نحن "الخلل"... ونحن طيف من الهويات

الكوير هو مساحة من التوتر والخلل.

في المجتمع الذي نشأت فيه، أجد نفسي في مساحة الهامش لكوني أعرّف نفسي كامرأة كوير. وبفعل تواجدي وأخريات في ذلك الهامش، أخذت أطرح الكثير من التساؤلات المرتبطة بموقعي هذا وما يترتب عليه من أشكال مختلفة من القمع. قمعٌ ينهال عليّ بطرق عديدة؛ بداية من وجود نمط محدد سلفًا لشكل الحياة التي علي أن أسعى لأعيشها بل وأنجح في ذلك السعي، مرورًا بقيم وثوابت تشكل وعيي بذاتي ووعيي بمساحة الحركة المحدودة في هويّاتي المختلفة، وصولًا لاختيارات عديدة أقوم باتخاذها يوميًا، خاضعةً لقواعد النظام تارة ومقاومة له تارة أخرى.

تشغلني دائمًا رهبة هذا النظام الاجتماعي من التنوع والاختلاف، أحاول أن أبحث في مظاهر تلك الرهبة وما يترتب عليها من استراتيجيات مختلفة تتبعها المؤسسات المكوّنة لذلك النظام بهدف تنشئة الأفراد ضمن قوالب محددة ومتعارف عليها، وتقويمهم إذا حاولوا الخروج عن تلك القوالب.

في المقابل، نجيء نحن الكوير أصحاب الهويات والميول غير النمطية واللاغيرية، فنُخلّ بما يُدعى "عادية" من خلال هوياتنا المتعددة والمركبة، ولا نقدم تلك الصورة الثابتة والمتوقعة لذواتنا. نحن نمثل الخلل في ماكينة عتيقة وهشة، ماكينة مليئة بالتصورات والأدوار المجتمعية المتوارثة عبر الأجيال، التي قليلًا ما يجري تحديها أو التساؤل عن جدواها في حياتنا. وعندما يتحدّاها أحدنا أو يطرأ أي خلل في هذه الماكينة، تتجمع كل القوى المجتمعية والهياكل القمعية سويًا لإصلاح الخلل أو العطل من خلال قنوات وأدوات مختلفة منها: المؤسسات الدينية، والمجتمع، والأسرة، والنظام السياسي، والمنظومة التعليمية. يعمل كل هؤلاء بكامل همّتهم لإصلاح الخلل الذي يرونه، وعلى حساب أي أحد من أجل الحفاظ على مؤسسة الأخلاق والآداب العامة تحت مظلة النظام الأبوي الغيري.

كيف نعرّف هويتنا؟

يتحدّى مفهوم "كوير" كل ما هو اعتيادي. يقدم المفهوم الموقع المتناقض للسائد ويمثل الإخلال والتوتر للاستقرار المجتمعي المهيمن. كوير حرفيًا هي كل ما هو "غير اعتيادي" أو "غريب"، وقد استخدم هذا المصطلح في أواخر القرن التاسع عشر لوصم وسب الأقليات الجنسية والجندرية غير المغايرة الجنسي. بعدها جرت عملية استرداد وإعادة امتلاك للمصطلح في أواخر ثمانينيات وتسعينيات القرن المنصرم، ليصبح من الألقاب المستخدمة من قبل أفراد مجتمع الميم للتعبير عن هويتهن/م. هذه الاستعادة لملكية وقوة مصطلح "كوير" هي فعلٌ سياسي يتحدى سياقًا تاريخيًا واجتماعيًا سلطويًا بالإضافة إلى نظام معياري غيري مسيطر على صياغة التعريف والمدلول الثقافي لكل ما هو "مختلف أو غريب".

ومن هنا، وبالرغم من وجودي على الهامش، إلا أن ذلك الهامش بتعريفه السابق، يعطيني مساحة أوسع للحركة ويتيح لي المزيد من الاستكشاف والفهم لنفسي ويفتح خيالي للاختيارات والمسارات غير النمطية التي بإمكاني أن أتخذها وأعيشها.

