"السجن الكبير"... عاملات أجنبيات منسيّات على هامش الحرب في لبنان

"ما إن بدأت الأصوات تعلو والضربات تزداد... هربت المدام" تقول زينب، وهي عاملة منزلية من سيراليون. ولمن لا يعرف فإن لفظ "المدام" أو "السيدة" شائع في لبنان حيث تستخدمه العاملات المنزليات المهاجرات للإشارة إلى ربّة المنزل أو "الكفيلة". هذه التسمية تكشف بوضوح عن موازين القوى غير المتكافئة، وتسلّط الضوء على نظام الكفالة بوصفه شكلاً من أشكال العبودية الحديثة المقنّعة.

زينب، وهي امرأة ثلاثينية جاءت إلى لبنان بهدف العمل لإعالة أسرتها في سيراليون. عملت لمدة 6 سنوات في منزل إحدى الأسر في الضاحية الجنوبية لبيروت، وتصف علاقتها بأفراد الأسرة بأنها كانت "جيدة".

ولكن مع تصاعد الغارات الإسرائيلية على الضاحية وتزايد التحذيرات بإخلاء الشوارع، سارع أفراد الأسرة إلى مغادرة المنزل كما فعلت آلاف العائلات الأخرى. المفاجأة كانت في أن الأسرة "الكفيلة" تركت زينب وحيدة بلا حلّ أو مال وبدون أوراقها الثبوتية حتى!

تتقاطع قصة زينب مع مئات العاملات الأجنبيات اللواتي تُركن لمواجهة مصيرهن بمفردهن بعد رحيل الكفلاء، إذ تركوهن وحيدات، محبوسات في البيوت لحراستها والحفاظ عليها، بينما فرّ أصحابها بحثًا عن الأمان في أماكن أخرى أو هجروهنّ في الشوارع.

بحسب الأرقام المعلنة فإن أكثر من 40 عاملة سيراليونية افترشن أحد الأرصفة وسط بيروت. تروي زينب أنها وزميلاتها قصدن عدة مراكز إيواء بحثًا عن حل، لكن الردّ كان دائماً نفسه "هون للبنانية... ما في أفارقة".

عندما التقيتهن كنّ قد أمضين عشرة أيام مرهقات على الرصيف، معظمهنّ يفترشن الأرض ومن كانت "محظوظة" بينهنّ تنام على لوح من الفلّين. بين الحين والآخر يأتي متطوعون لتقديم الطعام لهن. وعند هطول المطر كنّ يتكدسن بجانب بعضهن في زاوية الشارع بانتظار أن تجف الأرض.

كثيرات منهن لا تحملن أوراقهن الثبوتية، ما يجعلهن مترددات في طلب المساعدة الإنسانية خوفًا من القبض عليهن أو ترحيلهنّ. بعضهن لا تزال أوراقها بحوزة "الكفلاء"، أما من يحملن جوازات سفرهن فعاجزات عن المغادرة؛ أولًا: لعدم قدرتهنّ على تحصيل ثمن تذكرة السفر، وثانيًا: بسبب وفاة السفيرة القنصلية السيراليونية مؤخرًا دون أن يُعيّن بديلًا لها بعد. 

قصة زينب ليست فريدة من نوعها، بل هي واحدة من آلاف قصص العاملات المهاجرات اللواتي تقطعت بهنّ السبل مع التصعيد العسكري الإسرائيلي على لبنان، في وقت ارتفع فيه عدد النازحين إلى أكثر من مليون و400 ألف شخصًا بحسب أحدث أرقام "وحدة إدارة مخاطر الكوارث في لبنان".

العاملات المهاجرات هنّ فئة تتعرض للتهميش  حتى في الظروف العادية، فكيف في ظروف الحروب؟

في هذا السياق، تقول فرح سلكا من "حركة مناهضة العنصرية في لبنان" إن "حجم الكارثة الحالية يفوق كل ما شهده لبنان سابقًا فيما يتعلق بالعاملات الأجنبيات. فعددهن في لبنان يُقدّر بحوالي 400 ألفًا أكثر من نصفهنّ بلا مأوى".  

