تحذير: تتضمن هذه المادة العديد من القصص والمعلومات الحساسة والقاسية
من منزلنا الكائن في منطقة شرق النيل بالعاصمة السودانية الخرطوم، كنتُ أتابع مع أفراد أسرتي والجيران أخبار الحرب. عبر شاشات التلفزيون ومنصات الإعلام البديل أتتنا الأخبار متواترة ومتباينة، بينما استأثرت مواقع التواصل الاجتماعي بالخبر اليقين في لحظته، أو سابقًا له كما في مرات كثيرة. يُطلق الخبر في الحيّز العام لاختبار وقعه على الناس، ثمّ يُعاد ترتيب تفاصيله. نحن المفعول بهم و"علينا ليل" كما يُقال: أي ننام ملء جفوننا بينما تُحاك أشياء ضدنا. فقدنا ثقتنا بالأخبار وضلّلنا أنفسنا بأن ما يحدث مجرّد عراك بين طلاب السلطة. هذا دأبهم، فكيف نخاف الآن؟ اعتقدنا أن الساعات كفيلة بانقضاء الأمر. لكن بقيَ الوضع على حاله، وانتقلنا فقط من الصوت العالي إلى الصراخ الهستيري. جعلونا وقودًا لجهنم سلطتهم.
بعد مرور حوالي سنتين، لم نعرف هي حرب من ضدّ من؟ ومن المُستفيد؟ ما نعلمه هي الفظاعة التي عاناها السودانيون/ات لسنوات، لا سيما النساء؛ فمن يُقرّر الحرب هم الرجال ومن يدفع ثمنها النساء أضعافاً من نزوح وموت وحرقٍ للقرى وقتل واغتصاب وسلب الأراضي، وغيرها.
سبق وشهد الجميع على اغتصاب الرجال والنساء وسط الخرطوم. ليلة فضّ اعتصام القيادة العامة1 ، وفي ثورة ديسمبر/كانون الأول المجيدة2 قُتل الأستاذ أحمد الخير3 بعد إدخال مدية (سكين) في مؤخرته4 . من عادات السلطة عرض الأعضاء التناسلية وتحويلها إلى سلاح قاتل؛ لقتلٌ للروح قبل الجسد. لا تعرف السلطة كيف تحاور شعبها فتُخضعه عبر مؤخرته.
اغتصاب النساء.. الجحيم
لم يكفّ هاتفي عن الرنين: اهربوا من الجحيم قبل أن يطالكم. لم نستجب للنداءات فما زالت جميع الخدمات متوفرة من كهرباء وماء واتصالات وكذلك كانت الأسواق. أقمنا ليالي رمضان بالصلاة والدعاء بأن تتوقف المهاترات الخشنة، و هربنا من حقيقة تسميتها "حربًا" وتعاملنا على هذا الأساس.
تزايدت الاتصالات الداعية إلى مغادرة الخرطوم مع ظهور سلاح الاغتصاب5 ، وتركّز الطلب على الفرار بالفتيات؛ المحاربون مصابون بالهياج الجنسي فكان لا بدّ لنا من الاستجابة. خرجنا ودموعنا مُتحجرة في عيوننا، لم نودّع الأقرباء ولم نطلب العفو من بعيد..
خرجنا ولا نعرف إن كنّا سنعود إلى الديار أم لا. كنتُ قد قرأتُ قصة الأب الذي يقطن في منطقة مجاورة؛ عائلة ثرية اضطرت لترك مالها وممتلكاتها وهربت بأبنائها وبناتها مشيًا على الأقدام. اغتُصبت جارتهم الخمسينية أمام أعين الأب ولم يستطع حمايتها، خرج مستغنيًا عن كل شيء إلاّ الأوراق الثبوتية والشهادات الجامعية وسلامة أجساد وأنفس أبنائه وبناته.
نزحنا إلى مكان آمن، لكن لاحقتنا أخبار الموت والدمار.
قابلتُ إحدى الفتيات المُغتصبات في السوق، بدت تائهة، ذائبة العينين وهاربة من شيء ما. عندما وقع جدلٌ أمامها حول حقيقة حدوث عمليات اغتصابات في الحرب، رفعت عينيها وقالت: "أنا منهنّ، أنا من المُغتصَبات". قالت كلمتها واختفت بعيدًا ليظلّ صدى صوتها يتردّد مؤكّدًا ما حدث6
.
في أطراف المدينة أقامت أسرة من أقاربنا ولجأ آخرون إليهم ظنًّا بأن الخطر بعيد ويقتصر على العاصمة. مضى وقت قصير قبل أن تُطرق أبوابهم أو تُخلع ويأمرهم المقاتلون بالخروج وترك الغنائم من "أموال وشابات"، واصطحاب المتقدّمات في السنّ معهم. خارت قوى الأم وتمسّكت بابنتها فتركوها، إلا أنها أُصيبت لاحقاً بجلطة في الدم وابنتها تمّلكها الذعر.
