"لماذا لا أستطيع أن أكون أنا؟": قراءة في الجنسانية الأبوية في العراق

ليس المشي من الأمور التي أفضِّلها إطلاقًا، إلَّا أن الهروب من سلطة خانقة في المنزل هو سبب منطقي للاندفاع نحو أمور مختلفة تخفِّف من ضغط تلك السلطة. بملابس واسعة تصميمًا وقياسًا، وشَعر يتجاوز الكتفَين، أخترقُ شوارع المدينة بحثًا عن مساحة آمنة للقراءة، أو التدخين، أو حتى شرب الشاي، وأحيانًا لمجرّد الهروب فقط. 

لم يكن صراخ المتحرّشين، ولا نباحهم المستخدم لإخافة الضحية، ولا حتّى الآهات والأصوات التي يطلقونها إيحاءً بمظهر الضحية الخارجي - وهي طرق التحرّش المُعتادة في العراق - تزعجني إلى حدّ كبير. بل سخرية عناصر الشرطة في نقاط التفتيش المختلفة من مظهري الذي يعتبرونه أنثويًا. في الواقع، لا تتوقَّف السخرية عند فردٍ واحدٍ فقط، ففي غالبية الأحيان يتمّ إرسالي من رجلٍ إلى آخر وأنا أحمل هويتي وسؤالًا لقَّنني إياه الرجل الذي فتّشني أولًا، وأُجبر على تكراره أمام رجل الأمن الثاني، الذي أقف أمامه وأردِّد: "يقول الضابط هناك (وأنا أشيرُ إليه) هل الشخص في الصورة يشبهني؟". سؤالٌ لإثبات الاختلاف بين مظهري الحالي وصورتي في بطاقتي التعريفية. تأقلمتُ إلى حدّ كبير مع كلّ تلك التعليقات، ومع لمس مؤخِّرتي أو صدري، وأحيانًا تحسُّس أعضائي التناسلية لمعرفة "ما أنا". 

في إحدى رحلات العودة إلى المحافظة التي أسكنها، وجب عليَّ المرور بنقاط تفتيشٍ عدّة. هناك، سألني أحد عناصر الشرطة، الذين يفتِّشون كلَّ شيءٍ حتّى علب السجائر، وهو يضع يده على أعضائي التناسلية: "ما افتهمنا، عندك كس لو عير؟". ودفعني ذلك السؤال إلى التفكير للمرّة الأولى، لماذا يجب عليَّ أن أكون كسًّا أو أيرًا؟ لماذا لا يمكنني أن أكونَ أنا: إنان؟

صعوبة أن أكون أنا

كان التفكير بجنسانيّتي بصوتٍ عالٍ أمرًا صعبًا، لاسيّما في إطار مساحةٍ ضيِّقة، إن لم نقُل معدومة، في الفضاءَين العام والخاص في العراق لمشاركة أفكاري عن هويَّتي وكيفيَّة تعريفي جسدي. فتاريخ البلاد الدمويّ في التعامل مع كلّ من يخالف/تخالف المعياريّة الغيريّة لا يزال يثير الرعب، كما لا يزال خطاب التحريض والكراهية الذي تنشرهُ المؤسّسات الدينية ورجالها المسيطرون على فصائل وميليشيات مسلّحة، سائدًا في العراق الناشئ بعد عام 2003، ويصدِّر نظامًا أخلاقيًا انضباطيًا في شكل حملاتٍ إيمانية. وتُضاف إلى ذلك، عمليات القتل والإخفاء القسري التي تحول دون وجود مساحاتٍ آمنة للتعبير عن الهويّات والميول الجنسية، سواء في الفضاء العام أو عبر الإنترنت، إلّا من خلال حساباتٍ وهميَّة. لذلك، تبقى علاقاتي مع الرجال بالخفاء لأسبابٍ تتعلّق بأمني الشخصي وأمن الشركاء، في حين أنّ علاقاتي مع النساء تجعلني أكثر "اجتيازًا (Passing) أو قبولًا" داخل مجتمعٍ يصنّف الجنسانية نسقًا ثنائيًا تراتبيًا قائمًا على نوعَي الرجل والمرأة. في الواقع، معظم أفراد مجتمعات الميم-عين+ في العراق "يجتازون" المجتمع المحيط بناءً على نوع شريكهم/شريكتهم، وثمّة سلوكيَّاتٌ معيّنةٌ تجري قولبَتهم/ن وتنميطهم/ن عبرها تحدّد ماهيّة كلٍّ من "الرجل" و"المرأة". 

