أنا ودونجوان وكأس العلقم

أحيانًا نبدأ علاقة نعتقد أنّها آمنة وصحّية، لكن نكتشف مع مرور الوقت أنّها فعليًا علاقة سامّة تقوم على الكذب والخبث والتلاعب النفسي. أماليا راجي تشاركنا تجربتها مع شخص - وأمثاله كثيرون - استغلّ هالته الثوريّة والثقافيّة ليُبرّر ويُمرّر تلاعبه بالنساء وإساءته لهنّ.

"دونجوان خطب"، هكذا زفّت لي صديقتي الخبر الذي انتظرته وخشيته سنة كاملة. أتأرجح بين تصديق الخبر وإنكاره، وبين التجاهل والرغبة المُلحّة في معرفة من هي تلك الفتاة التي ربما أنهى معها "ع.خ." تلاعبه بالفتيات والنساء من حوله، مُستغلًا هالته الثوريّة والثقافيّة والدينيّة ليُمرر خبثه وتلاعبه العاطفي.

أعرف دونجوان هذا منذ أكثر من ثلاث سنوات. لم يكن حينها سوى صديقًا على فيسبوك، جمعتني به عدّة معارف وأصدقاء، وظروفٌ قاسية مرّ بها كلانا بعد الثورة من تهجير وفقد. أعجبني كلامه وأسلوبه الساحر في التعامل مع الناس عامةً والنساء خاصة، وأعجبني أيضًا مرحه وأسلوبه الساخر عندما يتكلّم مع أصدقائنا المشتركين. شعرت بكماله، فهو الشاب الجامعي الوسيم المثقف، يعمل في التلفزيون ومتطوع في مجال الإغاثة ومساعدة المحتاجين. لم يحدث بيننا أيّ حوار أو حديث حتى منتصف عام 2019. بدأت أنا الحديث من خلال تعليقات بسيطة على صوره المبهرة على الانستغرام، وأحاديث عابرة تطوّرت مع الوقت حتّى أصبحت أحاديث طويلة. كنت أكنّ له الإعجاب الشديد، أو ربما كنت مُعجبة بهذه الهالة المثاليّة التي أحاط نفسه بها. بعد فترة بدأت أتخلّص تدريجيًّا من بعض القيود وصرت أتحلّى بالقليل من الجرأة فعبّرت له عن إعجابي، فتلقّى الخبر بسعادة عارمة، أو هذا ما ظننته حينها.

ازدادت وتيرة أحاديثنا وبدأت بعدها لعبة القط والفأر. فكان يختفي ومن ثمّ يعود فيظهر بشكل مُكثّف ومُربك في حياتي. ولأنني عشت علاقات عاطفية سابقة كنت أنا فيها الطرف الذي يهتمّ ويسأل ويُحب، فقررت ألّا أسمح لنفسي بالتعلق بأحد والالتصاق به. لم يكن هذا سهلًا، فأنماط التعلّق تنشأ منذ اللحظات الأولى في حياتنا من خلال علاقتنا بوالدينا، ثمّ نكرّرها بلا وعي، وكل ما نعرفه هو أن ثمّة شيء يدفعنا إلى تطوير أنماط علاقات تنتهي بالخيبة ذاتها من دون أيّ تغيير. عانيت من صعوبة الحفاظ على التوازن أثناء غيابه وحضوره المتواتر. وحين يكون حاضرًا يحاول إيهامي بأنني الوحيدة في حياته وأنه غير مرتبط وبإمكاننا أن نجرّب الحياة معًا. وفي إحدى غيباته الغريبة، وكوني على تواصل مع الكثير من معارفه وأصدقائه وخاصّة من محيطه القديم في مدينته قبل اللجوء، سألت إحدى صديقاتي عنه، فأخبرتني أنّه كان جارهم قديمًا وهو حبيبها حاليًا. صدمتني هذه الحقيقة، وتلتها حقائق دمّرت كل ما بنيته عن هذا الإنسان.