تتعدد السبل والهدف واحد: إعادة إنتاج الأنماط السائدة

في سياقات اجتماعية شبيهة بالسياق الذي أحيا فيه، تكون للمؤسسات الدينية سلطة قوية في إرساء القواعد الاجتماعية المرتبطة بالأدائية الجندرية المطبّعة وبالأسرة كمساحة أولية للحفاظ عليها ولإعادة إنتاجها. لننظر مثلًا إلى وثيقة الأزهر وحقوق المرأة التي نشرت في 2013 "الأسرة هي أساس المجتمع ووحدته الأولى، وهي كيان تعاقدي ومادي، ومعنوي، وينبغي اتخاذ كل الإجراءات والتيسيرات التي تدعم هذا الكيان وتصونه. فالأسرة كيان تعاقدي لكونها علاقة إرادية تنشأ بالاتفاق وتنتهي إما بالاتفاق أو بحكم القضاء مع التعويض أو دونه، وللرجل والمرأة فى ذلك كله إرادة متساوية فى إنشاء الأسرة وإنهائها بالأصالة أو التفويض، فيتم حسب ما يقرره الشرع في محكم آياته، وحسب ما تنص عليه شروط العقد، وأساسه الأول هو التراضي والقبول المتبادل، ومسألة التوثيق إنما هو لحماية الطرفين وبخاصة حقوق المرأة، تقوم الأسرة على المشاركة والشورى والعدل والمودة والرحمة. وقد كتب الله تعالى على الرجل الإنفاق على الأسرة فريضة عليه، نظراً لقيام المرأة بدورها الطبيعي في الإنجاب ورعاية الأبناء. فالإنفاق حق للمرأة والطفل واجب على الرجل".

في النص السابق، يتضح التركيز على "دور المرأة الطبيعي" في الإنجاب ورعاية الأبناء ودور الرجل في الإنفاق وتوفير المال للمرأة والأبناء. علاوة على ذلك فإن استخدام مصطلحات مثل "الطبيعي" أو"الفطرة" يخلق حاجزًا لردع النقد أو التساؤل عن ماهية وجدوى هذه الأدوار "الطبيعية" لكل من النساء والرجال. وفي هذا السعي تتضافر قوى السلطة المختلفة للحفاظ على وجود واستمرارية مؤسسة الأسرة الغيرية، حيث أن "الأسرة هي قوام المجتمع" كما تذكر المادة العاشرة من الدستور المصري، "وتكفل الدولة تمكين المرأة من التوفيق بين واجبات الأسرة ومتطلبات العمل"، وبذلك نرى أن الدستور المصري يتعامل مع الدور الإنجابي للنساء على أنه أهم واجباتهن.

ويحضرني هنا ما تقوله سيلفيا فيديريتشي في مقالتها "أجور مقابل الأعمال المنزلي": "علينا الاعتراف بأن رأس المال قد حقق نجاحا باهرًا جدًا في تغييب حقيقة عملنا المنزلي. حيث قام بخلق تحفة حقيقية على حساب النساء. لقد أنكر حقها بأجر مقابل الأعمال المنزلية عبر تحويله إلى عمل نابع عن الحب. وقد أصاب في هذا العديد من الطيور بحجر واحد. فهو كسب أولًا كمية هائلة من العمل المجاني من دون أجر تقريبًا، وضمن أن تكون المرأة بعيدة كل البعد عن أن تناضل ضده، تسعى بحماس في إنجازه وكأنه أفضل ما تقوم به في الحياة (الكلمات السحرية: "نعم، حبيبتي، أنت امرأة حقيقية")". وهكذا، يلعب النظام الرأسمالي دورًا كبيرًا في اضطهاد النساء في ظل عدم الاعتراف بالعمل غير المدفوع الذي تؤديه النساء في المنازل.

في بدايات تكوّن الرأسمالية الصناعية، حارب النظام الرأسمالي الأسرة التقليدية ولكنه سرعان ما أدرك أهمية تلك الأسرة النووية في إعادة إنتاج الطبقة العاملة، وبالتالي الحفاظ على التراكم الرأسمالي. وبناء على ذلك قُسّمت الأدوار داخل الأسرة النووية بما يخدم مصالح الرأسمالية، حيثُ أصبح دور الرجال الأساسي هو إعالة الأسرة من خلال انخراطهم في أعمال الإنتاج و أصبح دور النساء الأساسي هو تنشئة الأطفال والقيام بالأعمال المنزلية، أي أعمال إعادة الإنتاج. نظرت الرأسمالية للجهد المبذول من قبل النساء في أعمال إعادة الإنتاج على أنه جهد يوفر الموارد التي من الممكن أن تنفق إذا أخذ النظام على عاتقه تنشئة الأطفال من خلال عمل دور رعاية وحضانات اجتماعية، ولتفادي تلك التكلفة استخدم النظام الرأسمالي السرديات الأيديولوجية التقليدية الموجودة في النصوص الدينية والمُروّج لها في الإعلام لتسييد قدسية الأمومة ولإبقاء تصديق النساء أن دورهن الطبيعي هو رعاية الأسرة.