لا يزال خطاب التحريض والكراهية الذي تنشرهُ المؤسّسات الدينية ورجالها المسيطرون على فصائل وميليشيات مسلّحة، سائدًا في العراق الناشئ بعد عام 2003، ويصدِّر نظامًا أخلاقيًا انضباطيًا في شكل حملاتٍ إيمانية

بين عامَي 2019 و2023 - وهي الفترة التي بدأتُ أعبّر فيها أكثر عن جنسانيَّتي - تلقّيتُ الكثير من التعليقات المُتعلِّقة بحياتي الجنسيَّة، أكثر من تلك المُتعلِّقة بهويَّتي "اللاثنائيَّة" (non-binary) التي كشفتُ عنها، مع التركيز على علاقاتي المقبولة مجتمعيًا بحسب مؤشّرات المعياريّة الغيرية، لاسيّما أنها الجزء المفضّل لديّ والأكثر ظهورًا أمام "دوائر الأمان" التي يجب أن أبقى فيها، لا أن أصبح مثليًا لأنني فشلتُ في علاقةٍ غيرية، على الرغم من أنَّني لستُ مثليًا! ففي عام 2021، على سبيل المثال، تهجّم عليَّ أحد معارفي وهو في حالة سُكر، ثمّ راح بعض الحاضرين يطرحون الأسئلة عن تعرُّضي لاعتداءٍ جنسي في طفولتي: "أنت تحبّ تتناج؟ شنو مغتصبيك وأنت صغير؟"، "علاقاتك المثلية كانت بالتراضي أو كانت تتمُّ بالغصب؟"، مفترضين موقعي في العلاقة حسب ما يوحي به مظهري الخارجي لهم. وتلَت تلك الأسئلة بعض النصائح النفسية العقيمة المبنيَّة على أساس نوع الاعتداء المفترَض الذي تعرَّضتُ له، على الرغم من أنَّني لم أُجب على أسئلتهم.

أليسَت هذه أزمة ذكورة؟ وإذا ما تبنّينا هذا المفهوم التراتبيّ في تخيّل سبب مثلية الأفراد أو عدمها، ألا يكون الخطرُ المحيط بالأطفال وحتى البالغين هو أزمة الذكورة هذه؟

الجنسانيَّة الأبوية وثقافة الاغتصاب

تصوِّر المنظومة التربوية/الأبوية العربية عمومًا، والعراقية خصوصًا، الجنسانية (sexuality) على أنها نسقٌ ثنائي وهرميّ في آن؛ ثنائية تقوم على طرفٍ قوي مُسيطر مُتمثّلٍ بالفاعل الرجل، وآخر أدنى مُتمثّلٍ بالمفعول بها المرأة. ولا ينحصر هذا النسق بالمرأة وحدها، بل يشمل كلّ "المفعول بهم" الجنسانيّين الذين يشاركونها الخضوع لهيمنة الفاعل الرجل. 

يؤسِّس هذا النظام التربوي الجنساني لبناء نوعَين جنسانيَّين فقط، هما الرجل و"اللا رجُل"، انطلاقًا من الجنس البيولوجي إلى السلوكيَّات التي تصنع الفاعل والمفعول به، مع التركيز على تحويل ذكورة الرجل إلى سلطة وامتياز. فهذه الامتيازات تُبنى كموقعٍ اجتماعي مُسيطِر عبر توظيف الجنس البيولوجي "القضيب/الفرج" في بناء النوع الاجتماعي من خلال تأسيس التراتب والسيطرة بين الرجل والمرأة. وهذه التنشئة التربوية هي التي تبني الرجل بوصفه فاعلًا داخل المجتمع، والمرأة بوصفها مفعولًا بها داخل الممارسات الاجتماعيَّة، بما فيها الممارسات الجنسيَّة. ولأن المفعول به الجنسانيّ يتشارك مع المرأة الدور نفسه، فهو خاضعٌ لهيمنة الرجل، أو لفعل الإيلاج، الذي يثبت دور الفاعل الإيلاجي: "القوَّة والسيطرة".