لن أخوض في التفاصيل التي روتها لي هذه الفتاة وغيرها من الفتيات لاحقًا، لكن دونجوان كان مرتبطًا بأكثر من فتاة في الوقت نفسه، وجميعهنّ في أمكنة متباعدة. لسوء حظّه شبكة علاقاتي الواسعة جعلت حياتي تتقاطع مع بعضهن. وبعدها بدأت رحلة التلاعب النفسيّ التي يُتقنها جيّدًا، بعد أن واجهته بما أخبرتني به تلك الفتاة، ومعاناتها النفسية بسببه، وشعوري بالذنب تجاهها، خاصّة وأنّها تعيش في سوريا ظروفًا بشعة فرضتها عليها الحرب والحياة والقمع الاجتماعي.

التفصيل الأكثر خبثًا هو أنه كان يوهمني أحيانًا بأنّ ما يحصل معي مرتبط بأوهام التروما وأن هذا الغضب ليس ناجمًا عن علاقاته وتلاعبه بل عن اضطرابي النفسي

ابتعدت عنه وأنا مستاءة وغاضبة من خياراتي وتسرّعي في المبادرة. والأهم تعلّقي بالوقت الذي أمضيناه سويًا والصورة التي رسمتها عنه لسنوات حتى اقتنعت بأنني أستطيع التقرّب منه وأنه شخص آمن. هزّ دونجوان قناعاتي مجددًا، وهزّ ثقتي بنفسي، وحاولت أن أقنع نفسي بأنّه من الأفضل أن أقطع علاقتي به الآن بدل أن أدخل معه في علاقة سامّة لأكتشف بعدها أنّه على علاقة بأخرى ورُبما أخريات.

وضعته الحياة في طريقي مرّة أخرى فحاول التقرّب مني كصديقة وأراد إقناعي بأنه نادم لأنّه كذّب عليّ، وأن قصّته مع تلك الفتاة كانت محسومة ومُنتهية، وأنهما صديقان الآن لأن أمّه رفضتها، إلى أن اكتشفت أنّه يكذب مرّة أخرى وأنّ هوايته هي إغواء النساء والتلاعب بهنّ.

إعتذرَ ألف مرة، وعُدنا صديقان لكن علاقتي بنفسي بقيت مهزوزة، ومشاعري نحوه لم أستطع تفكيكها خاصّة أنني كنت أعيش مرحلة من الضغط الدراسي والنفسي وأخضع لعلاج دوائي وسلوكي. وللأمانة لم أعرف أحدًا مثله في حياتي كلّها بلسان معسول ولطف مبالغ فيه وقدرة خارقة على جعلي مفتونة به.

انتابتني نوبات بكاء وغضب وخوف ومرارة ومقارنات مُتعبة لا تنتهي، فخرج منّي وحش الرفض والتخلّي الذي وُلد معي وكبرنا سويًا حتى صار أكبر وأضخم مني وقادرًا على دفعي إلى الأسفل متى شاء. لماذا أنا؟ هل لأنني ضعيفة ويسهل استغلالي؟ ولماذا أعذّب بعاطفتي إلى هذا الحد؟ وما ذنبي حتى لا أكتشف وجود علاقات سامّة في الحياة، وأشخاص مستغلّين؟ ولمَ يُحيط بي كل هذا الثقل حتى الآن؟

أبتعدت أكثر عنه ثم أقتربت، وطلبت منه أن يعتذر منّي ومن كلّ الفتيات. وفي كلّ مرّة كان يعتذر ويَعد بأنه تغيّر، كنت أكتشف وجود فتاة ثانية. كانت الفتاة الأخيرة هي من أفاضت الكأس. عاشت معه ثلاث سنوات من التلاعب النفسي، أوصلها للإنتحار مرّتين، ودخلت في دوّامة حادة من الاكتئاب. تلاعب بعاطفتها ثم وجدت معها ألف شريكة، وبالصدفة أنا وجدتها. حدّثتني لساعات عن تفاصيل متشابهة ومطابقة لكلّ ما حدث معي، ولكن التفصيل الأكثر خبثًا هو أنه كان يوهمني أحيانًا بأنّ ما يحصل معي مرتبط بأوهام التروما وأن هذا الغضب ليس ناجمًا عن علاقاته وتلاعبه بل عن اضطرابي النفسي. وهذا أيضًا ما أخبر به هذه الفتاة وضحيّته الجديدة التي بالصدفة أخبرتني عن خطبته، والجيد في الموضوع أنها كانت قد تجاوزته تمامًا من دون أن تنسى أو تسامح.