ومع تطور الرأسمالية، بدأ التقليل من شأن الأسرة، ومع الأزمة الاقتصادية انخرطت الكثير من النساء في سوق العمل، ولكن بقيت السرديات التي روج لها النظام عن الدور الطبيعي للنساء قائمة وذلك "لأن إيمان المرأة بأن الدور الاجتماعي الذي تقوم به هو واجبها وعملها الطبيعي، هو ما يجعلها تقبل بالعمل خارج المنزل بأجور أقل من الرجال".

في هذا السياق قام النظام الرأسمالي باستجلاب الموافقة الضمنية من النساء وذلك من خلال استخدام الأدوات التي يحتكرها لترسيخ الوعي السائد في المجتمع، كالإعلام والتعليم وغيرها، والذي يُنشئ النساء باعتبار كينونتهن الأنثوية محددة وثابتة ومقتصرة على كونهن خاضعات. يرسخ النظام الرأسمالي فكرة أن الدور الأساسي للنساء هو تكوين أسرة ورعايتها، فيصبح هدف النساء الأساسي في الحياة هو العثور على الزوج والولادة وتربية الأطفال، باعتباره الدور الأسمى المقرر لأي امرأة.

وهكذا، تتقاطع أشكال القهر وتتفاوت مصالح مؤسسات السلطة المختلفة لأجل هدف واحد ألا وهو ترسيم حدود دقيقة ومحصنة لذواتنا وهوياتنا، حدود تخدم هذه المصالح.

وبخلاف المؤسسات الدينية والنظام الرأسمالي، يقوم المجتمع ذاته، المتمثل في واقعنا المعاش، بالسيطرة والتحكم في سردياتنا الذاتية بشكل متجذر بشدة. تظهر السيطرة الثقافية على أجسادنا في المجال الخاص قبل العام وعلى سلوكياتنا وتعبيرنا الجندري وعلى جميع اختياراتنا المحورية والتفصيلية اليومية، على سبيل المثال: تضع النساء دائمًا في الاعتبار آراء ذوي السلطة في حيواتنا مثل الأم والأب وحارس المنزل عندما نختار قطعة القماش التي تغطي أجسادنا المستباحة معظم الوقت في المجال العام والخاص على حد سواء. تُمارس تلك الأنماط المختلفة من اضطهاد النساء أو أصحاب الهويات المهمشة بشكل ممنهج بفعل منظومة مؤسسية متجذرة وليست فقط عبر مظاهر عابرة تحدث بشكل عشوائي.

كيف نرانا؟ عدسة الهيمنة الاجتماعية وعلاقات القوة المختلفة

في نظام قائم على التراتبية، يكون بعض الأشخاص أعلى السلم الاجتماعي هم المنتفعون من إعادة إنتاج الخطابات التي تكرّس الأنماط والتعريفات السائدة لهويّاتنا الاجتماعية للحفاظ على استمرارية التراتبية واستمراريتهم في موقعهم الأكثر امتيازًا. تأتي هذه التعريفات كأمر واقع يُفرض علينا في الغالب، فنخوض صراعًا داخليًا حول التصنيفات المحددة لنا سلفًا وتعريفاتها وبين التصنيفات التي نختارها بأنفسنا، فعلى سبيل المثال: التعريف النمطي لهويتي كامرأة مصرية مسلمة هو تعريف سائد ومطبّع، أي يتعامل معه المجتمع بوصفه "الطبيعي"، قد يكون هذا التعريف مختلفًا وبعيدًا كل البعد عن تصوري وتعريفي الخاص لما هي هويتي.

يتحدى تعريفي الشخصي التعريف السائد عن النساء ويتخطى في طبيعته القوالب الموجودة مسبقًا عن هويتنا الجندرية التي تفرضها الثقافات والمجتمعات. ينطبق هذا التفسير على قضايا وظواهر أخرى، إحداها مثلًا "رهاب العبور الجندري أو الجنسي"، وهو الخوف من العابرين/العابرات جنسيًا أو جندريًا فقط لمحاولة هؤلاء الأشخاص العبور من هوية جندرية عُيّنت لهم بشكل قسري - من قبل أفراد أو مؤسسات - لهوية أخرى باستطاعتهم تحديدها وتعريفها لأنفسهم/ن وأجسادهم/ن وكينونتهن/م. وفي كل محاولة للعبور من تصنيف فرضه النظام الأبوي الرأسمالي، لنفرض سيادتنا نحن على أجسادنا، نُقابل بالقمع والتهميش والرفض المجتمعي.

