا "البديلة" - في مجتمعاتنا؟ كيف نفتح تعريفاتنا بدل أن نزيدها ضيقًا وانغلاقًا باسم النقاء النسويّ والأختيّة الراديكاليّة؟ كيف نجتمع ونتشارك المساحات بدل أن نتفرّق ونتنافس؟ كيف نحيي معًا يومًا مثل يوم النساء العالمي، كلٌّ من موقعه/ا في فضاء الأختيّة المُستنير بوعيٍ سياسي والتزامٍ بأخلاقيّات التضامن النسويّ؟ كيف "نعافر" ونُشهرُ الحياة والفكر والجمال في وجه كلّ ثِقَل هذا العالمِ وموته؟ كيف نكتب عالمًا يشبهنا ويتّسع لتنوّعنا ويحتفل به؟ كيف نكبر ونصغر وننضج ونحلم ونتخيّل معًا عالمًا جديدًا أكثر عدلًا وفرحًا؟

سعيًا وراء هذه الأسئلة اللامتناهية، وبحثًا عن التجريب المعرفيّ والمغامرات اللغويّة النسويّة السّاعية للتحرّر المستمرّ من سلاسل الأبويّة فكرًا وممارسةً ولغة، انضممتُ إلى "جيم"، ولتكُن لنا معًا كلُّ الأيّام.

***************

ــــ سلمى: "أصبحنا في أشدّ الحاجة لخلق مساحاتٍ جديدةٍ لمقاومة الإغلاق؛ مساحات لا تقتصر على الأكاديميا المُغلقة بطبعها".

لم أشعر أني "امرأة" في أولى لحظات الثورة ووجودي في ميدان التحرير. رافقَني هذا الشعور بالحرّية المؤقّتة من الجندر المقرّر مسبقًا عنّا، وتشاركتُه مع رفيقاتي ورفاقي. لم يكن مهمًّا أيّ جسدٍ نحمل ويحملنا. لكن سرعان ما تعقّدَت الأمور وزالت الحالة الرومانسية المؤقتة للثورة، لاسيّما مع بداية هجمات التحرّش والاعتداء الجنسي الجماعي التي استهدفَت أجساد النساء. وبذلك، عُدنا بقوةٍ إلى جندَرة أجسادنا والتعامل مع واقع حضور أجسامنا في المساحات العامة. مرّت السنين وأتَت الثورة المضادة، فأغلقَت المساحاتِ العامة دوننا جميعًا، وكمّمَت أيّ نقاشاتٍ عن الجندر والهوية والأدائية، فأصبحنا في أشدّ الحاجة لخلق مساحاتٍ جديدةٍ لمقاومة هذا الإغلاق؛ مساحات لا تقتصر على الأكاديميا المُغلقة بطبعها.

إنّ انضمامي عضوةً جديدةً إلى فريق "جيم" يسمح لي بالاستمرار في أن أكون جزءًا من نقاشاتٍ مع أشخاصٍ مُلهِماتٍ ومُلهِمين لم أقابلهمن في الحياة الواقعية، وقد لا أفعل قطّ. أقرأ أعمالهمن، فأدخل عوالمهمن وأسمع قصصهمن. كما نتناقش معًا في شأن هويّاتنا المتغيّرة، وتجاربنا، وصراعاتنا الخاصّة والعامّة، والتقاطع بين هذه وتلك. "جيم" تُتيح لنا العمل سويًا لتبقى بعضُ المساحات مفتوحة، تتّسع لنا جميعًا، وسط كلّ هذا الضّيق والإغلاق.

***************

ــــ فيفيان: "ديتوكس من ذكورية نواجهها نساءً في كلّ تفاصيل حيواتنا اليومية".

عُقِدت قمّة المناخ الأخيرة في شرم الشيخ برعاية شركة كوكا كولا التي تُعدّ إحدى كبرى الشركات الرأسمالية المساهِمة في تلويث الموارد المتجدّدة واستنزافها في العالم، وهو ما استفزّ الناشطين البيئيّين والتقدّميّين حول العالم وعُدَّ بمثابة "غسيلٍ أخضر" فاضح.

في عام 2022، تصدّر بيل غيتس قائمة مجلة The Chronicle of Philanthropy الأميركية لأكبر 10 تبرّعاتٍ خيريةٍ بعد أن تبرّع بنحو 5 مليارات دولار، علمًا أنّ ذلك المبلغ يشكّل أقلّ من 5% من مجمل ثروته التي تتجاوز 103 مليارات دولار. طبعًا، تجاهلَت التعليقات والتقارير المنشورة ثروته الطائلة المعفيّة من أيّ ضرائب، وركّزَت على "خيره الزائد". توازي هذه الممارسات الخيرية بنتائجها التهرّبَ الضريبي، ويلجأ إليها الرأسماليّون للحصول على شهادات أخلاقٍ تغطّي وتبرّر عدم المساس بثرواتهم المتراكمة من استغلال عمالة أفرادٍ آخرين.

