كيف تتعامل النساء مع "الهبّات الساخنة" لانقطاع الطمث؟

إن انقطاع الطمث هو حقيقةٌ بيولوجيةٌ طبيعيةٌ تختبرها النساء جميعًا، ويؤدّي - كما هو معروف - إلى انتهاء سنوات الخصوبة وبالتالي قدرة المرأة على الإنجاب. وقد يحصل انقطاع الطمث بشكلٍ متقطّع، إلا أنه يتأكد عندما تنقطع الدورة الشهرية لمدة 12 شهرًا على التوالي. 

هذا ما يمكن استخلاصه من الكتب التي تتناول انقطاع الطمث الذي يترافق مع مجموعةٍ من الأعراض الجانبية، منها هبّات الحرارة، والتقلّب المزاجي وجفاف المهبل. قد يُخيّل لنا عند القراءة عن هذه الأعراض الجانبية أنها طفيفة، مثل وجع المعدة الذي يسبّبه تناول المضادات الحيوية. لكنّ ما ترويه النساء عن تجاربهنّ مع انقطاع الطمث وعوارضه يعكس معاناةً حقيقيةً لا تبرز في الكتب، ولا تورثها النساء بعضهنّ لبعض. وربّما أبرز تلك العوارض وأكثرها شيوعًا هي الهبّات الساخنة، المعروفة أيضًا باسم هبّات الحرارة، وهي إحساسٌ مفاجئ بالدفء يعمّ جميع أنحاء الجسم وتتراوح حدّته من خفيفٍ إلى شديد.

لماذا تحدث الهبّات الساخنة؟

تنتج الهبّات الساخنة عن التغيّرات في تنظيم درجة حرارة الجسم في أثناء انقطاع الطمث. وتحدث عندما تتلقّى منطقة تحت المهاد - وهي منطقةٌ في الدماغ تتحكّم بدرجة حرارة الجسم - إشاراتٍ مُتضاربةً  لانخفاض مستويات هرمون الإستروجين، فترسل أوامر عصبيةً إلى الأوعية الدموية لتتمدّد، ما يتسبّب في احمرار الجلد وتسارع دقّات القلب في محاولةٍ لتبريد الجسم. ويؤدي هذا بدوره إلى ارتفاع حرارة الجسم، وإن لم تتغيّر درجة الحرارة الأساسية. تستمرّ الهبّات الساخنة عادةً بين 30 ثانيةٍ و10 دقائق، وتترافق مع إحساسٍ بالحرارة المرتفعة، وقد تسبّب التعرّق، والقشعريرة، والارتعاش، والقلق والتعب. بالنسبة لبعض النساء، يمثّل التعرّق الليلي أو الهبّات الساخنة التي تعيق النوم مشكلةً خاصة.

كيف تتأثّر النساء بالهبّات الساخنة؟

بحكم دراستي الطبّ، قرأتُ عن الهبّات الساخنة (Hot flashes) مئات المرّات، لكني لم أتخيّلها أو أتصوّر صعوبتها إلّا بعدما عانت منها أمي. لا يقتصر تأثير الهبّات على ارتفاع درجة حرارة الجسم فحسب، بل تشكو النساء أيضًا تأثيرها في جوانب عدّةٍ في حيواتهن. بالنسبة لأمّي، طالت الهبّات سلامتها النفسية، وتفاعلاتها الاجتماعية وجودة نومها.  

لا يعاني كلّ النساء من جميع الأعراض المرتبطة بانقطاع الطمث، كما أنّ شدّة الأعراض والهبّات تتباين بين امرأةٍ وأخرى. 

قد يعاني بعض النساء نوبات هلعٍ أو قلقٍ بسبب طبيعة الهبّات الساخنة التي لا يمكن التنبؤ بها، وقد يسبّب الاضطراب المستمر في النوم زيادةً في الشعور بالإرهاق أثناء النهار. أيضًا، تؤثر الهبّات سلبًا في الصحة النفسية للنساء، وقد تؤدّي إلى التهيّج، وتقلّب المزاج والاكتئاب.

أما اجتماعيًا، فيمكن أن تكون الهبّات الساخنة محرجةً عندما تحدث في الأماكن العامة. وبالفعل، يحكي العديد من النساء عن شعورهنّ بالخجل أو فقدان السيطرة على أجسامهن نتيجتها. ويمكن لأعراض الهبّات الساخنة أن تقلّل من شعور المرأة بالثقة وأن تتطفّل على علاقاتها وأنشطتها.

كيف نتحدّث عن الهبّات؟

نظرًا للطبيعة الشخصية للهبّات الساخنة واختلاف شدّة أعراضها من شخصٍ لآخر، قد يكون صعبًا علينا كنساءٍ مناقشة تجاربنا معها، لاسيّما ونحن نعيش في مجتمعٍ يسخر من آلام الدورة الشهرية ويُشعوِذ الحالة المزاجية التي قد نختبرها في أثنائها. 