قبل الحرب ظهر شبح الاغتصاب، وهو ما دفع فتيات بمراسلة رجال دين لسؤالهم عن جواز الانتحار لمن تتأكّد من احتمالية اغتصابها. اختلفت الردود والتشريعات، ولكن جاء الإجماع على أن الهرب أجدى في هذه الحالة. إجابة في حدّ ذاتها هروب إلى الأمام. كما أجاز رجال الدين إجهاض المُغتصَبة؛ وبالتالي أقيمت عمليات إجهاض للكثيرات بشكل عشوائي وهو ما أدى لوفاتهن. وإن كانت بعض العمليات قد تم إجراءها في مصحات رسمية مثل عملية الإجهاض التي أقيمت في مستشفى أبو حمد، لأمّ وبناتها بعد اغتصابهنّ7 .
طالَ أمد الحرب واستولى المقاتلون على أحياء ومدن بأكملها. أقاموا سجونًا للفتيات المُغتصَبات اللواتي ظهرت عليهنّ آثار الحمل، وعيّنوا معاونات صحيّات لمتابعة حالاتهنّ، وبعد الانجاب تُقتل الأمّ ويُعطي المقاتلون الطفل لنسائهم؛ فهم بحاجة إليهم لتقوية جيشهم الذي يعتقدون بأبديّته.
تتردّى أوضاع النساء في حرب السودان، لدرجة أن تكرّرت أنباء عن إقامة سوق لبيع المُختَطفات في منطقة غير معلومة بدارفور، وكذلك عن معسكرات للمحتجزات لتقديم الخدمات للمقاتلين - الجنسية منها بلا شك8
- كما انتشرت ظاهرة الزواج القسري9
في مناطق السيطرة المزعومة ظنًّا من الأهل بأن الزواج أخفّ وطأة من الاغتصاب، لكن سرعان ما يتطور الأمر عندما تكتشف الفتيات وذويهنّ بأنّ المهر مشتركٌ بين صديقين للتمتّع سويًّا بالعروس. هذه المعلومات المُتداولة على مجموعات الرصد هي الأقرب إلى الحقيقة، لكنها تُشعرني أني في كابوس آمل أن أصحو منه قريبًا.
أوضح رصد أوليّ لحملة "معًا ضدّ الاغتصاب والعنف الجنسي" أنه فُقد أثر نحو نصف مليون امرأة خلال 18 شهرًا من المعارك، كما وقعت 47 عملية اغتصاب في آخر المدن التي تمّ اجتياحها، إلى جانب ظهور إصابات بفيروس نقص المناعة البشرية بين الفتيات الناجيات من العنف الجنسي، مما يُرجّح إصابتهنّ بعددٍ آخر من الفيروسات والعدوى المنقولة جنسيًّا. هذه الأرقام أوليّة وستزداد مع امتداد أمد الحرب.
كيف نحمي الناجين/ات؟
يرى البعض أن الحرب القائمة اليوم هي من أجل الوصول إلى السلطة، و يُعارض كثيرون هذه النظريّة بحجة أن المتحاربين كانوا في أعلى هرم السلطة عندما أشهروا أسلحتهم بوجه الشعب السوداني. ومن متابعة البعض اللصيقة لما يجري على الأرض، فقد نشبت هذه الحرب لإبادة العنصر البشري في هذه المنطقة، وهذا ما يُفسر عبر أمرين: أوّلاً أن الحرب نشبت وتدور في المدن على الرغم من اتّساع المساحات التي يُمكن أن تُدار فيها المعارك. ثانيًا أنها استهدفت النساء عبر الاغتصاب وليس القتل، ما يؤدي لقتل مجتمع كامل وليس سيدة واحدة. ومن جانبهم يعتبر كثيرون أن مؤامرةً تدور بالخفاء، وتهدف إلى تغيير الخارطة الديموغرافية في السودان، خاصة أن هؤلاء النساء كنّ الوحيدات حول العالم اللواتي قُدنَ جيوشًا على مرّ الأزمان، فكان القرار بكسر شوكتهنّ وتلويث أرحامهنّ وخلط أنسابهنّ. ومن أجل السيطرة الكاملة على الأرض لا بُد من إبعاد أصحابها عنها.
على مرّ التاريخ قاومت النساء في السودان الاغتصاب. في حروب سابقة هرّبت الأسر بناتهنّ إلى خارج المدن الكبيرة، كما اتّبعنَ سياسة تنفير المُغتصِب عبر وضع الروث (فضلات الحيوانات) على جلود البنات، وإزالة شعر الرأس والحواجب أملاً بأن يصرنَ مخيفات غير مرغوبات بعيون المغتصبين. وعندما اشتدّت بهنّ النوائب فضّلنَ الموت غرقًا في النيل كما حدث أيام حملة الدفتردار الانتقامية10 . يفعلنها اليوم ثانيةً في ولاية الجزيرة حيث رصدت الأخبار انتحار 6 من بين 25 سيدة اغتُصبنَ بشكل متكرّر من عدّة أشخاص. في كثيرٍ من الحالات تفدي الأم بناتها وأفراد عائلتها عسى أن تحميهن من الآلام النفسية والمجتمعية والجسدية.