ينسحب هذا "الغسيل" على كثيرٍ من المجالات، ومن ضمنها الفضاء الإعلامي في محاولةٍ لطمس مشكلاتٍ بنيويةٍ تمتدّ جذورها إلى عمق النظام الذكوري والرأسمالي. في تجربتي الشخصية، عملتُ في عددٍ من المؤسّسات الصحافية التي تدّعي الانتماء اليساريّ والتصدّي لهياكل الاستغلال وبُناها الرجعية، إلا أنّ الواقع كان مغايرًا للخطاب، لا بل على نقيضه. فهناك، شهدتُ وزميلاتي لكوننا نساءً أنواعًا من التمييز، سواء في الأجور أو الرتب والمزايا الوظيفية، عدا عن التعرّض للاستغلال، والعمل تحت الضغط، وفي ظروفٍ مجحفةٍ ولساعاتٍ طويلة.

في "جيم"، التجربة مختلفة. إنها بديلٌ فعلي. "ديتوكس" من ذكورية نواجهها نساءً في كلّ تفاصيل حيواتنا اليومية. إذ تقف بممارساتها وآليّاتها التشاركية على نقيض النظام بكلّ أشكاله الرجعية والذكورية، وتوفّر مساحةً صحّيةً للعمل ومريحةً للابتكار، فتخرج قضايانا النسوية من كونها مجرّد مطالباتٍ وأحلام، وتتحوّل إلى واقعٍ مُعاشٍ بتفاصيله، لتعيدَ الأملَ بأنّ البدائل موجودةٌ فعلًا، وهي قابلةٌ للتحقّق والبناء والتطوير.

***************

ــــ داليه: "إنتاج المعارف في شأن الجندر والجنس والجسد والجنسانية جزءٌ من كفاحٍ أكبر نخوضه نحن النسويّات كلّ يوم، من أجل بناء عالمٍ نسويٍّ أكثر عدالةً، وأملًا، وخيرًا". 

يغمر المرء/أة شعورٌ فريدٌ عندما تستطيع أن تقرأ تجارب تشبهها، أو حين يرى نفسه ممثَّلًا في فضاء الإنترنت؛ شعورٌ بأنه/ا موجود/ة ومسموع/ة وليسَ/ت وحيدًا/ة. ناضلتُ معظم حياتي الراشدة لبناء مساحاتٍ تتيح للناس التعبير عن أنفسهمن، والشّعور بأنّهمن ممثَّلاتٌ وممثَّلون، لا بل جزءٌ من شيءٍ ما.

بالنسبة لي، هذا هو جوهر "جيم": مساحةٌ رقميةٌ تُنتج معارف تمثّل جميع جوانب المجتمع، وتحتضن أصوات النساء المُمتثِلات جندريًا، والعابرات، والمثليّات، والمهاجرات، وغيرهنّ ممّن تضيق بهنّ المساحات، لاسيّما في العالم الرقمي، فتُتيح لهنّ التعبير عن أنفسهنّ والسّعي من أجل حضورٍ نسويٍ أفضل، وأكثر عدالةً ومساواة. في الواقع، خلق مساحاتٍ كهذه يتطلّب بذل الكثير من الجهد. فكيف نعمل لدَعم وإعلاء هذه الأصوات لاسيّما بلُغتِنا الخاصّة، وباستخدام مصطلحاتٍ نُكيّفها وننحتُها بأيدينا، وبواسطة مقاربةٍ نسويةٍ وتقاطعيّة؟ كيف يمكننا أن نرسم معالم مساحةٍ رقميةٍ آمنةٍ هدفها مناصرة حرّية تعبير الأفراد والمجتمعات المُقصاة من السرديّات السائدة في المنطقة؟

هذه أسئلةٌ سعيتُ للإجابة عنها عندما بنيتُ تصوّري لمشروع "جيم" في عام 2016، وهي أسئلةٌ أتفكّر دومًا فيها، بالرغم من إدراكي أنّ الإجابات ستستمرّ بالتغيّر في الميدان الاجتماعي والسياسي والرقمي دائم التحوّل في المنطقة. لكنّ الأمر الواضح بالنسبة لي هو أنّ إنتاج المعارف باللغة العربية - والهادف إلى أن تصبح السرديّات السائدة في شأن الجندر والجنس والجسد والجنسانية تقاطعية، شاملةً الجميع، وحرةً من الأبوية - هو جزءٌ من نضالٍ أكبر نخوضه نحن النسويّات كلّ يوم، من أجل بناء عالمٍ نسويٍّ أكثر عدالةً، وأملًا، وخيرًا.