أتى خبر خطبته ليعيد لي ذكرى كاملة لانهيار الشخص المثالي، انهيار هذه الهالة الجميلة لإنسان أعطيته الكثير من العاطفة والحياة والوقت. اجتاحني الإحساس بالذنب والخوف، وشعرت بالخزي لأنّني كنت ضحية هذا التلاعب. أخاف من العودة إلى ذاك المكان المعتم من وجوده، أرى وجوه ودموع وأصوات البنات اللواتي تلاعب بمشاعرهن وعواطفهن. اختفى وغاب وحضر في حياتهنّ كأنه في مناوبات عمل، يغيب اليوم هنا ليحضر هناك، ويقول نفس الكلمات للجميع. يتقرّب من كلّ الفتيات، لكنه أمام المجتمع هو الشاب المثقف الخلوق، والغضب كل الغضب والعقاب لمن تتحدث عن وجوده في حياتها بتعلّة الخصوصيّة.

أخاف أن أحمل وضحاياه الذنب وحدنا، وأخاف أنني تعلّمت متأخرة

سألت نفسي، هل أردت أن أكون مكان هذه الخطيبة؟ فكانت الإجابة حتمًا لا. أخبرته بهذا أيضًا، وبأنني أخجل من نفسي لمجرّد الحديث معه. جعلني أعتذر وقتها وأشعر بالشفقة عليه لأنني جرحت مشاعره، في حين هو يجرح مشاعر كل فتاة يمرّ بحياتها. أغضبني جدًا خبر خطبته، أحسست بانعدام العدالة، وبأن الحياة تضمن الوجع لي كلّ مرة، وتضمن الحياة الطبيعية لأمثاله. كلّ القصص التي سمعتها من نساء مررن بتجارب مُشابهة، أو تعرّضن للتحرّش خاصة من قبل أشخاص ذوي مكانة، كان الوجع من نصيبهن والحياة الطبيعية من نصيب المتحرشين والمتلاعبين نفسيًّا.

أشعر بالخوف أكثر من الغضب. أخاف من العودة إلى ذلك الثقب الأسود وسماع أصواتي الداخلية التي تُقنعني بأنني أنثى مرفوضة. أخاف من الغرق في القلق والسلبية. أخاف من الانفجار باكية. أخاف من عودة مشاعر التعلّق والاستسلام لها، التعلّق الذي يحكمه الخوف من الرفض والتخلّي والمقارنة، لا التعلّق بشخصه. أخاف من عدم تقديري لذاتي، الأمر الذي جعلني أقبل تلاعبه النفسي وإساءته. أخاف أن تتقاطع طرقي يومًا ما بضحية جديدة. أخاف أنني لن أستطيع أن أروي كل التفاصيل التي خلقت هذه العلاقة المبهمة المربكة، وأخاف أيضًا من هالته التي تحميه كذكر وكإنسان ثوري ومثقّف. أخاف أن أحمل وضحاياه الذنب وحدنا، وأخاف أنني تعلّمت متأخرة. لا أعرف هذه اللحظة متأخرة عن ماذا بالضبط، لكنني أكتب محاولةً أن أضع كلّ فكرة وشعور في المكان الصحيح، والتخلّص من رواسبه السامّة في حياتي.

دونجوان عصره هذا ليس وحده، فأنا أقرأ كلّ يوم قصصًا وشهادات لفتيات ونساء ظهر في حياتهنّ شخص مثله، مُعتمدًا على مكانته وعلاقاته الاجتماعية، ومستغلًّا قضايا إنسانية ومصيرية لبناء هالة مثاليّة يستطيع أن يحمي نفسه بها ويُخرس الكثير من الأصوات التي قد تكشف حقيقته. فهو يستغلّ العلم أو الدين أو الشهرة أو النضال الثوري لتبرير وتمرير إساءته للضحايا خاصة لو كانت هذه الضحايا/الناجيات من النساء اللواتي يعشن في مجتمعات تفترض أنّهن مُخطئات دومًا، وتُشكّك في رواياتهن لصالح رجل.