نسويّات الجزائر: من رماد الاستبداد والتعتيم ينهضن

23/01/2020
942 كلمة

خرجت نسويّات الجزائر يوم 8 مارس 2019 مُطالبات بالتغيير وبإسقاط كل الأنظمة الذكورية والسلطويّة. كان يوما تاريخيًا شهده الحراك الشعبي الجزائري، حيث سُمع صوت النساء الغاضبات والثائرات وهنّ يصرخن ويندّدن بالقوانين التي تقهرهنّ وتقمعهنّ مثل قانون الأسرة الواجب إسقاطه. ومثل أية مظاهرة أو نشاط تقوم به النسويّات في الجزائر تستغل الذكورية الفرصة إما للتشويه أو للطمس، حيث وظّفت وسائل الإعلام صورة النساء الثائرات لتجميل الحراك الشعبي فقط دون الغوص عميقًا في مطالبهن المُلحّة والراديكالية والتي لا تقبل المساومة مع القمع والتضييق.

دفع التعتيم الإعلامي الممنهج العديد من نسويّات الجزائر وخاصة الشابات منهنّ، واللائي برزن خلال الحراك الشعبي وكنّ حاضرات بقوة في الساحات والشوارع، إلى اللجوء إلى قنوات بديلة للإعلام الرسمي مثل مواقع التواصل الاجتماعي ومنصات إلكترونية مستقلة للوصول إلى أكبر عدد ممكن من المواطنات والمواطنين، وتهديم الأحكام والأفكار المسبقة عن النسوية والتي ارتبطت في الذهنية العامة بالمؤامرة الأجنبية والخراب والفسوق. ولتعميق هذه الأفكار المغلوطة نشرت إحدى القنوات الخاصة تقريرًا تلفزيونيًا خلال الحراك الشعبي يُحرّض على العنف ضدّ النساء ويدّعي بأن الحركة النسوية الجزائرية تُشّجع على الرذيلة وهي ناتجة عن مؤامرة ضدّ الأخلاق والإسلام. 

وللقطع مع كل هذه التشويهات كان لا بدّ من تثمين الحركة النسوية من خلال المنصات البديلة عبر سرد تاريخها الذي يعود إلى ما قبل الثورة التحريرية الجزائرية والتركيز على مكاسبها العديدة من بينها المساواة المكرسة في الدستور الجزائري بين الرجال والنساء منذ 1963، كذلك التمدرس للإناث اللواتي أصبحن يمثلن أكثر من 65 بالمائة سنويًا من العدد الإجمالي لخريجي وخريجات الجامعات، دون أن ننسى عدة تعديلات قانونية وتشريعات جديدة ضد التحرش والعنف المسلط على النساء. كان التوجّه للإعلام البديل فرصة لإبراز استمرارية النضال عبر الأجيال، من خلال إلقاء الضوء على العمل المشترك بين عدة أجيال من النسويات، قد التحقن ببعضهن البعض في هذا النسق لتقوية الحركة وفرضها في هذه الفترة الحساسة حيث يسعى الجميع إلى التغيير الجذري لكل ما هو فاسد ولا يحترم كرامة الإنسان وحقوقه. وإلى جانب الحسابات الشخصيّة للعديد من الناشطات النسويات الجزائريات، لعبت صفحة "الجريدة النسوية الجزائرية" وصفحة "نساء جزائريات من أجل التغيير نحو المساواة" دورًا مهمًا في متابعة مساهمات النسويات في الحراك الشعبي إلى جانب دورها في إبراز أصوات نسويات كنّ في السابق لا يظهرن بالأسماء والصور لأسباب أمنية ومُجتمعية مثل لينا تاريغت، ولودميلا آكاش، وفريدة بوشناف وغيرهنّ. 

الحركة النسوية الجزائرية لم تناضل يومًا سرًا وفي الخفاء

كلّ الناشطات اللاتي التقينا بهنّ في الساحات مازلن مصرّات على النضال رغم التشهير والتقزيم، لأنّ الحركة النسوية الجزائرية لم تناضل يومًا سرًا وفي الخفاء. وفي هذا السياق صرّحت لنا فريدة بوشناف قائلة: "الإعلام لا يرحم، ولذلك يجب ألا نترك له الفرصة كي يتولى مسؤولية التعريف عنا، بل يجب أن نُعرّف عن أنفسنا بأنفسنا. حتى لو لم نتكلم عن أنفسنا سيكون هناك دائمًا من يتكلم عنا، إذن فلنتكلم لنكون مصدر المعلومة التي تتعلق بنا وبمطالبنا، لقد حان وقت بروز كل القضايا العادلة وإلقاء الضوء عليها لكي يتحمل الجميع مسؤوليته في التغيير الحقيقي".

