التقيتُ عام 2015 في إسطنبول بنسوية أفغانية بارزة، سألتها عن الأوضاع في كابول، فقالت لي بنبرة استنكارية: الحمد لله، كابول لم تصبح كدمشق، وتمنّت تحسّن الأوضاع في سوريا. لم أتوقّع ردًّا كهذا، ووجدت نفسي في حالة من الذهول.
عبارة "صرنا أفغانستان" التي تُستخدم مرارًا في سوريا، تعيد إلى ذهني تلك الجملة البسيطة التي سمعتها في إسطنبول، كأنني أمام مرآة كاشفة ومربكة.
في عملي مع نساء مُلهمات من أنحاء مختلفة من العالم، كثيرًا ما أجدني في حضرة النساء الأفغانيات، من خلال شبكة من القياديات الساعيات إلى استعادة مكتسبات حقوق النساء، وبناء نظام حوكمة شامل.
ليست هذه محاولة لعقد مقارنة معاصرة بين سوريا وأفغانستان، بل هي عرض للتجربة الأفغانية يترك للقارئ/ة تأمّلها، وربّما استخلاص ما يشاء/تشاء من عبر.
لقائي بزميلاتي الأفغانيات على هامش ورشة عمل في قبرص في أيار/مايو 2025، كان مناسبة لأفتح الباب على سؤال يؤرّق كثيرات: ما الذي يمكن أن نتعلّمه من تاريخ حقوق النساء في أفغانستان ومن حركتها النسوية، اليوم في سوريا؟
لفهم السياق من المفيد النظر إلى تاريخ حقوق النساء في أفغانستان وسوريا والمقارنة بينهما، فقد حصلت النساء على حق التصويت في أفغانستان عام 1919، فيما نالته السوريات عام 1953. وفتحت أول مدرسة للبنات أبوابها في أفغانستان عام 1920، كما رُفع سن الزواج في سبعينيات القرن الماضي من 18 إلى 21 عامًا، وأُلغيت تعددية الزوجات.
غير أن النساء في أفغانستان اليوم فقدن حقّهن في التعليم، باستثناء التعليم الأساسي الذي تقدّمه المدارس الدينية المتشددة، كما فقدن حقّهن في العمل الرسمي، وانسحبن من المشهد السياسي في سياق تتداخل فيه أزمات من نوع آخر مثل: مكافحة المخدرات، والتطرّف العنيف، والهجرة القسرية، وضعف قطاع الأعمال وسبل العيش البديلة، وتعثّر الوصول إلى الخدمات الصحية الأساسية، وغياب حقوق الأقليات وحقوق النساء والفتيات، إلى جانب ضعف بل وأحيانًا انعدام المشاركة السياسية.
فما الذي مكّن طالبان اليوم من القيام بحركة رجعية، نسفت كلّ تاريخ الحراك النسوي والتقدّم الذي حققته النساء في أفغانستان؟
من الجمهورية إلى الإمارة
بعد الاستقلال عن الانتداب البريطاني، انتقلت البلاد إلى الحكم الملكي الذي انتهى بانقلاب عسكري عام 1978 نفّذه حزب "الشعب الشيوعي الديمقراطي الأفغاني". لكن جمهورية أفغانستان الديمقراطية (1980–1987) المدعومة من الاتحاد السوفيتي، والتي قامت بإصلاحات للأراضي ومحاولات لتحديث الدولة بما يتماشى مع الإيديولوجيا السوفيتية، واجهت معارضة من قادة القبائل والمجموعات الدينية.
تدخّل الاتحاد السوفيتي لصالح الحكومة الشيوعية زجّ البلاد في عقد من الحرب لم ينتهِ بانسحاب القوات السوفيتية، بل تحوّل إلى حرب أهلية بين فصائل المجاهدين أدّت إلى تقويض السلطة المركزية كليًا.
أدّت حالة الفوضى هذه إلى بروز حركة طالبان وسط زعماء الحرب، باعتبارها قوّة قادرة على ضبط البلاد أمنيًا. وبالفعل أسّست الحركة "الإمارة الأولى" عام 1996، فارضةً تفسيرًا متشدّدًا للشريعة يقصي حقوق النساء والأقليات العرقية والدينية.
استمرّت الإمارة الأولى حتى غزو قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة لأفغانستان، للإطاحة بحكم طالبان عقب هجمات 11 أيلول/سبتمبر.
وفشلت الجمهورية الإسلامية الثانية التي تأسّست عقب غزو التحالف لأفغانستان، رغم إنفاق الولايات المتحدة ما يقارب 2.3 تريليون دولار أمريكي عليها. جاءت هذه الجمهورية كأنها انقلاب جديد، لم يُشرك الشعب في صياغة تصور الدولة، وتُركت البلاد تحت سيطرة أمراء الحرب والمخدرات والدين، الذين رسّخوا نظمًا موازية للدولة سيطرت على الموارد والحريات العامة.