تصوِّر المنظومة التربوية/الأبوية العربية عمومًا، والعراقية خصوصًا، الجنسانية (sexuality) على أنها نسقٌ ثنائي وهرميّ في آن؛ ثنائية تقوم على طرفٍ قوي مُسيطر مُتمثّلٍ بالفاعل الرجل، وآخر أدنى مُتمثّلٍ بالمفعول بها المرأة

وضعَت هذه الأدوار الجنسانيَّة كلَّ الأفعال في سياق خدمة الهيمنة الذكورية. وتمثَّل الفعل الإيلاجي باغتصاب زوجي، أو اغتصاب قاصر، أو اغتصاب شريك/ة، أو اغتصاب رجلٍ أو امرأة آخرين، وكان جزءًا من هذه الهيمنة. وفي ظلّ غياب دور المؤسَّسات الحكومية للحدّ من مخاطر هذا النوع من الاعتداء، بالتوازي مع وجود نسقٍ اجتماعي-ديني يعزِّز تزويج القاصرات والهيمنة الذكورية، يصبح الاغتصاب بين الذكور هو فعل إثبات الهيمنة ودونية الآخر، أي إخضاع الآخر للسيطرة.

لم تكن تلك المرَّة الأولى التي أتعرّض فيها لهذا النوع من محاولة إثبات دونيَّتي في مقابل رجولتهم. ففي شباط/فبراير 2023، كنتُ أعمل في شركةٍ بدوام يصل إلى 15 ساعة يوميًا مُحاطةً بثلاثين ذكرًا. وكانت الأحاديث والشتائم والأوامر كلّها مُرفقة بتعليقاتٍ جنسيَّة دونيَّة، حتى أنّ المزاح كان يتحوّل من اعتداء لفظي إلى اعتداء جسدي. وبطريقةٍ ما، وجدتُ نفسي أدافع عن فردٍ يعزل نفسه عن الجميع، لا لأنه لا يستطيع الدفاع عن نفسه، بل لأن الاعتداء الجنسي على الأطفال تحوّل إلى نكتة، وبصفتي ناجيةً من اعتداء جنسي في طفولتي، شعرتُ بأنّ الأمر يخصّني وبأنّه موجَّهٌ إليّ. بدأ النقاش بسؤالٍ ساخرٍ وجِّه لذلكَ الشخص: "هم مغتصبيك وأنت صغير؟"، وانتهى بسؤالٍ موجَّهٍ إليَّ: "ليش تدَّخل؟ لازم مغتصبيك؟". ولأنّ هذا الشكل من العنف يُروى من وجهة نظر المُهيمِن/المعتدي، فهو يجعل فعل الاغتصاب أكثر طبيعيةً بصفتهِ أحد أشكال فرض الهيمنة التي ترمز إلى فحولة الرجل. 

يرى عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو (Pierre Bourdieu) في هذا السياق أن "العنف الرمزي لا يتحقّق إلَّا من خلال فعل معرفةٍ وجهلٍ عملي يُمارَس من جانب الوعي والإرادة، ويمنح سلطته المنوَّمَة إلى كلّ تظاهراته وإيعازاته وإيحاءاته وإغراءاته وتهديداته ومآخذه وأوامر دعوته إلى الانضباط. لكن علاقة هيمنة، التي لا تعمل إلَّا من خلال تواطؤ الاستعدادات، تتبع بعمق، لأجل تأبيدها أو تحويلها بتأبيد أو تحوّل البنى، والتي كانت تلك الاستعدادات نتاجًا لها (وبشكلٍ خاصٍ لبُنية سوق المتاع الرمزي، والذي يقتضي قانونه الجوهري أن يعامل النساء كأشياء تُتداول من أسفل إلى أعلى)".1

