بين ما يُتذكّر وما يُنسى، يتكشّف الأرشيف الكولونيالي بوصفه تكتيكًا سياسيًّا يستهدف الذاكرة عبر تحديد السردية ومَن يملكها. فالوثيقة التاريخية لا تنقل الوقائع وحسب بل تُملي مَن يُرى ومَن يُحجَب وكيف تُصاغ القواميس الأمنية التي تُعرّف المسموح وتُجرّم سواه. وعلى هذا النحو، تنفسّت تواريخ الأشخاص الكوير في المغرب، من فراغاتٍ مُراقَبة يُرى فيها الغريب ويُحاكم فيها المحلي.
لم يقتصر الاستعمار على رسم الحدود واستغلال الموارد وإنشاء البنى التحتية فحسب، بل أعاد تشكيل إيكولوجيا كاملة للحياة شملت أداءات الجندر وتنظيم الرغبة وتَخَيّلها. في فيلم جوزيف فون ستيرنبرغ (Josef von Sternberg) "مغرب"، الذي صدر عام 1930، تَظهر الممثلة مارلين ديتريش (Marlene Dietrich) ببدلة وقبّعة وتنحني من مسرح الكاباريه لتُقبّل امرأةً في الجمهور بينما كانت تؤدّي أغنية "عندما يموت الحب" (Quand l’amour meurt). وعلى الرغم من كونها لحظة كويرية مُبكرة في تاريخ هوليوود إلا أنها أُدّيت فوق مسرح "مغربي" تم تخيّله بين كاليفورنيا وأريزونا حيث تحوّلت الواحات والأزياء والنساء والأذان والصلاة إلى خلفية كاريكاتورية للحياة المحلية أسقطت عليها الجماهير الغربية فانتازماتها الاستشراقية.
وفيما أكّدت البطلة البيضاء ذاتيّتها الجندرية والرغباتية، كانت الكاميرا تُسخّر نساءً محليات من خيال المؤلّف، أجساد مُستثمَرة في خدمة الجنود الفرنسيين. لم يكن الأمر استثناءً، ذلك أن ملفّات الشرطة والتقارير القنصلية والإثنوغرافية والرحلات وأفلام مثل "مغرب" جميعها حيكت منها لغةٌ يرى بها الغرب الأجساد المحلية موضوعًا للرغبة والضبط. وهذا ما يُعرف بـ"الاستثناء المغربي"، حيث المُتاح للزوّار البيض محظورٌ على السكان المحليين.
من عقلنة نهب الموارد إلى مراقبة الخصوصية
أعاد المشروع الاستعماري الفرنسي تشكيل البنية الحيوية للمغرب ليصبح اقتصادًا استخراجويًا يستنزف ما على الأرض وما في باطنها لتلبية احتياجات الأسواق الأوروبية. نُقل الفوسفات من خريبكة واليوسفية، والفحم من جرادة، والفضة والمعادن الأخرى من شرق المغرب نحو أوروبا. تطلّب ذلك إنشاء شبكة طرق وسكك حديدية لربط مناطق الموارد بالموانئ، وكانت الدار البيضاء القلب اللوجستي النابض لهذا الاقتصاد. إضافة إلى ذلك، صاغت الإدارة الفرنسية المنظومة العقارية فحوّلت الملكيات الجماعية إلى أراضٍ قابلة للاستغلال من قبل المستثمرين الأوروبيين، كما استحوذت السلطات الاستعمارية على موارد المياه ووجّهتها لخدمة أنشطة التوسّع الزراعي المُوجَّه للتصدير.
هكذا تحوّل المغرب إلى مشروع توطيد بنية اقتصادية تخدم رأس المال الفرنسي وتؤمِّن استمراريته. فقد غدا أرضًا خصبةً لتكتّلات اقتصادية احتكارية لا تزال قائمة حتى اليوم، مثل مجموعة ONA التي أسّسها المستثمر الفرنسي جان إبينا (Jean Epinat) سنة 1934، وهو أحد أبرز مهندسي الاقتصاد الكولونيالي في المغرب. جمعت هذه المجموعة بين قطاعَي النقل والسياحة والمعادن وترجمت التوجّه الاقتصادي والسياسي الاستعماري الذي سخّر الموارد المحلية لخدمته.