الاختزال السياسي والاستعلاء الدولى
أُقصيت حركة طالبان بالكامل من محادثات بون، ولم تفرّق الأطراف الدولية حينها بين مقاتلي القاعدة منفّذي هجمات 11 أيلول، وبين طالبان الأفغانية. دفعها ذلك إلى مزيد من التقارب مع تنظيم القاعدة الذي وفّر لها دعمًا عسكريًا في مواجهة التحالف.
وفي 2020 استُبعدت حكومة جمهورية أفغانستان الإسلامية من محادثات الدوحة التي عقدتها إدارة ترامب، والتي انتهت باتفاق أتاح انسحاب القوات الأمريكية، ما أدى إلى انهيار الجيش الأفغاني أمام هجوم طالبان العسكري عقب الاتفاق.
في المرتين كانت الأطراف الدولية هي صاحبة القرار في من يحق له الجلوس إلى طاولة التفاوض ومن يُستبعد، دون اعتبار لتمثيل الشعب أو لشرعية الحكومة المنتخبة.
الخلاصة هنا بحسب قياديات أفغانيات، أن لا عبور من الاقتتال إلى الاستقرار من دون حوار وطني، لا يقصي ولا يغيّب أي مكون.
من جهة ثانية يحصر دستور أفغانستان لعام 2004 السلطات بيد الرئاسة، مما حدّ من أي شكل فعلي للديمقراطية التمثيلية، وعمّق شعور الإقصاء لدى شرائح واسعة من الأفغان. وكانت المناطق الريفية والمدن البعيدة عن كابول تعاني من التهميش المستمر، مما قوض الثقة بالحكومة وشرعيتها.
اتّسم ذلك النموذج من الحَوكمة بآليات ديمقراطية نخَرها الفساد، إذ سُجّلت قرابة 13 ألف شكوى تتعلّق بتجاوزات انتخابية خلال الانتخابات البرلمانية لعام 2018، فيما شابت عمليات الاقتراع حالات من التزوير والتلاعب والعنف.
في ظل استمرار هيمنة أمراء الحرب على الولايات البعيدة عن العاصمة، ظلّت السياسات المركزية عاجزة عن فرض سلطتها على المناطق الريفية والأطراف، في ظلّ التنوّع القبلي والإثني والديني الكبير في البلاد. الدولة التي تمركزت في كابول وحصرت السلطات في يد الرئاسة، أنشأت حكمًا هشًّا يسهل تحدّيه من قبل القوى المقصاة، ومن كل من ظلّ خارج مركز السلطة.
حقوق النساء للتلميع السياسي الخارجي
عُين حميد كرزاي رئيسًا لأفغانستان من قبل الولايات المتحدة وقوات التحالف، والذي كان يُعرف بكونه سياسيًا محافظًا.
نصّ دستور عام 2004 على مساواة النساء في الحقوق، وأقرّ حصة (كوتا) لا تقل عن 25 بالمئة من المقاعد البرلمانية والبلدية، و30 بالمئة من المناصب الحكومية للنساء، كما أكّد التزام البلاد بالمعاهدات الدولية المعنية بحقوق النساء مثل: اتفاقية سيداو وأجندة النساء والسلام والأمن. خلال تلك الفترة تم اعتماد قانون إنهاء العنف ضد النساء، ووُضعت خطة وطنية لتطبيق قرار مجلس الأمن رقم 1325 (وهو إطار دولي يُلزم الدول بتمكين النساء من المشاركة في صنع القرار وعمليات السلام وحمايتهنّ أثناء النزاعات، وكذلك دمج منظور النوع الاجتماعي في جميع سياسات الأمن والسلم). وكل ما سبق مكاسب تفوق بكثير ما وصلت إليه النساء في سوريا حاليًا.
لكن معظم هذه السياسات بقيت على الورق؛ مشاريع "تمكين النساء" صُمّمت رأسيًا (Top-down projects)، من مراكز صنع القرار بشكل منفصل عن التجربة المعاشة ومتطلبات الواقع واحتياجاته، في نظام يعتمد على توازنات هشّة بين السلطة المركزية وأمراء الحرب وتجار المخدرات والقيادات الدينية. في الواقع كانت هذه القوى هي صاحبة التأثير الحقيقي خصوصًا خارج كابول. هكذا تحوّلت "المكتسبات" إلى واجهة دعائية للخارج سرعان ما انهارت عند أول اختبار.