نرى إذن أنّ رؤية بورديو تعتمد على التقسيم الجنسيّ القائم على الهيمنة والخضوع والتبادل الاجتماعي بين الرجل والمرأة. فالهيمنة الذكورية قائمةٌ على ما يُطلق عليه "العنف الرمزي"، ذلك العنف اللا مرئي وغير المحسوس في بُنى المجتمع والذي يُمارس ويُتناقَل عبر الجهل و/أو الأعراف الاجتماعية. وتبدأ تقسيمات المكوّن الاجتماعي - أي علاقة الهيمنة والاستغلال - من تشكيل الأجساد والأدوار انطلاقًا من تقسيم كل الموجودات بين مذكّرٍ ومؤنث، كما تتعزّز الهيمنة و/أو تتأبّد داخل المجتمع من خلال ذلك التقسيم الذي يصوغ المعارف والأفكار السائدة عن أدوار تلك الأجساد.

المثلي والأنثوي وتنميط الأدوار

على الرغم من عسكرة المجتمع التي قادها حزب البعث عند وصوله إلى السلطة في عام 1968، لم تفكِّك القومية العربية التي تبنَّاها صدَّام حسين الانسيابيَّةَ الجنسانيَّة لدى العراقيّين إلّا في وقتٍ متأخِّر. وحدث ذلك بعد الغزو الثقافي الذي اعتمدَته العشائر والقبائل العراقية وتبنّيها "الأصل العربي"،2 تلَته الحملاتُ الإيمانيَّة التي قادها حسين في التسعينات، ثمّ حملات رجال الدين بعد الاحتلال الأميركي للعراق في عام 2003، والتي أدَّت إلى بروز النسق الجنسانيّ الحالي. 

وثّق الرحَّالة والطبيب البريطاني، ويلفريد ثيسيغر (Wilfred Thesiger)، في كتابه "عرب الهور"3 حالاتٍ عدّة رصدَها لوجود عابرين وعابراتٍ جندريًا في المجتمعات الأهواريَّة، ووثّق قبولهمنّ داخل المجتمع في عام 1952، أي بعد 7 سنوات على وفاة المطرب الأهواري العابر مسعود عمارتلي في عام 1944.

تفاقم تنميط الأدوار الجندرية مع صعود الحملة الإيمانية الثانية في عام 2006، التي صوَّرت المثليّين على أنهم "نساء بقضيب" بناءً على رغباتهم الجنسيَّة والكثير من التبهير الديني

لم تكن المثلية الجنسية و/أو العبور "تابو" آنذاك في العراق، حتى أنّ كتّاب الأغاني انقسموا بين مَن كتب للمذكر ومَن نظَم للمؤنث، وكذلك كان أمر المطربين. وكان أبرز أولئك الشاعر المحلّي، ملا محمد علي القصَّاب، الذي ربط المثليَّة الجنسيَّة بمطربه سعدي الحلّي وبمدينته الحلّة،4 عدا عن الفن الشعبي، المربع البغدادي، الذي كان يتناول الحياة اليوميَّة للبغداديّين بما فيها الغزل بالمذكر وحبّ الرجل، بالإضافة إلى وجود الملاهي الليليَّة التي كانت مليئة بالمثليّين والدراغ كوين في الثمانينات والتسعينات. استمرّت هذه المظاهر إلى حين أطلق صدّام حسين الحملة الإيمانيَّة الأولى استجابةً للانتفاضة الشعبانيَّة التي بدأَت في المدن الدينيَّة في عام 1991، وأجبرَت حسين على الخضوع بشكلٍ أو بآخر. 