تغيّرت الكثير من الأشياء منذ حراك 22 فيفري 2019، فكلّ ما كان يُعتبر مُستحيلا أصبح تحديًا يجب تجاوزه. لم يكن الحراك لحظة فارقة في سرديّة القمع والاضطهاد التي خطّها النظام طيلة 20 سنة فقط بل كان أيضًا لحظة فارقة في التاريخ النسويّ الجزائري حيث عملت القوى الرجعية الذكورية على إقصاء النسويات وتشويههنّ خاصة بعد مسيرة 29 مارس التي خرجت فيها النسويات بكثافة للمطالبة بحقوقهنّ وبإسقاط القوانين التمييزية، فبعد نصف ساعة من من وصولهن إلى المربّع النسوي تعرّضن إلى العنف الجسدي واللفظي. 

موجة عنف وتحريض وتشهير ضدّ ناشطات الحركة النسوية تراوحت بين الشتائم والتهديدات في مواقع التواصل الاجتماعي ووصلت ذروتها بنشر صور بعض الناشطات، مع تعليقات كاذبة عن ميولهنّ وتشكيك في وطنيتهن وفيديوهات تحريضية عن الانتماءات الماسونية للحركة النسوية الجزائرية. في المقابل ردّت ناشطات على هذه الحملات بفيديو عرّين فيه تطبيع الإعلام مع العنف، مُؤكّدات تمسكّهن بحقّهن في التظاهر والنضال من أجل حقوق النساء وكل الفئات الهشّة.

رغم أن كل الظروف كانت تدعوهنّ إلى الانسحاب، إلا أن قرار الظهور ومواصلة النشاط العلني كان محسومًا

لم يقتصر الأمر عند هذه التهم الجاهزة فقد أُطلقت حملات تدعو إلى تشويه وجوه الناشطات بحمض الأسيد وإلى تعنيفهنّ وهو ما حصل خلال مسيرة 29 مارس 2019 حيث عُنّفت جسديًا العديد من الناشطات اللاّتي وجدن أنفسهنّ أمام خيارين: إمّا التراجع أو مواصلة هذه الطريق الصعبة. في النهاية اخترن الثبات والمقاومة رغم المخاطر والتهديدات ولم يتأخرن بالردّ عبر فيديو تندّدن فيه بما جرى لهن في الشارع وتنفين ما قامت بتداوله الصحافة التي لا تحترم أخلاقيات المهنة خاصة لما يتعلق الأمر بحماية الامتيازات الذكورية. أثار هذا الفيديو جدلا واسعًا وتأرجحت المواقف بين مؤيّدين للحركة ولثبات الناشطات وإصرارهنّ على المواجهة وبين رافضين لهذه الخطوة التصعيدية على اعتبار أن "الوقت غير مناسب". 

رغم أن كل الظروف كانت تدعوهنّ إلى الانسحاب، إلا أن قرار الظهور ومواصلة النشاط العلني كان محسومًا. بعد ذلك الفيديو اشتدت موجة التهديدات والشتم والتحريض، وتعددت الجهات التي كانت تطالبهن بإلغاء المساحة النسوية في مسيرات أيام الجمعة، إلا أنهن قررن الخروج والالتحاق بنفس المساحة التي عُنّفن فيها، والمطالبة بتحقيق كل مطالب الحركة أهمها إلغاء قانون الأسرة، والمساواة الفعلية بين الرجال والنساء، ومحاربة التحرش والعنف المسلط على النساء وتحقيق تكافؤ الفرص بين الجنسين. كانت مسيرة يوم الجمعة 5 أفريل/أبريل 2019، ناجحة حيث لاقت دعمًا كبيرًا من قبل المواطنات والمواطنين، رغم تلاعب قناة تلفزيونية خاصة، حيث قامت امرأة ترافق مصور القناة الذي كان جاهزًا للتصوير فقط في تلك اللحظة، بالتهجم على المربع النسوي خلال المسيرة، لكي تنشر القناة مساء نفس اليوم إشاعة طرد النسويات من المسيرة. أصبحت كل المطالب التي تنشط من أجلها الحركة طيلة سنوات محلّ نقاش خلال الحراك. هذا التطوّر في طرح الأفكار والرؤى لحقه تطوّر في الأساليب وطرق التنظّم، حيث ازداد عدد المجموعات النسويّة التي برزت أكثر في المدن وبعض القرى فصارت النسويات قادرات على تنظيم ملتقيات وحوارات وتوزيع بياناتهنّ في الفضاء العمومي. وتابع الإعلام المحلي تنقلاتهن وأنشطتهن وأصبح يتحدث عنهنّ ويُغطي ملتقياتهن الوطنيّة التي كان أولها يوم 20 جوان/يونيو 2019.

تمخّض الجبل فولد نسويات مكافحات، مناضلات، متمسكات بمطالبهن. لم يكن التشهير والتحريض ضدّهن سوى حجر عثرة في طريقهن. تحدّين المجتمع والقوانين القمعية والنظام الاستبدادي كي يصرخن عاليًا في الشوارع والساحات: "إنها لثورة نسويّة حتى النصر".