"فعل السلطة" – من هو صاحب القرار؟

حاول ميشيل فوكو تفكيك مفهوم السلطة في حياتنا اليومية بواسطة إدراك أشكال السلطة المتعددة وعلاقتها بالنطاقات المختلفة التي تعمل فيها وتنشأ مؤسساتها من خلالها. تنعكس هذه العملية في المقاومات والمواجهات المتواصلة التي تدعم علاقات القوى بداخلها، وبالتالي تكون "نظامًا" أو "سلسلة" أو على العكس تكون "تناقضات" و"انفصالات" تعزل أشكال السلطة عن بعضها البعض. يتبلور التطبيق المؤسسي لهذه السلطة في أجهزة الدولة وصياغة القوانين، وبشكل أكبر في الهيمنة الاجتماعية.

تتدخل القواعد والأحكام المجتمعية في خياراتنا اليومية، فلسنا بمعزل عن الواقع المحيط والمعاش، وذلك على الرغم من إدراكنا النسبي لبعض من أشكال الاضطهاد والتهميش المبني على هوياتنا الجندرية أو العرقية أو الطبقية أو ميولنا الجنسية، فهذا لا يغير شيئًا بالضرورة. نحاول أن نكون فاعلات وفاعلين في أدق التفاصيل اليومية بداية من اختياراتنا في الملبس والتعبير عن هويتنا الذاتية، حتى في قرار مثل البوح والخروج من الخزانة تحت طيف مزدهر مليء بالألوان، ونحاول جاهدات أن نصبح صاحبات قراراتنا. يبدو كل هذا بسيطًا للبعض ولكنه في الواقع أقرب إلى المستحيل، لعدة أسباب أبرزها ذعر ورعب النظام الغيري من التنوع والاختلاف ومن وجود أكثر من قالب وشكل غير مألوف. لا يخفى على أحد كيف يمكن لمؤسسة الدولة أو الأسرة أو غيرها من المؤسسات الأبوية أن ترد على محاولاتنا في أخذ قراراتنا والكشف عن هوياتنا، سواء بالمبالغة بالتهميش أو بالمضايقة والتنمر أو في الكثير من الأحيان بالملاحقة والعقاب والاعتقال.

نقاوم من خلال الفخر بالاختلاف

ما نفعله هو أننا نقاوم ثم نضعف، وكثيرًا ما نستسلم في رحلة مقاومتنا، ونخضع لقوى شمولية ومؤسسية تاريخيًا ومجتمعيًا على مر السنوات، ليس لشيء إلا لكي نكون ملائمات ومقبولين. لا بأس بهذا إن جعلنا ندرك موقعنا وقوتنا في هذه العملية المجتمعية المستدامة ومتى علينا أن نتوقف للحظة وندرك أن موقعنا هو الأضعف. وفي أحيان أخرى نحاول أن نندمج في القوالب لنقترب أكثر من مراكز القوة المجتمعية ولنتمتع بالامتيازات الغيرية التي تتوافر في حالة الاندماج.

تقول أودري لورد: "الاختلاف هو هذه الصلة الخام والقوية التي منها نخلق قوتنا الشخصية". في تقديري، إن الاختلاف هو الذي يتحدى الهيمنة والأنماط الواحدة الثابتة المعادية لكل ما هو مختلف: نظام الأخلاق الغيري والأبوي والرأسمالي، نظام أوحد مهيمن لا يسمح بالمساءلة أو النقد أو الخروج عنه. لهذا علينا ألا نقبل اختلافاتنا فقط بل أيضًا علينا أن نستعيد امتلاك هذا الاختلاف والتنوع بأشكاله المتعددة. علينا أن نعيد تفكيك التعريفات والمعاني المصاحبة للاختلاف وأن ننظر إلى اختلافاتنا كقوة للتغيير والمقاومة.

"لكن، ها هو العالم يختنق، إذ كيف يتنفّس العالم بلا هامشه؟

المنبوذون هم رئة الحياة

قلب الحياة هو الهامش"

وديع سعادة، قصيدة غبار