رافَق الاقتصادَ الاستخراجوي المادي نهجٌ استخراجويٌ موازٍ للذاتية تمثّل في إعادة تشكيل العوالم الاجتماعية المحلية داخل قوالب إدارية يسهل التحكّم بها. فقد أدركت السلطات الاستعمارية آنذاك أن السيطرة على المجتمع لا تمرّ فقط عبر الأرض والموارد إنما عبر الجسد والعلاقات الحميمية أيضًا باعتبارهما مدخلًا لإعادة تشكيل المجتمع من الداخل. فمثلًا، سمحتْ إعادة تعريف موقع النساء1 وأدوارهنّ داخل البنية الاجتماعية بإحداث التحوّلات اللازمة في منظومة القيم والعلاقات والعادات الثقافية بما يخدم المشروع الاستعماري. وهذا ما وصفه فرانتز فانون (Frantz Fanon) في تحليله لمنطق الاستعمار الفرنسي في الجزائر قائلا:
إن السلطات الفرنسية اعتمدت إستراتيجية تقوم على غزو النساء أوّلًا لتفكيك بنية المجتمع بأسره وقدرته على المقاومة.
ضمن عملية إعادة تشكيل المنظومة القيميّة، تَرسَّخت مفاهيم مثل "الأهلية" ضمن تصنيفاتٍ قانونيةٍ وإثنوغرافيةٍ تبرّر الهيمنة على الأفراد عن طريق تقسيمهمن إلى فئاتٍ متفاوتةٍ في الحقوق والمكانة، كما أُعيد تنظيم القضاء الشرعي المتعلّق بقضايا الأحوال الشخصية داخل بنية بيروقراطية خاضعة للرقابة، وهي البنيةُ ذاتها التي وضعت الأسسَ القانونية والإدارية لـ"مدوَّنة الأسرة" في المغرب سنة 1957، وتحوّلت الرعاية الصحية إلى وسيلة للمراقبة والضبط، وأُرسيت تمييزات جندرية تُضفي الشرعية على بعض الروابط الحميمية وتُخضع غيرَها للتجريم.
الاستثناء المغربي: لمَن الملاذ؟
لم يكن الاستعمار مشروعًا للتحديث أو التنظيم بل ماكينة للهيمنة وإنتاج الطاعة، إذ صُمِّمت بنيته لتكريس رؤية تُقدّس القوة الإمبريالية وتُسكت ما عداها. وقد تَحوّل بذلك المغرب إلى مختبرٍ مفتوحٍ لسياسات التصنيف والمراقبة والتشييء -على الأراضي كما على الأجساد- فالعقلانية التي نهبت الفوسفات ونظّمت العمل هي نفسها التي سعت إلى تأميم الرغبة وتدجينها باسم الحداثة.
في عشرينات القرن الماضي، صمّمت فرنسا حيَّ بوسبير على هامش الدار البيضاء كمنشأة مُسوَّرة لتدبير عمل الجنس. لم ينشأ الحيّ بصورة عضوية بل كان هندسة لوجستية للجسد الأنثوي تحت شعار "الصحة العامة" واقتصاد يخدم الجنود والسياح الأجانب. فُرِض على عاملات الجنس التسجيل القسري والخضوع للفحص الطبي المُنتظم، وتم تحميلهنّ ديون السكن ليجدن أنفسهنّ سجيناتٍ في الهواء الطلق. شُيِّدت مباني الحيّ في قالب أصالةٍ معماريةٍ مصطنعةٍ تُخاطب خيال المستعمِر عن الشرق المنقاد والنساء المُباحات. فكما صُوِّرت أراضي السكّان الأصليين كمساحاتٍ ليس لها مالك جاهزةٍ للاكتشاف والاستغلال، كذلك تحوّلت أجساد النساء إلى أراضٍ تُحتلّ وتُستثمر وتتناقلها البطاقات البريدية وكتب الرحلات كسلعة بصرية تُغذّي أرشيفًا استشراقيًا يستمر في إنتاج التشييء حتى اليوم.
أتاح التعقيد القضائي وتعدّد السلطات في المنطقة الدولية لطنجة (1923–1956) هامشًا واسعًا للمراوغة لكنه كان هامشًا مرسومًا ضمن حدود الامتياز الكولونيالي. فقد توافد الأوروبيون إلى المدينة بحثًا عن فضاء يمكن فيه اختبار الرغبة والفانتازيا دون مساءلة ليجدوا فيها مسرحًا يُجيز الرغبة ما دامت غريبة عن الجسد المحلي. صارت طنجة تُوصَف في الصحافة الغربية بأنها "عاصمة المثليين" وتوافد إليها كتّاب وفنانون مثل ويليام بوروز، بول بولز، جان جينيه، ترومان كابوت، ألن غينسبرغ، وجو أورتون (William Burroughs, Paul Bowles, Jean Genet, Truman Capote, Allen Ginsberg, Joe Orton). رأى هؤلاء في المدينة "ملاذًا" تحرريًا كويريًا لم يكن ممكنًا في أوطانهم آنذاك وفضاءً مناهضًا للهيمنة، لكنهم في الواقع أعادوا تدويرها بأشكال أخرى. فقد كانت علاقاتهم مع الشبان المغاربة مضبوطة بمنطق الاستعمار نفسه: لغة ومال وحدود. لم تكن الرغبة بريئة بل مُنظَّمة كما نظّمت التجارة والمناجم.
