الرجولة المُرهقة: لن أصبح يومًا رجلًا مثل أبي

لن أصبح يومًا رجلًا مثل أبي.

راودَتني هذه الفكرة وأنا أشاهده يقوم بأعمال السباكة في المنزل، إتقانه للأشياء، طريقة إمساكه بالمفاتيح ومفكّات البراغي لن أعرف سرّها يومًا. لطالما كانت جلسته الرجوليّة محطّ تفكيري، ربّما لإدراك ذاتي الداخليّة بأنني لن أستطيع تقليده أبدًا.

لطالما شكّل أبي عقدتي التي لا تنفكّ ونبع إحساسي بالذنب. لطالما كانت هناك توقّعاتٌ خفيّةٌ وتطلّعاتٌ لا بدّ أنّ أستوفيها لأكون محطّ فخرٍ لديه. 

هناك حديثٌ دائمٌ بيننا لكنّه لا يحدث أبدًا. يجب أن أتعلّم قيادة السيّارة، أن ألعب الورق، أن أنتصب في مشيتي، وأن أتخذ من شعر جسدي مصدر فخرٍ وكبرياء. إلّا أنّ هذه الأمور لا تشبهني ولا تعبّر عني. 

فأنا ملوّن، كثير الحلم، رقيق، وقابلٌ للكسر. جعلَني أكره نفسي. كوّنَت أفعوانيّة المشاعر المُتضاربة هذه أزمةً في داخلي، أزمة وجودٍ وانتماء. تصارعَت في داخلي المفاهيم التي تربّيتُ عليها، من تقديس قدَميْ أبي وطاعته والتشبّه به، مرورًا بالاعتماد المادي والعاطفي عليه بوصفه ربّ الأسرة ومعيلها، وصولًا إلى انتمائي لقيَم العائلة. كلّها سلطاتٌ اجتماعيّةٌ وعلائقيّةٌ تربطنا وتقيّدنا.

************

ما معنى أن تكون رجلًا؟

تساءلتُ دائمًا عمّا إذا كانت العضلات المفتولة، والصوت الأجش، وشعر الجسد الكثيف، والحواجب العريضة، وعظام الوجه الحادّة معايير للرجولة كما يفتي البعض، أم أنّ الرجولة مواقف وتصرّفات وعزّة نفسٍ كما يرى البعض الآخر؟

عندما أفكّر في الأشياء التي يستطيع الرجل القيام بها ويصعُب على المرأة إنجازها، يتبيّن أنّها تكاد تكون معدومةً في عصرنا، ما يدفعني إلى إعادة التفكير في مفهوم الأدوار الجندريّة. من هنا، أرى أنّ مفهوم الرجولة هو نتاجٌ مجتمعي بحت، وتنميطٌ يضع الأفراد في قوالب مُحدّدةٍ ويسجنهم فيها.

الرجولة مُرهقة، إنّها أشبه بدورٍ مسرحي على الكلّ إتقانه. لكن ليس الجميع يجيد التمثيل

وبالفعل، لطالما كان مفهوم الرجولة التقليدي قيدًا لي. كرهتُ شعر جسدي الكثيف بشدّة. أظنّ أنّ الأمر نابعٌ من وصمة القدر، وتذكيرٌ بأنّني أحمل جينات أبي المستفحلة في رجولةٍ لا أستحقّها أو ربّما لا أرغبها.

الرجولة مُرهقة، إنّها أشبه بدورٍ مسرحي على الكلّ إتقانه. لكن ليس الجميع يجيد التمثيل. إنّها التظاهر بالشجاعة دائمًا، إنّها المعرفة بالقضايا وماهيتها وكيفيّة قولها. إنّها إلقاء النكات الجنسية بين شلّة رجالٍ لكسب الدعم والحفاوة. إنّها كتم العاطفة وإخفاء الألم. 

يعيد ذلك إلى ذهني - وفي ظلّ علاقتي بأبي - مصطلح الذكورة السامّة (toxic masculinity)، التي تُعبِّر عن الضغوط التي يمارسها المجتمع على الذكور للتصرّف بشكلٍ مُحدّد، وتجنّب إظهار المشاعر أو علامات الضعف، ورفض علامات الأنوثة، وتقديس مظاهر القوّة والسلطة واحتكارها.

والأسوأ أنّ هذه السلوكيّات تُمجَّد وتُمدَح في مجتمعاتنا الشرقيّة بوصفها نوعًا من البطولة والمروءة، وتختلط مع مفهوم الجندر واستمرار النسل، بحيث ينال الذكَر الذي يتمتّع بصفاتها ويرفع راية استمراريّة النسل درع "الرجل المثالي".

