اجتمع كل من "صوت النسوة" و"مشروع الألف"، في محاولة لتجسيد تأملات وتجارب شخصية عن الصحة النفسية والمرض النفسي، علما ان هذه التأملات غالبا ما تحدث خلف أبواب مغلقة، وغالبا ما يتم قمعها لصالح الاتجاهات العامة.
نقلا عن صوت النسوة ومشروع الألف
يشكّل هذا العدد جزءا صغيرا من سنوات عديدة أجرينا فيها محادثات خاصة وعامة مع اخصائيين في الصحة النفسية ، أطباء نفسيين، مع أصدقائنا، أفراد من عائلتنا، وأشخاص صادفناهم. إلاّ أن الأهم مما سبق ذكره هو بحثنا المستمر عن أجوبة حول المرض والصحة النفسية (التي غالبا ما تفسّر بشكل خاطئ) في مختلف المنشورات التي وجدناها. من هنا، اجتمع كل من "صوت النسوة" و"مشروع الألف"، في محاولة لتجسيد تأملات وتجارب شخصية عن الصحة النفسية والمرض النفسي، علما ان هذه التأملات غالبا ما تحدث خلف أبواب مغلقة، وغالبا ما يتم قمعها لصالح الاتجاهات العامة.
"مشروع الألف" و"صوت النسوة" هما مجموعتان في بيروت تعملان على إنتاج المعرفة النسوية. كما تعملان على استعادة القصص والممارسات المتعلقة بحياتنا وأجسادنا من البنية الأبوية، ويشمل ذلك نقد النظام الطبي الذي لديه تأثير كبير على هذه المواضيع. وقد تعاوننا في هذا العدد مع أفراد مستقلين، ساهموا في محادثاتنا و اجتماعاتنا العامة. ونذكر منهن على وجه الخصوص سينتيا كريشاتي، التي دعمت هذه المبادرة منذ بدايتها، واضافت وجهة نظر جديدة الى نقدنا للطب النفسي، وهو الاقتصاد السياسي للصحة النفسية.
لقد أولينا اهتماما خاصا بالصحة النفسية، في وقت تتزايد الأحاديث في لبنان حول هذا الموضوع. ومع ذلك، قلّما يتطرق الناس العاديون (الذين ليسوا علماء ولا أطباء نفسيين ) الى هذا الموضوع في المجال العام. يشكّل عددنا هذا، منصة للأشخاص الذين يعانون من مرض نفسي باستمرار، سواء من خلال تجربة عايشوها، شهدوا عليها، أو كمفهوم يبحثون فيه نظرياً وسياسياً. لذا، أردنا أن نفكر سوياً عما يعنيه الحديث عن أجسادنا ومعاناتنا بعيداً عن نظام الطب النفسي. كما أردنا أن نفكر بكيفية استعادة أصواتنا كنساء وعاملات أجنبيات وأشخاص غير معياريين ومرضى.
يعود تاريخ الطب النفسي في لبنان الى القرن التاسع عشر كمؤسسة قديمة تتميز بممارسات وطرق تشخيصية وعلاجية محددة. يحتكر الطب النفسي في بلدنا الانتاج المعرفي حول الصحة العقلية (من خلال اجراء البحوث والمؤتمرات و حملات المناصرة، إلخ)، كما يحتكر الطرق العلاجية لشفاء المرضى ( خاصة من خلال الترويج للعلاج الطبي من خلال الأدوية). بالكاد يترك هذا الاحتكار مساحة صغيرة للنقد، فارضاً نفسه باستمرار. ويكمن هنا تضارب في المصالح حيث انّ الطب النفسي هو الذي يعرّف المشكلة من جهة ومن ثم يعيّن نفسه كالحل الوحيد لها من جهة اخرى.
ومن هنا تأتي أهمية النقد النسوي.
التطرّق إلى مفهوم الصحة النفسية من منظور طبي خالي من اي تحليل سياسي لا يبدو كافياً
إنّ النظرة النسوية للمرض النفسي تكشف بأنه (المرض النفسي) لطالما كان مفهوما متحولا مع تغيّر المجتمعات وقيمها.. ففي حين انّ بعض الأعراض قد تشير الى اضطراب نفسي، يمكن ان يعاد النظر إليها في وقت لاحق والملاحظة بأنها ليست سوى تصرّفات طبيعية جداً. أما المثال الكلاسيكي على ذلك، فهو المثلية الجنسية التي كانت تعتبر غير صحية وغير مناسبة، على أقل تقدير. إلا ان إعادة تأطير النظرة حول المثلية جعلتها تصبح توجها جنسيا لا معنى طبيّ او مرضي له، على الأقل في مجال الطب النفسي. إنّ إدراج المثلية في الدليل التشخيصي والإحصائي، لم يكن بسبب الطب، وإنما السياسة. وبطبيعة الحال، ما يسمح بإزالة المثلية الجنسية من الدليل التشخيصي والإحصائي هو السياسة وليس الطب. لذلك، فإن التطرّق إلى مفهوم الصحة النفسية من منظور طبي خالي من اي تحليل سياسي لا يبدو كافياً.
انّ النقد النسوي هو إحدى أشكال المعرفة التي توفّر لنا وسيلة لرؤية الأشياء من منظار اخر. في حين يحصر الطب النفسي تعريف معاناة الناس بالمصطلحات الطبية فقط، فإنه بذلك يختصر تلك المعاناة من خلال الدليل الإحصائي التشخيصي، ويختزل علاجها عبر الأدوية الطبية المؤثرة على الذهن. من ناحية أخرى، بإمكان النقد النسوي أن يوفر فهماً بديلاً للمعاناة والشفاء. كما بامكانه تقديم طرح جديد يمكن من خلاله رؤية ديناميكيات القوة في العلاقة العلاجية، محددا بذلك الطرق المنهجية التي يتم فيها تشخيص وعلاج الجنس، النساء، العرق، والمجتمعات المهمّشة في لبنان.