تحاول المنظمات رصد الانتهاكات وتوثيقها قدر الإمكان، بدءًا من تحديد هويات الجناة وانتماءاتهم وصولاً إلى محاولات لفت نظر المجتمع الدولي لبشاعة ما يجري للنساء. كما كان العمل جاريًا على إزالة الوصمة المجتمعيّة عن الناجيات، لكن الرقعة اتّسعت إلى مجتمع كامل من المُغتصَبين/ات من رجال ونساء، وهذا يُحتمّ على المجتمع اقتراح وسائل جديدة لاحتواء بناته ونسائه الناجيات وكذلك الأبناء والرجال إذا نجوا.
تكاد تنعدم الرعاية الصحية للناجين والناجيات من العنف الجنسي المُمنهج من قبل مدراء الحرب، ويأتي موضوع الاغتصاب على هامش الأعمال العسكرية الأخرى. يُصبح الوضع كارثيًّا يومًا بعد يوم، ما يُعقّد عملية إيجاد حلول والعمل عليها في حال وقف إطلاق النار. فما هي الخطة التي ستؤدي إلى إيجاد نصف مليون امرأة مفقودة؟ وما هي الإجراءات الطارئة التي ستنقذ المُغتصَبات من جحيمهنّ؟ كيف سنُخبر الكثير من الأطفال بأن آباءهم قتلة ومجرمين؟…
المطلوب اليوم وبشكل طارئ: تقديم الجهات المعنيّة الدعم للناجين/ات، وتوفير الرعاية النفسية والاجتماعية وتقديم الخدمات الطبية والاستشارات. كما يجب توثيق الجرائم ومحاسبة المجرمين، وتشجيع الناجين والناجيات على تقديم الشهادات والإفصاح عن الجرائم، وذلك بالعمل مع المنظمات الدولية والمجتمع الدولي لتبادل المعلومات وتعزيز الجهود المشتركة. كما يجب أن يتمّ التركيز على حماية الضحايا وتحقيق العدالة والسلام في السودان.
- 1في الثالث من يونيو/حزيران 2019، اقتحمت قوات نظامية مسلحة مقرّ اعتصام القيادة العامة وارتكبوا مجزرة بالمتظاهرين/ات المطالبين بحكومة مدنية.
- 2في 19 ديسمبر/كانون الأول 2018، اندلعت سلسلة من الاحتجاجات في المدن السودانية احتجاجًا على غلاء المعيشة وتفشي الفساد واستمرار الحرب في الأقاليم.
- 3شارك أحمد الخير في الاحتجاجات الشعبية لثورة ديسمبر/كانون الأول، فاعتقلته قوات الأمن ومارست عليه تعذيبًا شديدًا تُوفي على إثره. حاولت السلطات التستّر على أسباب موته عبر القول بأنه مات مسمومًا، لكن عائلة الخير تقدّمت ببلاغ رسمي ضدّ 41 شخصًا من الجهاز الأمني وتمّت محاكمتهم. قتل الخير أجّج الاحتجاجات الشعبية وزاد من غضب الشارع.
- 4لمزيد من التفاصيل قراءة اعترافات المتهمين في قضية أحمد الخير.
https://shorturl.at/jyZrL - 5 تقرير بعثة الأمم المتحدة الدولية المستقلة حول العنف الجنسي وانتهاكات حقوق الإنسان في السودان.
- 6تقرير منظمة "هيومن رايتس ووتش" بعنوان "الخرطوم لم تعد آمنة للنساء: العنف الجنسي ضدّ النساء والفتيات في عاصمة السودان"، جمع شهادات لعاملين/ات في مجال الرعاية الصحية، موثّقًا 262 حالة عنف جنسي في العاصمة السودانية منذ بداية الحرب في في أبريل/نيسان 2023 حتى فبراير/شباط 2024.
- 7نقل تقرير منظمة أطباء بلا حدود شهادات 135 سيدة نزحنَ إلى شرقي تشاد لطلب الرعاية الصحية بعد تعرّضهن لاعتداءات جنسية، في المرحلة الممتدّة بين يوليو/تموز إلى كانون الأول/ديسمبر 2023. تراوحت أعمارهنّ بين 14 و40 عامًا، وفي 90 في المئة من الحالات تعرّضن للاعتداء تحت تهديد السلاح.
https://www.doctorswithoutborders.org/latest/hidden-wounds-sexual-viole… - 8تقرير المركز الإفريقى للعدالة ودراسات السلام عن الاستعباد الجنسي في "خور جهنم" في السودان.
https://shorturl.at/LkK7l
للمزيد: قراءة تحقيق صحيفة "العربي الجديد" عن الاستعباد الجنسي بعد خطف الفتيات من عدة مناطق في السودان.
https://shorturl.at/cyyxh
- 9أفادت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بمواجهة الفتيات في السودان لمخاطر زواج الأطفال لأن العائلات تجد نفسها مُجبرة اعتقادًا منها "بحماية" الفتيات من العنف الجنسي.
https://news.un.org/ar/story/2023/06/1121132 - 10حملة محمد علي باشا على السودان لضمّها إلى مناطق نفوذه في عام 1820.
إضافة تعليق جديد