اشتكَت لي أمي من الهبّات بشكلٍ متكرّرٍ طلبًا للحلّ، كما شكَت للمقرّبات منها ولطبيبات النساء والتوليد. كانت الهبّات الساخنة تعيقها عن العمل والحياة، إذ كانت تباغتها وسط اندماجها بالعمل أو في خلال النوم أو تناول الطعام، فيتعطّل انسياب حياتها لفترةٍ حتى تنقضي الموجة وينخفض إحساسها بسخونة جسمها.

انقسم الجميع حول التعامل مع شكوى أمي. ما فعلتُه أنا كان أن نصحتها بتناول حبوب منع الحمل بعد استشارة طبيب النساء والتوليد، والانتظام في ممارسة الرياضة. كما بحثتُ على الإنترنت عن مجموعة دعمٍ للسيّدات في فترة انقطاع الطمث وطلبتُ منها الانضمام إليها. أمّا الآخرون، فحذّروها من حبوب منع الحمل خوفًا من السرطان، بالطبع هناك علاقة بين حبوب منع الحمل والسرطان، فهرمون الإستروجين الموجود في حبوب منع الحمل قد يسبب حدوث سرطان في الثدي لكن هناك معايير لوصفه وأمي تنطبق عليها تلك المعايير، في حين انقسم الأطباء أيضًا حول العلاج المناسب. مع ذلك، ظلّت أمي تعاني من دون أن تدري ماذا يجب عليها أن تفعل. أخبرها بعض الأطباء بضرورة الابتعاد عن حبوب منع الحمل، بينما نصحها البعض الآخر بضرورة تناولها

كما ذكرتُ في البداية، سبب الهبّات الساخنة يعود إلى كيفية استجابة الجسم لنقص هرمون الإستروجين. وغالبًا ما يكون العلاج عن طريق تناول حبوب الإستروجين، التي هي بذاتها حبوب منع الحمل.

نساءٌ يروين قصصهنّ

كما قد تروي نساءٌ كثيراتٌ مررن بمرحلة انقطاع الطمث، الهبّات الساخنة هي أكثر من مجرّد إحساس مؤقتٍ بالدفء؛ فهي باستطاعتها أن تعطّل الحياة اليومية، وتضرّ بالثقة، وتؤدّي إلى توتر العلاقات مع الآخرين. وعلى الرغم من أن الهبّات الساخنة لا تهدد الحياة، إلا أنّ عدم القدرة على التنبؤ بها، وتأثيرها على النوم، يجعلان التعامل معها على المستويَين الشخصي والاجتماعي أمرًا بالغ الصعوبة.

تتذكّر سارة (اسم مستعار، 52 عامًا) أن الهبّات الساخنة بدأَت تصيبها فجأةً عندما بلغَت سنّ الخمسين. وتقول: «كنتُ جالسةً في مكتبي، وشعرتُ فجأةً بدفءٍ شديدٍ في جسمي. احمرّ وجهي وبدأتُ أتعرّق بغزارة. كان موقفًا محرجًا». وتتابع: «لم أفهم في البداية ما الذي يحدث، حتى أخبرَني طبيبي النفسي أن السبب هو انقطاع الطمث. كنت أتوجّه إلى الحمام بمجرّد شعوري بها، إذ لم أُرد أن يعتقد زملاء العمل أني مريضة. ولكن مع تفاقمها، تعطّل نومي وتركيزي في العمل، وأدركتُ أني بحاجةٍ إلى المساعدة. بعدها، شاركتُ صديقاتي المقرّبات اللواتي مرَرن أيضًا بفترة انقطاع الطمث، ونصحنَني بضرورة زيارة طبيب النساء والتوليد. أدركتُ حينها أنه لا يجب الخجل من الهبّات الساخنة. ومع دعم الصديقات والطبيب وتغيير نمط حياتي، أصبحَت الهبّات الساخنة أقل حدًّة مع مرور الوقت».

أمّا مروة (اسم مستعار، 45 عامًا)، فكانت تعاني من تعرّقٍ ليلي شديدٍ كان يُغرق فراشها. تقول: «كان الاستيقاظ المستمرّ وأنا غارقةً في العرق ينعكس عليّ إرهاقًا في خلال النهار. أثّرت قلّة النوم سلبًا على مزاجي وعلاقتي بزوجي». في البداية، كانت مروة محرجةً جدًا من مناقشة عوارضها مع أيٍّ كان. لكن بتشجيعٍ من أختها، شاركَت التفاصيل مع طبيبها. وبعد استبعاد الأسباب الأخرى، وصف طبيبها النفسي جرعةً منخفضةً من مضادات الاكتئاب التي تستهدف الهبّات الساخنة على وجه التحديد. وفي غضون أسابيع، تحسّن التعرّق اللّيلي لديها بشكلٍ كبير، ما سمح لها أخيرًا باسترجاع النوم المريح.