أمّا رجولتي أنا فمختلفة؛ إنّها الحبّ، وأن يكون المرء صادقًا، وألّا يخاف من قول كلمة الحقّ، كما أنّها القدرة على الاعتراف بالأخطاء والاعتذار عنها.

************

معركتي الوجودية بين نفسي ورجولة أبي. 

يسافر عقلي في الزمان إلى الماضي، إلى طفولتي حيث كان كلّ شيءٍ ورديًا: أحلامي، وألعابي، وعالمي، وعقلي. أشعر بحرقةٍ في الروح كما في الذاكرة. افتقادي للرجولة وفق معايير المجتمع يجعلني أشكّك في هويتي. من هو الشخص الذي أود أنّ أكونه؟ أحقًّا أريد الانصياع لمعايير المجتمع لأصبح الرجل الذي لا يبكي بل يضحك على النكات الجنسيّة؟

كلّما جلستُ مع أبي تضاربت مشاعري وفاضت. تجنّبتُ جلساتنا لفترةٍ طويلة، وتجنّبتُ مشاعري كما يتجنّب طفلٌ صغيرٌ حقيقة ارتكابه خطأً ما. كلّما استمعتُ إلى حديثه عن الله والقدر والخير والشرّ شعرتُ أنني لستُ من صلبه. تسري غرابةٌ في جسدي لإحساسي ببعد المسافات بيننا. يجري حوارٌ بيننا لكن من دون أيّ كلمة.

افتقادي للرجولة وفق معايير المجتمع يجعلني أشكّك في هويتي. من هو الشخص الذي أود أنّ أكونه؟

مع ذلك، أبي نقطة ضعفي. أريد أن أكون ابنه، وأن أستحق ذلك عن جدارة، إلّا أنّ نفسي تأبى الاعتراف به سوى على الورق وبالكلمات. 

اليوم أكمل شهري الثاني من تعاطي أدوية الاكتئاب. أستطيع احتضانه وتقبيل يديه عندما يصل إلى المنزل، وأستطيع أن أخوض نقاشًا عاديًا معه من دون أن تندلع حرب. أنا ممتنٌ، ولكنّني قلق، فأبي لا يعلم بقصّة حبوب الاكتئاب، ولا يعلم أني مع كلّ كبسولةٍ أبتلعها أرتدي الرجولة معطفًا من جلدٍ فوق جلدي لطمس معالمي وألواني. معطفٌ يحيلني لونًا واحدًا.

أتساءل ما إذا كان أيٌّ من هذا حقيقيًّا؛ أشباه المشاعر والمسرحيّات المُبتذلة والتمثيل الدائم. أفكّر في حقيقة الأمور، هل أحبّ أبّي حقًّا أم أكرهه لأنّه يجعلني أكره نفسي؟ هل سوف أحزن عند موته؟ لا أعرف الإجابات. قد ينفجر رأسي من كثرة الأسئلة. هي في الواقع سكاكين وأشواك تمزّقني من الداخل.

إنّه الحبّ المصحوب بالألم. لطالما فكّرتُ في العبارة التي تقول: إنّه خبز الآخرين الذي يُثقل كاهلنا دومًا. كم هو كبيرٌ الألم الذي يسبّبه لنا حبّنا للأشخاص، وتقديرنا لشخصٍ مُعيّن، بل حتّى تقديسنا له. كم قد يلهينا عن حقيقة أنّنا مهمّون أيضًا. حبّي لأبي كبير، لكنّ معرفتي بأنني لن أستطيع السمو إلى مستوى توقّعاته وتطلّعاته تجعلني طريح الفكرة والألم.

كتبتُ مرّةً على صفحتي على فايسبوك منشورًا أخاطبه به، وأفصِح به عن مشاعر كثيرة: 

عزيزي أبي، كلّ يومٍ حبّك ينمو كشجرة زيتونٍ في رئتي. يتجذّر بعمق. يخنقني. يمنعني من التنفّس. أبي أنا أحبّك بلا حدود، وأكره نفسي بلا حدودٍ أيضًا. لقد تمنيتُ عميقًا لو كنتَ أبًا ظالمًا، تضربني وتهينني، لكان ذلك أخفّ وطأةً عليّ، ولكان ألمي أقلّ. أنا أعرف أنّني لا أستحقّ هشاشتك ورقّتك. لكن لأنّي أحبّك، أرِحني من لعنة العاطفة.