تعيد العديد من النصوص حول طنجة "التحرريّة" إنتاجَ خيالٍ يرى في العمل والشباب والفقر المغربي خلفيةً تُحاكي الهيمنة الاستعمارية حيث يُمحى الصوت المحلي ويُختزَل الوجود بصورةٍ قابلةٍ للتأويل والاستهلاك. هانس إيبيستين (Hanns Ebensten)، أحد أوائل منظّمي الجولات المثليّة، وثّق2 رحلته إلى طنجة بنظرة استهلاكية فجّة، واصفًا الفتيان المغاربة بـ "الجراء اللطيفة"، مبرزًا القواعد الاستعمارية للرغباتية التي تجعل الأوروبي هو "المستكشف" والمحلي هو "الأرض" التي تُكتشف وتُستَثمر.
في أعقاب الاستقلال الرمزي سنة 1956، فُتح في الدار البيضاء فصلٌ معقّدٌ من تاريخ الرعاية الصحية للعبور الجندري. ففي الوقت الذي فرضت فيه أوروبا قيودًا طبية وقانونية على النساء العابرات، فتح الطبيب الفرنسي جورج بورو (Georges Burou) منفذًا جديدًا في عيادته دو بارك (Clinique du Parc) في الدار البيضاء، طوّر فيه تقنيات جراحة المهبل فيما كان يُعرف آنذاك بعمليات "تغيير الجنس". وسرعان ما تحوّلت العيادة إلى وجهة عالمية تقصدها العابرات الغربيات، من بينهن شخصيات شهيرة، مثل كوكسينيل (Coccinelle) وأبريل آشلي (April Ashley)، اللتين وصلتا إلى العيادة بحثًا عن الإقرار بأنوثتهما، والحصول على الحقّ الذي حرمتهمنّ منه الأنظمة الطبية "المُعاصرة" في بلدانهنّ.
أجرى بورو أكثر من ثلاثة آلاف عملية جراحية حتى صار سائقو سيارات الأجرة في مطار الدار البيضاء يسألون النساء القادمات إلى المغرب: "إلى عيادة دو بارك؟". وفي الفيلم الوثائقي الهولندي "أنا امرأة الآن" الصادر سنة 2011، تستعيد خمس نساء عابرات تجربتهن مع العبور الجندري في مصحة بورو، من بينهن آشلي التي قالت: "قصتي بدأت من المغرب، وكانت الدار البيضاء محطة للنجاة". لكنّ هذه "النجاة" تكشف مفارقة استعمارية عميقة، فالمغرب أدّى دوره بعناية فائقة: مساحة عبور للغرب، لا لذاته. ظلّ الجسد الغربي يحتفي بعبوره فوق أرض لم يُعترف فيها بعدُ بالسيادة الفردية على الجسد والهوية. وهكذا استمرّ المنطق الكولونيالي في المغرب متوغّلًا في فضاءٍ يُمارَس فيه التحرّر، لا فضاء يُنتجه.
تاريخنا هنا والآن
لم يشكّل الاستقلال الرمزي سنة 1956 قطيعةً مع المنظومة الكولونيالية بل أعاد تشكيل السلطة داخل الإطار ذاته. فقد ورثت الدولة المغربية المعاصرة القوانين الاستعمارية التي صُمِّمت لضبط الحياة الحميمية وتنظيم الجندر. وبدلًا من تفكيك المنظومة القانونية والإدارية الفرنسية، جرى تمديدها بأسماء وطنية. فالقوانين الفرنسية التي قنّنت الجندر والرغبة والجنسانية وأقامت حدودًا فاصلة بين "المسموح" و"الممنوع"، استمرّت عقب الاستقلال ضمن المنظومة القانونية نفسها بوصفها معيارَ النظام العام ما بعد الاستعمار. لم تُكتب القوانين الحديثة من جديد إنما كانت إملاء أرشيفٍ كولونيالي نُسِخ كما هو. ومن هنا دخلت المادة 489 من القانون الجنائي حيّز التنفيذ سنة 1962 وما تزال -حتى اليوم- تُكرّس منطقًا يعتبر الجسد المحلي موضوعَ تهذيب. بهذا المعنى، لم يُرِد الاستعمار أن يترك وراءه جيوشه؛ فقد ترك أجهزته القانونية في عقول الإدارة والقضاء ليواصل عمله في صمت: الحميمية بوصفها حدًّا من حدود الوطن.