فعلى الرغم من محاولات النظام التقرّب من المجتمع ولجمه، انصاع صدَّام حسين في النهاية لقوّة السطوة الدينيَّة وحاول التقرّب إلى الناس عبر حملته لإغلاق الملاهي الليليَّة التي كانت تضمّ المثليّين والدراغ كوين والتحريض على قتلهم. وبحسب المؤرّخ أخيم روهيد (Achim Rohde)، رفض سكّان مدينة الثورة في بغداد تحريضات حسين التي حلّلَت القتل، وركَّزوا بدلًا من ذلك على أسباب أزماتهم، رافضين تحميل المثليّين/ات والعابرين/ات وزر معاناتهم. وتجدر الإشارة إلى أن سكّان مدينة الثورة هم مهاجرون من الأهوار العراقيّة وفدوا بعد الانقلاب الذي قاده عبد الكريم قاسم في عام 1958، حتى أنّ تأسيس مدينة الثورة جاء أساسًا لتوفير مساكن للفلّاحين الذين عملوا في أراضي الإقطاعيّين.

تفاقم تنميط الأدوار الجندرية مع صعود الحملة الإيمانية الثانية في عام 2006، التي صوَّرت المثليّين على أنهم "نساء بقضيب" بناءً على رغباتهم الجنسيَّة والكثير من التبهير الديني. وصوّر هذا التنميطُ الفردَ المثليّ الفاعلَ رجلًا يُثبت ذكورته من خلال الفعل الإيلاجي، بينما أضفَت على المثليّ المولَج به مكانةً دونية. هكذا، ساهمَ هذا النسق التربويّ الجنسانيّ في صناعة صورتَي "المثليّ المولِج كرجل" و"المثليّ المولَج به كامرأة"، بناءً على الفعل الجنسي حصرًا. ولا يزال هذا التصوُّر قائمًا إلى يومنا هذا، ويمكن استشراف هذا النسق التربوي الجنساني من خلال التهديد باغتصاب المثليّين وكذلك الإقدام على اغتصابهم بعد قتلهم في الفترة بين عامَي 2003 و2020.

ولأنّ هذا البناء الاجتماعي يعتمد بشكلٍ كاملٍ على ثنائية الفاعل والمفعول به، رُبط كلّ ما هو أنثويّ بالمثلية والعكس يصحّ أيضًا؛ أي غدَت كلّ السلوكيَّات التي لا تطابق الصورة النمطية للرجل الفاعل المُهيمن تُصنّف سلوكيّاتٍ أنثوية، وبالتالي مثليّة. وأدّى هذا إلى مهاجمة وقتل كثيرٍ من الأفراد غير المثليّين لمجرّد تصنيفهم "أنثويّين".

انتهاكات الحاضر إرثُ الماضي

يرى كريم (اسم مستعار) أن اجتيازه المجتمع بوصفه رجلًا مثليًا هو إجراءٌ احترازي يعتمده عبر تنميط صورته كرجل، فيقول "أجتاز الحياة كرجلٍ مطابقٍ جندريًا في الأوقات التي أختارها لضروراتٍ اجتماعيةٍ من أجل حماية نفسي أو حتى كإجراءٍ احترازي. ومن بين هذه الأمور مثلًا شعر الوجه أو الملابس، وطريقة الكلام والمفردات وخشونة الصوت، واختيار طريقة المشي والتفضيلات".

تعلم الدولة أن الطبَّ لن يقف في صفّ قانونها القمعي، لذلك تلجأ إلى وضع أحكامٍ اجتماعية في نصّ القانون لتدعيم موقفها الهادف إلى قمع أفراد مجتمع الميم-عين+

الاجتياز أو الـ"passing" لا يلغي الخطر على حياة كثيرٍ من أفراد مجتمعات الميم-عين+ بسبب ارتباط صورتهم/ن بالأنوثة كما بالبناء الاجتماعي لصورتَي الرجل والمرأة. مثلًا، "قلّة الرجولة" التي قد توحي بها بعض السلوكيَّات قد تعرّض كثرًا للتهديد أو الوصم الاجتماعي والعزل. من جهةٍ أخرى، لا يمكن لهذا التماهي مع المجتمع أن يزيل الخطر المحيط بنا كأفرادٍ لا يَشي مظهرنا أو سلوكنا بطبيعة أعضائنا الخاصة، وهو المُحدِّد الذي يرغب المجتمع في رؤيته وصوغه.