ولدى النسوية قدرة على اظهار الاتجاهات والطرق المنهجية التي تنتج من يُعتبر طبيعياً ومن يُنظر إليه على أنه مريض من قبل الطب النفسي في سياقات وأزمنة مختلفة، دون ان ننسى ان ذلك يتم وسط نظم اقتصادية متنوعة. لقد ركّزت بعض الانتقادات النسوية على أمثلة عديدة، منها التشخيصات النفسية لربات المنازل في الخمسينات (Metzel 2004) أو المتظاهرين السود في الولايات المتحدة في السبعينات(Metzl 2009)، الذين شخّصوا بالاكتئاب والفصام. في السياق عينه، لا بد من بذل المزيد من الجهود لتوثيق ممارسات الطب النفسي المماثلة في لبنان والمنطقة. فكما نعلم من خلال التجارب التي عايشناها، فإن الفئات المهمشة هي الأكثر عرضة للتشخيص بتلك الأمراض. من الأمثلة التي انتشرت إلى العلن مثلا، قصة الكاتبة اللبنانية -الفلسطينية الشهيرة مي زيادة، التي أبقيت في مستشفى العصفورية في مطلع القرن العشرين، بناء على طلب أخيها. كما نعلم بقصص العديد من الأشخاص الذين شخّصوا أو عولجوا قسرياً، فقط لأن جنسهم أو عرقهم أو جندرهم يعتبر مغايراً لما هو مألوف.
كما يظهر من خلال الأمثلة، فإن النظرة النسوية تبيّن أن هذه الاتجاهات لم تتم نتيجة للممارسات الفردية في الطب النفسي (او القول مثلا انّ المشكلة ناتجة عن انّ بعض الأطباء النفسيين هم عنصريون أو يفرقون وفقا للجنس). على العكس، فانّ تلك الاتجاهات ناجمة عن نظام استشفائي بنوي يحدّد ما هو مرضي. كما ان تعريفات الطب النفسي للمرض تعتمد إلى حد كبير على كيفية فهم المجتمع وبعض النظم الاقتصادية لما هو طبيعي، وما يعتبرونه تهديدا للبنية الاجتماعية والاقتصادية الراهنة.
في إمكان النقد النسوي ان يوفّر الصوت للمرضى
لا بد من التطرّق لنقطة هامة هنا، وهي مشكلة قدرة الفعل والاختيار او agency لدى المريض النفسي. فحين يُنظر إلى شخص ما على أنه مريض/ة نفسي/ة، يبدو كأنه لا سبيل له/لها للخروج من تلك النظرة. فلو أصبحت مريضا ورفضتَ التشخيص الطبي، فإنك قد تُتهم بأنك "في حالة إنكار". وقد يؤدي ذلك إلى تشخيصك بأمراض أخرى قد تكون مرتبطة بـ"اضطرابات في شخصيتك". وإن لم ينفع العلاج، ستُتهم بأنك "تقاوم العلاج"، وكل ذلك قد يساهم في غرقك أكثر فأكثر في النظام الطبي النفسي، الذي يشمل عدد كبير من الأدوية، وقد لا تخرج بتاتا من ذلك الدوامة. إن فقدان القدرة على الفعل والاختيار والقول او agency لدى الفرد هي أزمة شديدة. كل عواطفك، تعابيرك، وطرقك في العيش تصبح تحت المراقبة. مهما قلت، يظل الطبيب النفسي على دراية أكثر منك، حتى ولو عاينك لمدة لخمس دقائق فقط واستمع لملخص عن حياتك. وهنا لا بدّ من تأكيد وجهة نظرنا، بأن خسارة القدرة الفردية تتضاعف كلما تنافى الجنس، العرق، والجندر مع ما هو مألوف. في إمكان النقد النسوي ان يوفّر الصوت للمرضى، علما انه أمر قد تم إهماله وتجاهله في الطب النفسي.
لقد استجاب لدعوتنا العديد من الأشخاص المهتمين بمجالات مختلفة من الصحة النفسي وقد ساهموا بمقالات مختلفة عن الموضوع. يدعوكم/ن المساهمون/ات في هذا العدد إلى تحدّي وجهة النظر الطبية للصحة النفسية ودور الطب في معالجتها، والتفكير في مسألة التشخيص الجنساني والعرقي والسياسي. فمن شأن ذلك ان يعيد النظر في التاريخ والاقتصاد السياسي للصحة النفسية في لبنان، إضافة إلى السياسات والاستراتيجيات الوطنية المتعلقة بواقع الأفراد المعنيين بالصحة النفسية بدلاً من ربطه بسياقات دولية.
ارتأينا ان نحافظ على لغة، أسلوب، ونهج كل مساهم/ة، حيث يعكس هذا التنوّع وجهات النظر المختلفة التي يمكن لأي كان التفاعل من خلالها حول هذا الموضوع، آخذين في عين الاعتبار أن هذا يشكّل تناقضاً صارخاً مع الرواية الطبية الرتيبة التي تفتقد الفروقات الدقيقة للخبرات البشرية.
نأمل ان يساهم هذا العدد في إطلاق نقاشاً عاماً نحن في حاجة ماسة إليه حول هذه القضية. كما نأمل ان يشرّع الباب أمام المشاركة النسوية مع الطب النفسي في لبنان والمنطقة. دعونا ننطلق في نقاش نحن في أمس الحاجة إليه.
إضافة تعليق جديد