تكشف الشذرات القليلة من الأرشيف الكويري للمغرب أنّه ليس تجميعًا محايدًا للذاكرة الجماعية، بل ممارسة مقصودة للسلطة تُحدّد مَن يستحق أن يتذكره التاريخ وضمن أية سردية. لذا يظل "المغرب الاستعماري" خلفيةً في الروايات والأفلام الكلاسيكية الغربية وذاكرةً تحاكي الخيال الاستعماري. وما يغيب هو حكايات العيش اليومي للمجتمعات والأفراد الكوير في المغرب: الرعاية المتبادلة، الحميمية، القرابات البديلة، مساحات الملاذ، قصص المقاومة... وحينما تظهر هذه العوالم، فإنها غالبًا ما تُقدّم كأدلة جنائية أو مواد فضائحية، لا كتاريخٍ حيّ.
فمواجهة الاستعمار لا تعني استعادة الماضي فحسب، بل تفكيك حضوره المستمر في الحاضر، أي في المؤسسات واللغة والسرديات التي تُقصي وتُهمِّش.
يأتي في هذا السياق أرشيف "تاريخنا هنا" الذي تعمل عليه منصة تانيت بوصفه فعلًا سياسيًا ومعرفيًا يهدف إلى إعادة صياغة التاريخ الكويري-النسوي في المغرب وتحرير الذاكرة من الوصاية الاستعمارية والدولتية. يرتكز الأرشيف على استرجاع السيادة على الأرشيف والسردية: مَن يملك الذاكرة؟ ومَن يحقّ له أن يرويها؟ إنه أرشيف مجتمعي حيّ، تلتقي فيه الأصوات المعنية لتوثيق تجاربها وذاكرتها حول السياسة والقانون والفنون الشعبية والنضالات الكويرية وتعابير الحميمية والرعاية اليومية. لا يقدّم "تاريخنا هنا" الأرشيف كمجرّد حفظ للوقائع، بل كممارسة أخلاقية للتحرّر تُقِرّ بأن الموافقة عملية مرنة قابلة للسحب، وأن الإخفاء وحماية الهويات ليست رقابة بل أمانًا سياسيًا. واختيار ما يُكشف وما يُخفى ومَن يَصل إلى الأرشيف، هو فعل سيادة لا تقييد وممارسة تُقاوم منطق الكشف الذي يجعل من الأفراد موضوعًا للمراقبة.
في مسعى لإعادة توجيه البوصلة الأخلاقية والمعرفية بعيدًا عن مركزها الاستعماري، تصبح السيادة على التاريخ فعلًا من أفعال المقاومة ضد النسيان الممنهج وسلطة احتكار السردية. كما تُذكّرنا فاطمة المرنيسي3، فإن منطق الكاوبوي (Cowboy) يتمحور حول الرقابة والتسييج والغزو والسيطرة على الأرض، في حين يرى منطق السندباد في السفر واللقاء أفقًا للمعرفة والاكتشاف المتبادَل.
وحين نكتب تاريخنا، فإننا لا نعيد انتاج السردية بقدر ما نعيد رسم الخرائط من قوالب مُغلقة تسودها الهيمنة إلى مساحات مفتوحة تَعِدُ بالتلاقي لا الاستحواذ. ذلك هو أفق تخطّي الاستعمار، أن نجرؤ مثل السندباد على الإبحار من جديد نحو عوالم تتّسع للاختلاف وتحتفي بالاحتمال.
- 1
وبـ"جميع النساء" أقصد النساء السيس والكوير والعابرات جندريًا وغير المعياريّيات جندريًا ممّن تُفرض عليهمن هوية 'امرأة' من قبل الأنظمة السائدة.
- 2
Ebensten, Hanns, “The Seals on the Icepack and More Gay Travel Adventures,” Chapel Hill, NC: Professional Press, 1999.
- 3
اشتهرت فاطمة المرنيسي بهذه الاستعارة حول الكاوبوي والسندباد في نقاشاتها حول العولمة والعديد من مؤلّفاتها. وفي خطابها الشهير في أوسترياس ومداخلتها في معرض الكتاب في فرانكفورد طرحت فاطمة المرنيسي الموضوع تحت عنوان "السندباد البحار أم الكاوبوي القناص: مَن الفائز في العولمة؟"
إضافة تعليق جديد