"أعيش حياةً مزدوجة"، هكذا تعبِّر سيلين (اسم مستعار) عن هويَّتها الكويرية، وتضيف: "وجود شريكة في حياتي يُشعِرني بالخطر أكثر، لأن الناس سوف يشكّون في ميولي بسهولة. حميتُ نفسي من خلال التزام الصمت في معظم الوقت. في السابق، كنتُ أكذب وأقول إنّي معجبةٌ بشاب، وأتحدَّث عنه كحبيبٍ أمام الأصدقاء بعِلمٍ من الشخص نفسه. لكن حاليًا، حين أُسأل عن حياتي العاطفيّة، حتى مع أهلي، أجيب بأنّي غير مهتمةٍ كي أُقفل الموضوع".

يصعب على النساء المثليَّات اجتياز المجتمع. ففي حالة سيلين، على سبيل المثال، تنتظر عائلتها والمقرَّبون منها أن تجد شريكًا ذكرًا. وبالتالي، أيّ إيحاءٍ بوجود مشاعر تربطها بامرأةٍ أخرى قد يُفقِدها حياتها. هذا الاستهداف المباشر للنساء المثليَّات يعود إلى تبنِّي المجتمع للمعيارية الغيريّة القائمة على ثنائية الرجل والمرأة، ما يجعل الاجتياز في حدّ ذاته مشروطًا بوجود الشريك الذكر، ما يُجبر مثليّاتٍ كثيراتٍ على عيش حياةٍ مزدوجة.

إنّ احتكار الدولة القانوني للعنف يتمُّ بشكلٍ رئيسٍ بواسطة المليشيات المُسلَّحة الموالية لإيران. فوجود تلك المليشيات في السلطة وبسطها نفوذها يفرضان مواقفها على أرض الواقع

مشروع القانون الأخير الذي تحاول الدولة من خلاله تجريم المثلية عبر ضمِّها إلى قانون مكافحة البغاء، يستهدف حصرًا النساء العابرات، والرجال غير المعياريّين والأفراد البَين-جنسيّين. وتعتبر الفقرة الثالثة من مشروع القانون "التشبُّه بالنساء" جرمًا، سواء من خلال وضع مساحيق التجميل أو أسلوب اللباس، ما يؤكّد استهداف الدولة لهذه الفئات، وبالتالي تقصّد محاكمة الأفراد وفق الأحكام الطبّية5 والاجتماعية.

تقول الطبيبة لارا (اسم مستعار) "أُقصيتُ لأنّي أرى مجتمع الميم-عين+ سويًّا من الناحية الطبيّة"، معبّرةً عن امتعاضها من محيطها الاجتماعي/الأُسري الذي نبذها لأنّ مهنتها والعِلم يعترفان بسويّة هؤلاء الأفراد. في الواقع، تعلم الدولة أن الطبَّ لن يقف في صفّ قانونها القمعي، لذلك تلجأ إلى وضع أحكامٍ اجتماعية في نصّ القانون لتدعيم موقفها الهادف إلى قمع أفراد مجتمع الميم-عين+. 

أحكام الإعدام والمؤبَّد ليسَت غريبةً على أفراد مجتمع الميم-عين+ في العراق الجديد. بين عامَي 2009 و2022، رصدَت منظمة "هيومن رايتس ووتش" الآلاف من حالات الاعتداء والتهديد والخطف والقتل على أيدي المليشيات المسلَّحة بسبب تردّي الأوضاع الأمنيّة ووصول تلك المليشيات إلى السلطة. لكنّ القوانين الجديدة المطروحة أصبحَت أكثر تحديدًا في تصنيف وتسمية مَن يجب أن "يُقتل". 