بحسب سلقا، تختلف الأسباب التي أدّت إلى تشرّد العاملات، إلا أن النتيجة واحدة وهي كارثة إنسانية. فبعضهن غادر مع أصحاب العمل والبعض الآخر تُركن في المنازل وحيدات، في حين أن العاملات المستقلّات اللواتي لا يعملن لدى صاحب عمل ثابت أصبحن مشردات. وهناك أيضًًا العاملات اللواتي كن يقطنّ في مساكن جماعية واللاتي أجبرن على مغادرتها بعدما عمد أصحاب هذه المساكن إلى طردهن لتوفيرها للعائلات اللبنانية.  

فرح تعمل مع حوالي 25 موظفًا/ة ومتطوعًا/ة في "حركة مناهضة العنصرية" وتوضح أن العمل في هذه الظروف لم يعد خاضعًا لأية قواعد أو ساعات محددة. تقول "نعمل بكل طاقاتنا لتقليص حجم الكارثة، لكن للأسف الأزمة على مستوى حكومي ونحن أو أي جمعية أخرى لا نملك حلولًا جذرية خاصة أن المشكلة ترتبط بنظام قانوني ظالم ومعتقدات عنصرية متأصلة". لكن التحدي الأكبر يبقى في قلة عدد الملاجئ المتاحة.  

الترحيل... حلمٌ مستعصٍ

"تركوني وهربوا"... عبارة تردّدها معظم العاملات المنسيات اللواتي وجدن أنفسهن بشوارع بيروت، حيث تفترش بعضهن الأرصفة أو الكورنيش البحري أو الساحات العامة.  

وفقًا لـ"المنظمة الدولية للهجرة" التابعة للأمم المتحدة "تشهد لبنان زيادة في  حالات تخلّي الأسر اللبنانية عن العاملات المنزليات الأجنبيات وتركهن وحيدات في مواجهة الخطر وسط النزاع الدائر".  

وسلّطت المنظمة الضوء على محنة نحو 170 ألف عاملة مهاجرة في لبنان، غالبيتهن من "إثيوبيا، وكينيا، وسريلانكا، والسودان، وبنغلاديش، والفلبين" يقول ماثيو لوتشيانو رئيس مكتب المنظمة في لبنان "نتلقى تقارير متزايدة عن عاملات منزليات مهاجرات تخلّى عنهن أصحاب عملهن اللبنانيون قبل فرارهم، وتُركن إما في الشوارع أو المنازل".  

وأضاف لوتشيانو خلال مؤتمر صحافي عبر الفيديو من بيروت "إن خياراتهنّ للمأوى محدودة للغاية". مشيرًا إلى أنه زار مركز إيواء في بيروت يضم 64 عائلة سودانية "لا تملك أيّ مكان آخر تذهب إليه". كما أوضح أن عدّة دول تسعى للحصول على دعم من الوكالة لإجلاء مواطنيها، إلا أن ذلك يتطلّب تمويلاً كبيرًا غير متاح في الوقت الحالي.  

المفارقة أنه حتى إن كان الترحيل متاحًا، فالأمر قد يستغرق شهورًا وفق ما تشير إليه فرح سلقا، وذلك بسبب الإجراءات البيروقراطية المعقّدة في نظام الكفالة وحاجة العاملات إلى تعاون جهاز الأمن العام اللبناني. كما أن الترحيل الجماعي لأعداد كبيرة من العاملات المهاجرات يتطلب تعاون السفارات المعنية، وكثير من هذه الدول لا تملك سفارات في لبنان بل قنصليات فخرية يرأسها قنصل لبناني.

نظام الكفالة... استعباد ممنهج للعاملات المهاجرات 

ما تعانيه العاملات الأجنبيات في ظل الحرب على لبنان يرتبط بشكل وثيق بنظام الكفالة.  