عام 2009 أقرّ البرلمان الأفغاني قانون الأحوال الشخصية الخاص بالطائفة الشيعية. نصّ أحد بنوده أن الزوج يمكنه الامتناع عن الإنفاق على زوجته إذا رفضت تلبية واجباتها "الشرعية" في العلاقة الزوجية بما في ذلك المعاشرة الجنسية. أثار هذا القانون موجة احتجاجات واسعة من مجموعات نسوية وحقوقية، والتي اعتبرت أن النص يُشرعن تجويع النساء كوسيلة لإجبارهن على الطاعة، فيما قوبلت التظاهرات بالعنف من رجال الدين، بينما اتخذ كرزاي موقفًا متساهلًا مع التيارات المتشددة، في محاولة لضمان دعمها في الانتخابات.
في منعطف آخر اقترحت الحكومة تخصيص نسبة 10 بالمئة فقط للنساء في المجلس الوطني الاستشاري (جيرغا) المعين بإقرار المجلس الأعلى للسلام، والمكلّف بالتفاوض مع طالبان للتوصّل إلى تسوية سياسية.
تحت ضغوط من وزيرة الخارجية الأمركية هيلاري كلينتون، رفع كرزاي نسبة التمثيل إلى 28 بالمئة، بدعوى أن النساء يشكّلن كتلة محايدة لم تنخرط في الحرب بشكل مباشر.
مع ذلك اقتصر التمثيل في مجلس السلام الأعلى على 4 نساء من أحزاب سياسية مقابل 64 رجلًا، وجاءت استجابة الحكومة للضغوط الدولية مخيبة للآمال، إذ أُضيفت امرأة واحدة فقط من المجتمع المدني.
لكن المشكلة لم تتوقف عند الأعداد، إذ إن النساء الخمس لم يُمنحن فرصة فعلية للمشاركة في المحادثات، وبقي وجودهنّ شكليًا امتدادًا لدور رمزي لطالما فُرض على النساء في الحياة السياسية في البلاد.
تطوّرت سردية معادية لحقوق النساء والناشاطات النسويات، أطلقت عليهن وصف "نساء السفارات"، والتي كان مصدرها أصوات متشددة تسيطر على الموارد والسلطة.
استمر هذا الخطاب حتى تولي أشرف غاني الرئاسة عام 2014، مستقطبًا الناخبات والناخبين من فئة النساء والشباب. أجرى غاني إصلاحات عدة رفع من خلالها نسبة تمثيل النساء في المجلس الأعلى للسلام، كما وفّر الإنترنت والهواتف الذكية بأسعار منخفضة، ما مكّن النساء والفتيات من الاتصال بالعالم، ونتج عنه ارتفاع نسبة التحاق الفتيات بالتعليم بشكل ملحوظ،. كما أنشأ غرفة تجارة خاصة بالنساء، وعيّن نائبات للوزراء في جميع الوزارات.
لكن هذه الإصلاحات تزامنت مع وجود نظام موازٍ، قوامه المدارس الدينية المتشددة وخطب الجمعة المناهضة للديمقراطية، والمشيطِنة لحقوق النساء، وسيطرت على هذا النظام قوى متشددة خارج العاصمة.
في هذا السياق، لم تتمكن النساء من التنظيم في مواجهة البنى السائدة، إذ لم تكن الشبكات أو الموارد متاحة، كما أن القيادات النسوية في الريف والمدن لم تكن متصلة ببعضها البعض بشكل ممنهج.
التفريط بالديمقراطية لصالح الاستقرار الأمني
شهدت أفغانستان عدة فرص للتأسيس الديمقراطي، كان آخرها مع حكومة غاني. لكن المجتمع الدولي والولايات المتحدة بشكل خاص، ركّز على توطيد الاستقرار الأمني أكثر من بناء نظام ديمقراطي فعلي.
في سياق دعمها للملف الأمني، تجاهلت الولايات المتحدة الواقع المحلي، وأصرّت على تزويد الجيش وقوى الأمن بأسلحة أميركية معقّدة، ومرتفعة الكلفة وصعبة الصيانة، رغم أن القوات الأفغانية كانت مدرّبة على استخدام الأسلحة الروسية.
جيش مركزي مفكك وضعيف الصلة بالقوى الأمنية المحلية، وسط فساد مستشرٍ، وثقة مهزوزة بالحكومة المركزية؛ هذه مكونات الوصفة التي مهدت لانهياره أمام هجوم طالبان، وسقوط كابل في آب/أغسطس 2021.
التركيز الأمني طغى على كل ما عداه، حيث انشغل الحلفاء الدوليون بإعادة هيكلة الجيش، وغابت عنهم مساءلة الحكومة حول التزاماتها فيما يتعلّق بحقوق النساء، بما في ذلك المعاهدات الدولية والخطة الوطنية الخاصة بالقرار 1325. ومع غياب الضغط الدولي، تراجعت الأداة الوحيدة تقريبًا التي امتلكها الحراك النسوي لمساءلة حكومته.