إنّ احتكار الدولة القانوني للعنف يتمُّ بشكلٍ رئيسٍ بواسطة المليشيات المُسلَّحة الموالية لإيران. فوجود تلك المليشيات في السلطة وبسطها نفوذها يفرضان مواقفها على أرض الواقع، من خلال تحويل أفكارها ومعتقداتها إلى حسٍّ مشتركٍ ورأيٍ عامٍ سائد. وكما أوضح مجتمع التحقيق العربي، قادَت تلك الموجاتُ المطالِبة بإقرار قانونٍ يجرِّم المثلية الجنسية إلى إنشاء قنواتٍ على تطبيق تليغرام تتبع لفصائل مُسلَّحةٍ في العراق ولبنان واليمن من أجل حشد الأعضاء، وتجييشهم ونشر منشوراتٍ معيَّنة في أوقاتٍ محدّدة. تسعى هذه الهيمنة الثقافية إلى التفرُّد بالسلطة، وما المثلية الجنسية إلا ورقةً تستخدمها الحكومات وقوى الأمر الواقع للتغطية على فشلها المستمرّ. أمّا تجريم المثلية وتحويله إلى رغبةٍ ومطالبةٍ شعبيةٍ عامّة، فلَيس إلّا تكتيكًا للحفاظ على السلطة في يد قوى الأمر الواقع تلك.

وبالعودة إلى السؤال الذي طرحتُه في مطلع المقال: لماذا لا أستطيع أن أكون أنا، إنان؟ الجواب ببساطة: لأنّ مظهري يُزعج السلطة.




ـــــ ملاحظة

ننشر هذه المادة في إطار زاوية "عبورٌ في المدينة" المُخصّصةٌ للكاتبات والكتّاب والفنّانين/ات والناشطين/ات العابرين والعابرات (الترانس) من المنطقة الناطقة باللغة العربية، من مختلف البلدان، والخلفيّات، والتخصّصات، والهويّات، من مقيمين/ات ومهاجرين/ات. هي مساحةٌ دوريةٌ مفتوحةٌ للأفراد العابرين/ات للبوح والتعبير عمّا يعنيهنّ/م، لاسيّما المواد الآتية:

  • حكايات الحياة اليومية التي تُبرِز التجارب والمشاعر والتأمّلات الإنسانية الحميمة.
  • المساهَمات المُسيّسة والمُشتبِكة اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا مع وقائع العابرات والعابرين في مختلف سياقات المنطقة وبلدان المهجر والشتات.
  • التأمّلات الفنّية والفكرية والفلسفيّة في آداب ونظريّات التجسّد والعبور الجندري والهويّاتي، والمعاني الكامنة في تجاربه.

للمساهمة في الزاوية، يمكن إرسال المقترحات إلى البريد الإلكتروني: contact@jeem.me

سياسة المساهمة في جيم متوفّرة على موقعنا.

 

 

  • 1. بيار بورديو، "الهيمنة الذكورية"، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2009، ص. 72.
  • 2. استجابةً لخطاب القوميّة العربيّة الذي انتهجه صدّام حسين، أصبحَت القبائلُ أكثر قربًا منه وتحديدًا "العرب السنّة" الذين تبنّوا فكرة "الأصل العربي" للتقرّب من السلطة وتبعَتهم قبائل أخرى.
  • 3. ويلفريد ثيسيغر، "عرب الهور"، القاهرة، دار مصر للطباعة، 2009، ص. 247.
  • 4. نوفل الجنابي، "الحلّة عاصمة السخرية"، بيروت، دار المدى، 2014، ص. 307.
  • 5. يرِد في نصّ مشروع القانون: "تعاطي الأدوية أو المستحضرات الطبية التي يكون لها تأثيرٌ في زيادة الهرمونات الأنثوية بشكلٍ يساهم في ظهور علامات الأنوثة على الذكر"، وفي هذا استهدافٌ واضحٌ للنساء العابرات جندريًا. بالإضافة لذلك، يعاقب مشروع القانون كلّ من يثبت أنه مارس الجنس المثليّ أكثر من ثلاث مرات، ما يعني أن الدولة سوف تفرض فحوصاتٍ شرجيةً قسريةً مرفوضةً طبيًا وتتذرّع بها لاستهداف الأفراد غير المعياريّين/ات.