يعزز هذا النظام الممارسات العنصرية، إذ ينظر كثيرون إلى العمل المنزلي باعتباره ذو شأن متدن. وتستثنى العاملات الوافدات من قانون العمل اللبناني، ما يعني غياب تنظيم ساعات العمل أو تحديد المسؤوليات التي قد تكون أحيانًا أكبر من قدرات العاملة النفسية والجسدية.

وقد عرّف "المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان" نظام الكفالة على أنه "نظام قانوني يُحدّد علاقة صاحب العمل بالعامل الأجنبي، وفي ظلّ هذا النظام يصبح العامل خاضعًا لسلطة صاحب العمل من حيث مكان إقامته وتنقله الوظيفي وسفره". ولا زالت دول عربية عدة تعتمد هذا النظام بحلّته السلطوية منها دول الخليج والأردن والعراق ولبنان. 

ففي لبنان رغم عدم المصادقة على اتفاقية عام 1990 المتعلقة بحماية حقوق العمال المهاجرين وأفراد عائلاتهم، تمّ التصديق على عدد من اتفاقيات حقوق الإنسان ومعايير العمل الدولية التي تتضمن أحكامًا خاصةً بالعمال والعاملات المهاجرين\ات. ومن بين هذه الخطوات قامت الحكومة اللبنانية في عام 2002 بتوقيع بروتوكول (منع وقمع ومعاقبة الاتجار بالأشخاص وبخاصة النساء والأطفال) الذي يعد مكملًا لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية والمعروف بـ"بروتوكول باليرمو".

لكن المفارقة تكمن في أن واقع العاملات المنزليات لا يعكس تلك الالتزامات الدولية، إذ يشبّه نشطاء مرحلة الاتفاق بين مكتب استقدام العاملات و"الكفيل" بصفقة "اتجار بالبشر". فمنذ وصول العاملة إلى لبنان يحق للكفيل مصادرة جواز سفرها وأوراقها الثبوتية ويصبح المتحكم الأول والأخير في جميع تحركاتها؛ فلا يوجد تحديد واضح لساعات العمل ولا أيام إجازة ولا حرية تنقّل ولا حتى إمكانية التواصل الدوري مع عائلتها في مقابل أجر زهيد لا يتجاوز 150 دولارًا شهريًا.

هذا النظام يشكل عقبة أمام تحقيقات شفافة وعادلة بشأن القضايا العالقة بين أصحاب العمل والعاملات الأجنبيات طالما أن الأجهزة المشرفة على التحقيقات لا توفر ضمانات إضافية للعاملات مثل تأمين سكن بديل عن منزل "الكفيل" خلال فترة التحقيق أو منح الحق بتغيير الكفيل دون موافقته وحرية التنقل والتواصل مع العائلة، إضافة إلى حقهنّ في استشارة محامٍ أو ممثل عن دولتهن وعائلاتهن، فضلاً عن ضرورة حضور مترجم خلال إجراءات التحقيق.

وقد أدّى الاستغلال والانتهاكات في ظلّ نظام الكفالة إلى انتحار عاملات أو موتهن أثناء محاولتهن الفرار من أصحاب العمل. وخلص تحقيق أجرته "هيومن رايتس ووتش" في عام 2008 إلى وفاة عاملة كل أسبوع لأسباب غير طبيعية كان الانتحار ومحاولة الهروب الأكثر شيوعًا بينها. كما أن وسائل الإعلام تواصل الإبلاغ عن وفيات عاملات منازل في ظروف مماثلة حتى يومنا.

ووفقًا لـ"هيومن رايتس ووتش" فإنه على الرغم من نضال عاملات المنازل المهاجرات في لبنان والمنظمات الحقوقية لإلغاء نظام الكفالة فقد تقاعست السلطات اللبنانية عن الاستجابة لمطالبهنّ. أحد الأسباب الرئيسة هو أنه عمل مربح للعديد من المعنيين. إذ وجدت إحدى الدراسات أن نظام الكفالة يدرّ أكثر من 100 مليون دولارًا أميركيًا سنويًا، وتدرّ مكاتب استقدام العاملات التي اتُهم الكثير منها بتعريض العمال والعاملات لسوء المعاملة والعمل القسري والاتجار بالبشر إيرادات قدرها 57.5 مليون دولارًا أميركيًا سنويًا، وفقاً للدراسة نفسها.