عودة الحراك النسوي
مع سقوط كابل، كان نظام الحوكمة الموازي، الذي تقوده التيارات المتشددة، جاهزًا للتفعيل. شكّلت طالبان حكومة انتقالية من رجال الدين، ضمّت في صفوفها شخصيات مدرجة على قوائم العقوبات الدولية. أُلغيت وزارة شؤون المرأة، واستُبدلت بوزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذلك حُرمت الفتيات من الذهاب إلى المدارس، وأُغلقت منظمات المجتمع المدني النسائية والنسوية، إلى جانب العديد من المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي تديرها نساء.
فرضت الحكومة وجود محرم على حركة النساء، حتى في الزيارات الطبية. وفي ظلّ هذا الواقع، أقدمت دول عدّة على إجلاء ناشطات الصف الأول إلى منافيهنّ القسرية الإجبارية.
رغم ذلك، برز حراك نسوي شاب، تقوده شابات أفغانيات يطالبن بحقوقهن في الغذاء والعمل والحرية. خرجت تظاهرات جابت الشوارع، وجُوبهت بالقمع والاعتقال والاختطاف.
ترى الناشطات الأفغانيات أن الصراع مع سلطة طالبان صراع وجودي، لهذا نظّمن مظاهرات عامة، كان أشهرها تحت شعار "الخبز، العمل، الحرية". وفي ظلّ القمع، تحوّلت البيوت إلى فضاء مقاومة: يجتمعن فيها داخل حلقات ثقة، ويُدرن مدارس بديلة للأطفال، رفضًا للمناهج المؤدلجة.
ومع انحسار الفضاء العام، باتت المقاومة النسوية أكثر حضورًا في العالم الرقمي، إذ. نشطت النساء على منصات التواصل الاجتماعي للمناصرة، وللترويج لاقتصاد منزلي مستقل. وبالتوازي مع ذلك رفعن صوتهن على المستوى الدولي، للمطالبة بالاعتراف بالفصل الجندري الذي تعانيه النساء في أفغانستان.
عقدت النساء الأفغانيات قمة نسائية في ألبانيا، ويواصلن اليوم تنظيم أنفسهن في شبكات قيادية حول العالم، تضم ناشطات في الداخل والمنفى. للعمل على تقديم الدعم المُتبادل والضغط السياسي في محافل مثل: حوار الدوحة، ومجلس حقوق الإنسان، واجتماعات المسؤولين والمسؤولات رفيعي المستوى.
توصيات الأفغانيات للسوريات
في طريقنا إلى مطار لارنكا-قبرص، سألت الناشطات الأفغانيات: ما توصياتكن لنا في سوريا؟
بحماس شديد، أخذن لحظة للتفكير، ثم قلن:
- احذرن التماهي مع السلطة.
- احذرن صمت الحلفاء المدنيين والديمقراطيين ممن يغضّون الطرف عن الانتهاكات ضدّ النساء، حفاظًا على مناصب، أو طمعًا في فُتاتها.
- لا تسمحن للمجتمع الدولي بتقسيم الحراك النسوي بين "داخل" و"خارج"، لا تسمحن له بمحوكن.
- لا تفرّطن بالرقابة المجتمعية، وسائلن ممثليكن وممثلاتكن.
- المجتمعات المحلية هي جوهر التغيير؛ ادعمن النساء القائدات المحليّات وحلولهن الإبداعية.
- لا تسمحن لأحد بالمساواة بين الدولة والدين، ولا بتمزيق صفوفكن على هذه الأسس.
- ابنين شراكات خارج دوائر النساء والنسويات، فقضايا النساء هي قضايا وطنية، لا تخص النساء وحدهن.
- تحدثن عن النساء في كل القضايا؛ لا توجد قضية لا تعني النساء.
- ابنين شبكات أمان وتحالفات نسوية عابرة للحدود؛ نساء الشتات ونساء الداخل صوت واحد لا يُقسَم.
وصلنا إلى المطار.
فتحت هاتفي، وقرأت من سوريا:
تصفية مدنيين، بينهم نساء وأطفال، على يد فصائل اشتكى منها الناس مرارًا دون محاسبة.
بيان "وحدة وطنية" موقّع من خمسة مشايخ سنّة بارزين في اللاذقية.
وصورة للمى حاج قدور، بلباسها الميداني، تفجّر مخلفات الحرب، لتؤمّن الأرض لسوريين وسوريات مثلها.
ما زالت البلاد على مفترق طرق دقيق.
ولدينا الكثير لنتعلّمه، بتواضع، من تجارب القوى النسوية والديمقراطية في أفغانستان وغيرها.
إضافة تعليق جديد