بالنسبة لِمها (اسم مستعار، 37 عامًا)، لم تكن الهبّات الساخنة هي التحدّي الأكبر الذي يواجهها، بل إيجاد الشجاعة للحديث عنها. باعتبارها شابة، تُعدّ حالة مها نادرة. شعرَت مها أنها أصغر من أن تعاني أعراض انقطاع الطمث. تقول: «لم أكن أريد أن يظنّ أحدٌ أنني كبيرةٌ في السّن، لذلك حاولتُ إخفاء الهبّات الساخنة التي أصابتني. لكنها كانت تؤثر حقًا على حياتي». وبعد نوبة هبّاتٍ ساخنةٍ حادّةٍ في خلال اجتماع عملٍ مهم، أدركَت مها أنها بحاجةٍ إلى الدعم، ففاتحَت أولًا الصديقات المقرّبات. وبتشجيعٍ منهنّ، تحدثَت عن الأمر بصراحةٍ مع الطبيب النسائي. هكذا، بدآ معًا بإدخال تعديلاتٍ على نمط حياة مها، بالإضافة إلى العلاج الهرموني عن طريق أدوية منع الحمل التي لم تناسب مها، فكانت الرياضة والمكمّلات الغذائية الحلّ المناسب لتخفيف حدّة الهبّات. 

صعوبة التعايش مع الهبّات الساخنة. ما الحلّ؟

تسلّط قصص هؤلاء النساء الضوء على صعوبة التعايش مع الهبّات الساخنة وأهمية التواصل لإدارة عوارضها. وفي حين تظلّ الهبّات الساخنة موضوعًا محظورًا بالنسبة للبعض، فإنّ تطبيع مناقشتها هو أمرٌ أساسي. 

يساعد التحدّث مع المقرّبات ممّن يفهمن طبيعة الهبّات، وكذلك الأطباء والطبيبات، على التخفيف من مشاعر العزلة وتمكين النساء من استكشاف مختلف الخيارات العلاجية. بالنسبة لكلٍّ من سارة ومروة ومها، فإنّ مجرد مشاركة تجاربهنّ مع الأخريات اللواتي استمعن إليهنّ من دون إصدار أحكامٍ أحدث فرقًا كبيرًا. ومن خلال الدعم، وإدخال تعديلاتٍ على نمط الحياة وتناول الأدوية الموصوفة في بعض الحالات، يمكن للنساء التقليل من وتيرة الهبّات الساخنة وشدّتها بشكلٍ فعّال، واستعادة جودة حياتهنّ في خلال هذه الفترة الانتقالية. ومع تزايد الوعي بانقطاع الطمث، يشعر المزيد من النساء بالقدرة على مناقشة ما كان يُعتبر في السابق سرًا خاصًا يجب عليهنّ حمّله بمفردهنّ.

تقول مي الرفاعي، طبيبة أمراض النساء والتوليد في مستشفى الجلاء التعليمي في القاهرة، إنّ «التعديل في نمط الحياة واعتماد العلاجات الطبيعية يوفّران الراحة في حالات الهبّات الساخنة الخفيفة والمتوسطة. ويتضمّن ذلك ارتداء طبقاتٍ من الملابس، وإبقاء الجسم جيّد الترطيب، وتجنّب المحفّزات مثل الأطعمة الغنية بالتوابل، مع الحدّ من تناول الكافيين والكحول وممارسة تقنيات الاسترخاء. كما ثبت أن المكمّلات العشبية مثل الكوهوش الأسود والبرسيم الأحمر تُساعِد أيضًا». أما بالنسبة للهبّات الساخنة الشديدة والمزعجة، فيوصى عادةً بـ«استخدام مضادات الاكتئاب بجرعاتٍ منخفضةٍ بعد مراجعة الطبيب/ة المختص/ة، بالإضافة إلى العلاج الهرموني القائم على هرمون الإستروجين، وهي خياراتٌ فعالةٌ للغاية». 

في حين لا يوجد حلٌّ واحدٌ يناسب جميع النساء، ثمّة خياراتٌ علاجيةٌ مختلفةٌ تمكّنهنّ من العثور على ما يناسب تجربتهنّ الفردية. بشكلٍ عام، المفتاح هو التواصل الشفّاف والمفتوح مع الأطباء والطبيبات لوضع خطة علاجٍ فرديّةٍ وملائمةٍ لإدارة عوارض الهبّات الساخنة في أثناء انقطاع الطمث.

لا يمكن منع الهبّات الساخنة المرتبطة بانقطاع الطمث، لكن يمكن التقليل من تأثيرها من خلال التواصل الفعّال واستراتيجيات الإدارة المصمّمة خصيصًا لكلّ حالةٍ على حدة.