الصحة الجنسية والإنجابية... رفاهية وترف!

تحمل شيما طفلتها في محاولة لعزل الهواء البارد عنها. شيما امرأة ثلاثينية من إثيوبيا قصدت لبنان منذ 10 سنوات وهي تعمل مع زوجها لدى عائلة في الجنوب، وهناك أنجبت طفلتها الأولى منذ سنة تقريبًا في ظروفٍ شاقّة. 

تروي شيما أنها عجزت عن العمل خلال الأشهر الخمسة الأولى من حملها وفي الأشهر الأخيرة أصبحت حركتها ثقيلة ما حال دون قدرتها على تلبية احتياجات الأسرة "الكفيلة"، فاستعاضوا عنها بعاملة أخرى بينما بقي زوجها في عمله. تروي شيما "كانوا معاشين (راتبين) ما يكفونا، صاروا معاش واحد وأنا حامل... كنا نحكي أنا وزوجي ونقرّر أي دوا مهم أكتر لنجيبه، واللي مش مهم ما جيبناه..." وتستكمل حديثها مشيرة إلى المعاناة التي عاشتها خلال فترة الحمل، وعجزها عن تأمين كلفة الصورة الشعاعية لمعرفة جنس الجنين، وتقول "إجت بنت وتفاجأت...".

أنجبت شيما طفلتها في مركز غير مؤهل -كما تصفه- بدون وجود طبيب أو مختص، إذ ساعدتها امرأة إثيوبية قالت إنها تمتلك خبرة في التوليد. 

منذ أنجبت شيما، أصبحت فكرة العمل عبئًا ثقيلًا عليها خاصة مع وجود الطفلة، لكنها رغم ذلك اضطرت إلى العمل. انتقلت إلى بيروت لتعيش مع زميلات لها في بيت مشترك بينما بقي زوجها في إحدى القرى. كانت شيما تعمل بشكل مستقل وتتقاضى 3 دولارات مقابل ساعة عمل، ثم هجّرتها الحرب مع طفلتها وزميلاتها ليصبحن بدون مأوى.

لم تتمكن شيما من الحصول على أية رعاية صحية قبل حملها وخلاله وبعده، ليزيد ذلك من معاناتها تصاعد وتيرة الحرب. اليوم، هي عاجزة عن الحصول على مستلزمات أساسية مثل "الفوط الصحية، وأدوية مسكنة لألم الدورة الشهرية، وأدوات التنظيف، وحتى المياه النظيفة" فضلاً عن غياب الخصوصية التامة.

أول سؤال قد يطرحه أي منا عند رؤية نازحات يفترشن الأرصفة هو: كيف تقضين حاجتكن؟ 

طرحنا هذا السؤال على مجموعة من العاملات المتواجدات على رصيف في وسط بيروت، فتراوحت الإجابات بين "في مبنى مهجور أو خلف سيارة مركونة أو في حمام عام" في أفضل الأحوال. وبالطبع لا مجال للنظافة الشخصية في تلك الاحتمالات. 

أما عن الدورة الشهرية ومستلزماتها، تقول شيما إنها تستخدم قطع القماش القديم كفوط صحية، وتقول صديقتها إنها تستخدم المناديل رغم تبعات ذلك الصحية عليهن. وهذه الممارسات ليست سوى جزء من سلسلة المآسي التي تعيشها العاملات الأجنبيات في "السجن الكبير" منذ بداية الأزمات المتعاقبة على لبنان وصولًا إلى الحرب.


ملاحظة: هذا النص جزء من سلسلة مواد تم إنتاجها بدعم من برنامج "نحن نقود"، وهو برنامج ممول من وزارة الخارجية الهولندية ومدته خمس سنوات .

ميريام سويدان

ميريام سويدان، صحافية لبنانية مهتمّة بقضايا حقوق الإنسان.

إضافة تعليق جديد

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.